قبل أن يملك "الجوكر" الشارع العربي!
من الطريف أن يحاول شطرٌ من الإعلام العربي إلقاء التهمة على "فيلم الجوكر" لإدانة الاحتجاجات والمظاهرات التي عمّت العديد من الشوارع العربية، بوصف الفيلم "رسالة مشفّرة" لقلب الأوضاع في هذه البلاد، والزجّ بها في آتون الفوضى، وهي الحجّة ذاتها التي استُخدمت – لاحقاً- لصبغ الربيع العربي بطابع المؤامرة الخارجية، وتشويهه عبر نخبة من المثقفين والإعلاميين المرتبطين بماكينات سياسية اختلفت على الموقف في كل شيء تقريباً، لكنّها اتفقت على "شيطنة" حلم الشعوب بالحرية والديمقراطية!
وبدا واضحاً أنّ فيلم الجوكر لقي صدىً كبيراً وتفاعلاً لم يحزه- في حدود ما نراه- أي فيلم آخر، فنجد أنّ حضور "شخصية الجوكر" بصورة فعلية في مسيرات لبنان، من خلال تقمصه عبر بعض المتظاهرين، أو الكترونياً في العراق، عبر مصمّم أقحمه في قلب المظاهرات، في رسالة رمزية، وكذلك الأمر اقتباسه مصرياً وتونسياً ومغاربياً بصيغ متعددة، واستبدال نسبة كبيرة للناشطين والشباب العرب صورهم على صفحاتهم الشخصية بالجوكر.
هذا الحضور، وإن كان إلى الآن رمزياً لفيلم الجوكر في الاحتجاجات العربية (بمعنى أنّ المظاهرات والمسيرات لم تتلون بقناع الجوكر جماهيرياً كما حدث في الفيلم المذكور)، أخذ طابعاً جدلياً، فإذا تجاوزنا الإعلام الذي شطح ليراه ترجمة لمؤامرة خارجية ويذهب إلى أنّ التوقيت مقصود لعرضه! فإنّ السؤال المهم هو: ما هي الرسالة الحقيقية أو الدلالة التي يمكن بالفعل أن نستنبطها من حضور الجوكر المتعدد، والمتنوع، والجدل الذي أثاره في "الشارع العربي"، بخاصة الاحتجاجي منه؟! بمعنى لماذا تمّ اختيار شخصية الجوكر؟! وما الأثر الذي أحدثه الفيلم في صدور مجموعات من النشطاء العرب ليستحضروا هذه الشخصية ويرمزونها في الاحتجاجات الراهنة؟!
الرسالة مستنبطة في جزء منها من الفيلم نفسه، الذي جاء كأنّه مخصصٌ ليحاكي حجم حالة الإحباط والكآبة والضغوط التي تتعرّض لها المجتمعات والشعوب العربية اليوم، فإشارات الفيلم إلى التحالف بين السلطة والمال والإعلام، أو انسداد الأفق السياسي (وفقدان الثقة بالنخب السياسية والمعارضة الموجودة)، أو الطبقات المطحونة تحت وطأة السياسات النيوليبرالية الجديدة، أو التنمر من قبل القوي على الضعيف (السلطة على الشعب)،.. كل ذلك حاضر بقوة في الواقع العربي اليوم، وهو وجه التشابه الذي قد تحاول تشبيكه اليوم نخبة من المثقفين والفنانين بين واقعهم المأساوي والتراجيدي والحالة التي عكسها مجتمع غوثام الخيالي في فيلم الجوكر!
العقدة هي – إذن- ليست في شخصية الجوكر والجدل حولها، بل في سياسات هذه المدينة (غوثام) هي التي خلقت الجوكر أو حوّلته من شخص موادع مسالم بسيط، مريض نفسياً إلى شخصية قاتلة عدمية، وهي التي ولّدت هذا التعاطف من قبل سكان المدينة معه، ونمّت لديهم الاستعداد لحالة الفوضى والقبول بالعنف كخيار في مواجهة السلطة والقوة، هي التي جعلت من المهرج رمزاً لحركة جماهيرية أو ربما فوضى عدمية!
إذن، ومن هذا المنطلق من التناظر والتشاكل، من المهم أن نقرأ أو أن نفهم الزجّ بالجوكر في حراكات الشوارع العربية اليوم، واقعياً والكترونياً، وحتى فنيّاً من خلال الأغاني التي بدأت تبرز بواسطته، فالرسالة هي أنّ الخيار البديل لمطالب الشعوب والمجتمعات العربية في الحرية والعدالة والديمقراطية ليست القدرة على إعادة ترميم "النظام السلطوي" العربي، ولا في الإيغال في القبضة الأمنية والحديدية، حتى وإن تمّ تجيير ماكينات الإعلام والمال، وشيطنة حلم التغيير واللحاق كباقي خلق الله بركاب الديمقراطية، بل النتيجة هي الفوضى والعنف، مع استبدال الطبقة الوسطى التي تأخذ طابعاً سلمياً ومعتدلاً في التغيير والإصلاح وترنو إلى الأفضل، بخيارات المسحوقين والعدميين والغاضبين الذين يرون في الفوضى والعنف، وفي ظل انعدام الحلول السياسية، خياراً أفضل من الواقع القائم!
في الخلاصة؛ الغريب أنّنا في العالم العربي نقفز دوماً إلى الأحكام والمواقف المعلّبة ونعيد تفسير الأحداث والتطورات وفقاً لها، فالجدل بدأ في الجوكر فيما إذا كان عدمياً أو عبثياً أو حتى مؤامرة خارجية، لكن لم نفكّر ونتناقش لماذا وصل الفيلم بهذه السرعة الخاطفة إلى قلب الاحتجاجات العربية؟! وكيف يمكن أن نتجنب أن تتحول شوارعنا إلى جواكر عدمية، في حال بقيت السياسات الغوثامية- العربية على ما هي عليه؟! وفي حال بقي هنالك من يرى في الحرية والديمقراطية والعدالة حق الشعوب بتقرير مصيرها خياراً يمكن الانقلاب عليه وتشويهه، ولم يدرك بعد أن انسداد الأفق وإحكام السلطة والقبضة لن يؤدي إلى استقرار أو سلام أو أمن بل العكس من ذلك هو أن الجوكر سيحتل الشارع العربي!