في السماء..تثير اضطرابات لا مبرر لها

الرابط المختصر

"الروح التي لا تنحرف يتم التعامل معها باحترام وعناية كي لا تتلوث، أما تلك التي تجعل الآخر يلتهب بريقا فيتم عزلها وتجميدها. الروح أمارة بالسوء؛ حقيرة وخبيثة، إنها كلمة للاستهلاك الديني والعلمي، وبدون دين للخلاص أو أيدلوجية للتكيف". هذه الجملة مأخوذة من الشاعر النرويجي أنريلك كتلسن.يقول مخرج عرض مسرحية (في السماء اضطرابات عقلية) محمد بني هاني "عملي كان يطرح قضايا وجودية بحتة وقد تكون مرعبة للغير، وحينما قدمنا العرض الأول، لم يأت أي شخص واعترض على العرض، وذهبت وكادر المسرحية بعد انتهاء العرض إلى كفتيريا للعشاء، متفقين على اللقاء في الرابعة عصرا ليوم غد".



ومع هذا، "فمن قرأ نص المسرحية ولم يفهم ما أرادته، اعتبرها مسيئة للأديان وتشتم الذات الإلهية"، ذلك كان الحدث الهام في الساحة الثقافية المحلية، وتداعيات الخبر وصل إلى النرويج بلد صاحب النص الأصلي الشاعر أنريلك كتلسن، والذي يعتبر من أهم الشعراء النرويجيين المناصرين للقضايا العربية، ومنه قام النرويجي من أصل عربي وليد الكبيسي بترجمة النص إلى العربية وهو ما أخذه المخرج الأردني محمد بني هاني مترجما إياه على خشبة المسرح.



هذه المسرحية تتناول أسطورة الهبوط لعشتار، إنانا، أفروديت، عبر طرح عميق يحتاج إلى تفكير، "وركزت على فكرة الهبوط إلى الجحيم، وإعادة الزوج الحبيب العشيق إلى الحياة"، تحرض على التفكير كما يركز مخرجها، "فكرت أن أُخرج النص من أطروحتي الجامعية على خشبة المسرح".



قائلا "الترف الاجتماعي ليس وهما، وعلينا أن نخرج من زمننا ونقيمه. نحن نعيش جحيم نظام يخلقنا خلقا تشويهيا ويسلبنا حريتنا كي نكون بشرا، وهو ما أرادت المسرحية إيصاله".



"في السماء.." والتي أصبحت حديث الساحة الثقافية مؤخرا، تعتبر أولى أعمال بني هاني المدعومة من وزارة الثقافة، وقد ُقدمت ضمن موسم العروض المسرحية على مدى يومين متتاليين، وفي اليوم الثاني للعرض فوجئ كادر العمل باختفاء ملصقات المسرحية في المركز الثقافي الملكي، وتبين أن مدير المركز أمر بإزالتها، وبعد حديث بني هاني مع مدير المركز، توضح أن الملصقات أزيلت بناءً على ما تحمله الملصقة من عبارات أعتبرها البعض بأنها تشتم الذات الإلهية وتنطوي على تفسيرات تمس الأديان، مثل عبارة: "الروح التي لا تنحرف، يتم التعامل معها باحترام وعناية (...)"، ناهيك عن اعتراض على اسم المسرحية، وسأل بني هاني مدير المركز عن حضوره العرض فأجابه بـ"لا" فرد عليه "كيف تحكم إذن".



الاعتراض كما علم كادر العمل لم يكن مقتصرا على بعض الحضور أو من "فنانين غير معروفين"، وإنما من قبل وزارة الثقافة، وهي التي وافقت على العمل بناءً على قراءة النص قبل عرضه، والأمر المستهجن عند المخرج هو أن الجهات الرسمية "لم تبلغني بما حصل رغم أني المعني الوحيد بالمقاطعة".



واستطرد في حديثه لبرنامج "برائحة القهوة"، "ما أستغرب منه، هو قرارهم بأن العرض فيه إساءة، ولم يتصل بي أحد من مديرية المسارح والفنون أو الوزارة، وهناك خمسة فنانين بداخل الوسط قاموا بتقديم شكوى عن العرض، لا أعلم من هم (...) فالبوستر مثير للجدل كما يقولون، وحتى اسم المسرحية (في السماء...اضطرابات عقلية) كان عليه اعتراض، وعبارة (القدر الممل، ألم تهترأ هذه الكلمة وعفا عليها الزمن كأنها تقول كل شيء وهي لا تقول شيئا)، وكان توظيفها في العمل المسرحي أن لا يكون القدر شماعة لأخطائنا، لكنهم فسروها غير ذلك ".



وزارة الثقافة قرأت نص المسرحية قبل أن توافق على إنتاجها، يقول بني هاني، "جاءتنا لجنة من مديرية المسرح وتابعت العرض، مكونة من الفنانين حكيم حرب وعبد الكريم الجراح، فعلى الرغم من إعجابهما بنص المسرحية، إلا أنهما اقترحا حذف العبارات لاستكمال العمل، ولكنني رفضت ذلك وأتحمل كامل المسؤولية".



وهنا جاء وفد من وزارة الثقافة مكون من أمين عام الوزارة ومدير مديرية المسرح، "وكنت في هذا الأثناء قد اتصلت بنقابة الفنانين وقاموا بإرسال مبعوث لكتابة تقرير عن المسرحية، وتم العرض الثاني وسط جمهور معجب بالعرض ودون انتقاد من أحد، وتولى مندوب وزارة الثقافة القانوني التحقيق معي، وبعد انتهاءه من كتابة تقريره أشاد بالعمل".



"كل ما في المسرحية أنها تحرض الناس على التفكير"، ولكن لم يكن يعلم محمد أن المسرحية حرضت بعض الجهات ووصل بها الأمر إلى اتهام المخرج بالتطاول على الأديان وشتم الذات الإلهية، ما دفع بعض الآراء في منتديات إلكترونية بـ"هدر دمه"، وهو ما يجده بالأمر السخيف.



القضية وصلت إلى إهدار دمي

ومع هذا، فوزارة الثقافة قامت بإجراءات احترازية تمثلت بإزالة البوستر في المركز ليختصروا "وجع الرأس"، كما قال بين هاني ويؤكد أن هناك خمسة فنانين مجهولين -كما يصفهم- قدموا شكوى خطية إلى وزارة الثقافة، وهي بدورها تابعت الموضوع وأصدرت بيانا باسم السيد نبيل نجم مدير مديرية المسرح والفنون في وزارة الثقافة، ونشرته جريدة الدستور وما أشار إليه البيان أن العبارة المنشورة على البوستر سليمة ولا يوجد عليها ملاحظات كما أن العرض يحرض على التفكير ولا يمس الأديان.



الصحافة بالنسبة لمحمد بني هاني كانت مثيرة للجدل، "نشرت الصحف ذاتها أخبارا تتهم العرض بالإلحاد وشتم المسرحية ونعتتها بالكفر وتفاجأت بعدما قدمت شكوى لنقابة الفنانين، باتصال من صديق يخبرني بأن دمي مهدور على الانترنت، إضافة إلى مادة منشورة بجريدة الوطن لمراسلها في الأردن واسمه خالد فخيده الذي لم يحضر العرض ويؤكد في مادته على وجود إساءة وأن العرض توقف ! وهنا أتسأل عن الذين يكتبون بدون أي علاقة بالموضوع".



ركز بني هاني في النص على الجانب الإنساني، "وسلطنا الضوء على كل هذه الأنظمة والأيدلوجيات، والديانات الورائية والماورائية، في نص الشاعر النرويجي كتلسن الشاعر المؤيد للعرب والقضية الفلسطينية. وعن المسرح يقول "نخرج النص على خشبة المسرح وهي مساحتي التي أخلقها لأفجر ما بداخلي، وكل ذلك عبر مجموعة من الشباب، وجاء هذا النص وهذه الخشبة ".



وترى وزارة الثقافة أن المسرحية لا تمس الأديان، ولا يوجد اعتراض على ما تضمنته بل كان الاعتراض على بعض تفاصيل صغيرة كما يلخصها مدير مديرية المسرح والفنون في الوزارة نبيل نجم، "قاموا بعرض ملصق المسرحية بعيدا عن استشارة الوزارة وهي الجهة المعنية بكل تفاصيل العرض، طالما أنها الجهة المنتجة، ويجب أن تطلع على كل التفاصيل وذلك الأمر ليس في إطار المنع إنما لكونها منتجة أعمال، ومن حقها أن تعرف ما يتم حول الأعمال الصادرة عنها".



مؤكداًَ نجم "لم نطلب إيقاف العرض، وقد وضع المخرج بدون قصدية كلمات مثيرة للاهتمام، وبالتالي أحدثت لبُسا عند الحاضرين. أنت تتحدث عن (في السماء اضطرابات عقلية) وهي فُسرت بأكثر من تفسير، وأُعطيت أكبر من حجمها وبعض الفنانين تدخل بالموضوع وبالتالي أخذت طريق الشخصنة أكثر من النقاش الفكري".



هل الشخصنة عن طريق ما أشار إليه المخرج بأن خمسة فنانين قاموا بتقديم شكوى عن العرض، يجيب نجم "لا أعتقد أن هناك قصدية، بقدر ما هي سوء فهم للمسرحية، فبرأيي العمل يحمل فكرا ويتطرق لحالة الإحباط، من حروب وظروف حياتية صعبة. لا يوجد بالعمل أي مساس بالأديان، يجوز أن بعض الكلمات فسرت بطريقة خاطئة"، متحدثا عن حاجة الوزارة في دعم عمل الشباب الأردني المبدع.



يوسف كيوان أحد الشبان المشاركين في المسرحية، يعلق "وزارة الثقافة تستقبل النصوص المشارك في الموسم، وكان نصنا مقدم وتمت الموافقة عليه، وقدمناه كما هو، وبالعكس لم نقدم باقي النص على الخشبة"، متسائلا "كيف توافق عليه الوزارة طالما أنها رفضته بعد ذلك! يتساءل الممثل يوسف كيوان".



سوء الفهم وعدم وجود حوار بين القائمين على الفعل الثقافي والمنخرطين فيه، أربك العرض المسرحي(في السماء...اضطرابات عقلية)، ما استدعى مسؤولي المركز الثقافي –مكان العرض- على إزالة ملصقات المسرحية دون معرفتهم بما تضمنته من حوارات وبدون أن يكلفوا أنفسهم تقصي حقيقة الأمر.



وكما أشار أصحاب العمل بأن هناك شخصيات من داخل الوسط الفني هي التي قدمت شكوى على المسرحية، وهو ما يعيدنا إلى دائرة "الشللية والمحسوبيات" التي تسيطر على الساحة الثقافية في العالم العربي عامة والأردن خاصة.


أضف تعليقك