قد تزر وازرة وزر أخرى
في السنة الأولى من دراسة الحقوق، يدرس الطلبة -الذين كنت يوماً ما منهم- مبادئ فطرية دستورية أولية في القانون تصبح بعد ذلك من مكونات الفطرة والحس القانوني لطلبة الحقوق بحيث يوكز ضمائرهم أي نص أو ممارسة تتعارض مع أحد تلكم المبادئ دون حاجة إلى القيام بتحليل أو تأصيل قانوني أو قراءة أي مرجع يذكر. من بين تلك المبادئ مبدأ "شخصية العقوبة" الذي تنص عليه معظم دساتير العالم بوصفه من ركائز العدالة الجنائية التي لا يقوم لها أود بدونه.
مبدأ شخصية العقوبة يعبر عن رقي التعاطي الإنساني مع فكرة الردع والجزاء بحيث تنصب العقوبة على شخص مرتكب الفعل سواءً كان فرداً أو مجموعةً وسواءً كان فاعلاً أصلياً أو شريكاً في ارتكاب الفعل، وإذا كان شريكاً فإنه يعاقب لكون اشتراكه في الجرم يعد بذاته جريمة أيّاً كان شكل ذلك الاشتراك (تحريض، مساعدة). شخصية العقوبة إذن تعني أن لا يؤخذ بجريرة المجرم أناس أبرياء حتى لو كانت تربطهم بالجاني صلة قرابة أو انتماء أثني أو عرقي أو ديني.
يحفظ كبارنا وصغارنا الآية التي تقول: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ويرددونها بمناسبة وبغير مناسبة، ففي مجالس المصالحة و"العطوات" بل وفي الإصلاح بين أسرتين أو فردين ترى "حكماء المجالس" يقدحون خطبةً طويلةً تتخللها هذه الآية مرات عديدة، ولا يجد المغرمون بترديد الآية غضاضةً في أن يختتموا مساعيهم "الحميدة" للصلح بالقول: "الله يلعن اليهود... إحنا مسلمين يا جماعة... شو تركنا لليهود والكفار..."، وفي غمرة همهمات التأمين والاستحسان بين الحضور "صحيح.... آه والله.... فعلا..." يبدو بمثابة انتحار أن يقوم شخص "فاضي أشغال مثلي" ويقول: "يا جماعة لا يجوز التعميم وتحقير الآخرين بالجملة لأن الرسول كما تقولون تعامل مع اليهود وتزوج واستدان منهم واستجار بالكفار وتوفي عمه كافرا وأحل لكم الزواج باليهوديات والإنجاب منهن...."! فالمقام ليس مقام "فصحنة" ولا "فزلكة" من وجهة نظر الجالسين بل هو مقام مصالحة شيفونية انفصامية لا تعلي من قيم التسامح بقدر ما تغذي قيم الكراهية ضد الآخر وتُقنِع أطراف الجلسة بأنه يجب عليهم "التكاتف" و "نبذ الخلاف" لأنهم "أسمى" و "أعلى" من أصحاب الملل الأخرى وليس لأنه ينبغي إعلاء قيم المحبة والصفح والمسامحة.
لم يدهشنِ يوماً نقل شاشات التلفزة لأدعية القنوت بل "القنوط" في صلوات القيام حيث الأئمة يسوقون خلفهم المصلين بتأمين على دعاء لا يعي كثير منهم معناه ولا يلتفت إلى مغزاه حتى يأتي الإمام على سجعه البغيض ويقول: "اللهمّ عليك باليهود ومن هاودهم، وعليك بالنصارى ومن ناصرهم، وعليك بالشيوعيين ومن شايعهم، وبالعلمانيين ومن علّمهم وتعلّم منهم"! لتجد حينها الحناجر وقد شُدَت أحبالها والأصوات وقد على هديرها حتى أن الأمر يصل بالبعض إلى درجة من "الدروشة" فيبدأ بالبكاء والعويل وأمام ناظريه يتحرك "شبح" الآخر الذي هو عدو "يريد كشف عورة ابنته وزوجته وهدم مسجده وارتكاب الموبقات في طرقات بلدته..."، ليستيقذ على إثر ذلك في نفسه وحش الكراهية وإقصاء ذلك الآخر بكل وسيلة حتى وإن كانت القتل، نعم فالدعاء بالموت على الآخر واليتم لأطفاله والترمّل لنسائه؛ ما هو إلا "قتل بالتمني".
كيف يمكن لطفل اصطحبه أبوه إلى المسجد وحرضه على أن يقول "آمين" بصوت مرتفع وحماسي على كلمات من نار وبغضاء تقصي الآخر وتشيطنه على أساس ملّته ومعتقده؛ أن ينشأ محباً للحياة متسامحاً مع الآخرين ومتصالحاً مع نفسه؟ أنّى لأهل بيت أن يُخرِجوا للمجتمع أفراداً دينهم المحبة ومعتقدهم التسامح وهم إذا انكسر عندهم طبق أو ضاعت فردة حذاء يقولون: "الله يلعن اليهود... يخرب بيت الكفار... يلعن أبو اللي بيزعلك..."!.
شَرعَة "العين بالعين والسن بالسن" تلعب دوراً رئيسياً في تكريس هذا النهج الحياتي الذي يعاقب الكل بجريرة الفرد، إذ أن الجواب الحاضر على كل محاولة لتهذيب هذه السلوكيات التعميمية المقولبة هو: "هم أيضاً بيكرهونا لأننا مسلمين وعرب"، هذا من وجهة نظري بدوره يمثل انحداراً أخلاقياً يجعل المسلك الشاذ والخاطئ مشروعاً وصحيحاً لمجرد أن الآخر يرتكبه، وكأننا نعطي ذلك الآخر مرتبةً عليا بجعله المحرك والمُشَكِل الفعلي لمنظومة القيم التي تحكم تصرفاتنا، مع أننا نبغضه ونكرهه! بعبارة أخرى، إننا نرتكب ما نصنّفه على أنه "جريمة" أو "نقيصة" أو "عدم تحضر" لأننا نعتقد أن الآخر يمارسه ضدنا، مع فارق بسيط أننا أمة التعميم فنقوم بتوسيع نطاق ما نرتكبه ونستشعره اتجاه الآخر ليشمل أمماً وشعوب بمللها ونحلها.
أتخمنا المحللون والمنظّرون المسلمون والعرب منذ اعتداءات 11 سبتمبر وما أعقبها من جرائم إرهابية متسلسلة في كل مكان؛ بترديد انتقاداتهم الصارخة لبعض وسائل الإعلام في أروبا وأمريكا لما تقوم به من تعميم بجعل القاعدة وما تفرع عنها نموذجا عاما يجسد الإسلام والمسلمين، فمن مقولة: "هؤلاء متطرفون يمثلون أنفسهم فقط" إلى ادعاء: "هؤلاء لا يمثلون الإسلام الصحيح" إلى لئمة: "الغرب يعممون ويحكمون على مليار مسلم من خلال بضع ألوف"؛ تظل حالة الانفصام الأخلاقي سيدة الموقف، إذ أن هؤلاء أنفسهم وربما في الجلسة أو المقابلة ذاتها يعبرون عن غريزة التعميم الكامنة في نفوسهم بتحقير "اليهود" بالجملة أو تكفير "اللبراليين والعلمانيين" بالجملة أو حتى بمجرد اتهام "الغرب" و "أمريكا" دون تحديد بأنهم يعتبرون المسلمين جميعهم إرهابيين. يجب الاعتراف أننا نحتاج لكثير من الوقت والجهد لنصل إلى ما وصل إليه غيرنا، فدعوات عدم التعميم وجعل العقوبة شخصية بعد كل جريمة ترتكبها جماعة مسلمة في أروبا أو أمريكا؛ تأتي من الأروبيين والأمريكان أنفسهم الذين يخرجون في مظاهرات تطالب بالوحدة وعدم التمييز ضد المسلمين، بينما تخرج مظاهراتنا رافعةً شعارات: "الموت للجميع والذبح للجميع، ولنا الجنة والخلود وهم للنار حطبٌ ووقود".
لست متأكداً إن كانت الآية "ولا تزر وازرة وزر أخرى" قد نزلت حينما قتل المسلمون كل من "نبت شعر عانته" من ذكور بني قريظة وسبي نسائهم بمن فيهن صفية بنت حيي بن أخطب، أو حينما تم نفيبني قينقاع وبني النظير من جزيرة العرب التي سكنوها قبل ظهور الإسلام بقرون، أو حينما كانت تسبى نساء البلدان والأمصار التي كان يتم مهاجمتها واحتلالها وإرغام أهلها على ترك دينهم أو إستبدال اعتناق الإسلام عنوةً بالمال؟.