عندما يقرر صاحب العمل ما يمكنك أن تنشره على الفيسبوك
تتيح وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً يمكننا أن نعبر من خلاله عن رأينا، إلا أننا وبمرور الوقت، نكتشف عمق التقييدات التي ترافقنا بدءًا من منشور لا يعجب الأقارب، وخوفنا المتوارث من السلطات الرسمية ومواد قانون العقوبات وقانون الجرائم الإلكترونية، ومكالمة تأتينا من رقم خاص و"المعايير المجتمعية" لهذه المنصات.
لكنها لا تتوقف عند ذلك فقط بل تطال أيضًا رغبات أصحاب العمل الذين يحاسب بعضهم الموظفين حول محتوى منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ويفرضون تعهدات مكتوبة تحدد ما يمكن وما لا يمكن نشره.
في بلد تراجع موقعه على مؤشر الحريات من حر جزئيًا إلى غير حر (1) ويستخدم فيه 79.8% من المواطنين وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم (2)، تشكل تقييدات أصحاب العمل على حريات الموظفين في التعبير عن رأيهم على مواقع التواصل الاجتماعي جزء من مشهد أوسع غير مرتبط بالأردن فقط. أظهر مسح أجرته مؤسسة بريطانية أن 10% من الراغبين في الحصول على وظائف ممن تتراوح أعمارهم ما بين 16 و34 عاما حُرِموا من الحصول على عمل بسبب شيء ما نشروه على حساباتهم الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي (3).
تحكي الأسطر القادمة قصص ثلاثة أشخاص تعرضوا لتقييد حريتهم فيما يمكنهم أن يكتبوا أو ينشروا على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنهم يعملون في وظائف لا تمارس أو تحمل دورًا سياسيًا بشكل مباشر أو غير مباشر من مثل محال الألبسة وشركات خدمة العملاء والمولات والمحال التجارية الكبيرة والكازيّات بخلاف الوظائف الحكومية والجهات الأمنية والمؤسسات الصحفية ومنظمات المجتمع المدني الدولية التي من الممكن أن يؤثر فيها الرأي السياسي للموظف على مسؤولياته.
"يا بتوقّع، يا بتروّح"
اسمي خليل*، عملت لمدة 3 سنوات في سلسلة مطاعم أثناء دراستي للهندسة في جامعة البلقاء التطبيقية، آخر سنة منها كمدير فرع حيث تعرضت لطلب من المالك بالتوقف عن نشر منشورات معينة حول القضية الفلسطينية. "عادي تنشر عن فلسطين بس تنشر عن فلسطين زي ما هو بده"، كان فهم مالك المطعم لصراعنا مع الاحتلال محصور في سياقات معينة ومختلف عن رؤيتي إياه كمشروع استعماري يجب مقاومته بشتى السبل، شخص يحب النفوذ ويستغل سلطته ويتحدث معنا بخطاب أبوي "انا بدي مصلحتك، بكرا بتتعطلك معاملة، بتفكر حالك بتحب فلسطين اكثر مني؟".
عندما رفضت الاستجابة لطلبه وأخبرته أني قادر على اتخاذ أي قرار واتحمل ضريبة تصرفاتي ولا علاقة بمنشوراتي على الفيسبوك بأدائي في العمل، لم يمانع وتوقف عن الحديث معي بشأن هذا الموضوع، لكن المشكلة دخلت في نطاق العمل، مثل خلق الأخطاء وافتعالها وتسليط الضوء. "صار في تدقيق مخيف انه ليش الكاسة محطوطة هيك مثلا"، جزئيات بسيطة تؤثر على تقييمي وأدركت وقتها أن المشكلة أكبر من ذلك.
في الوقت ذاته، كانت إدارة الشركة بتوجيه من المالك تنادي مجموعة من الموظفين واحدًا تلو الآخر من أجل التوقيع على تعهد مكتوب مضمونه "عدم الانتماء لأي حزب وعدم نشر محتوى لأي حزب"، رغم أن لا أحد منهم كان عضو بحزب ما، لكن هذه كانت طريقته في إلزام الموظفين بعدم النشر عن فلسطين بطريقة قد لا تعجبه. "يا بتوقّع، يا بتروّح"، لم يكن هناك خيارات اخرى لهم والأغلب قرر مراقبة تصرفاته مقابل الحفاظ على وظيفته.
استمريت في العمل ولم يكن لدي أي مشكلة بشأن أي تقييم حول العمل رغم الضغط والخصم على كل ما تم اعتباره تقصيرًا، حتى اللحظة التي قرر فيها المالك تقييد صلاحياتي كمدير فرع ونقلها لمدير الأفرع. كان القرار يهدف لتهميش لدوري وتقليل ثقة الموظفين بي، قدمت استقالتي في اليوم التالي بشكل ورقي وغادرت مجموعات العمل وكتبت في الاستقالة أن السبب هو "التدخل في الحياة الشخصية للموظفين وفرض أفكار وإملاءات خارج نطاق العمل".
"اللي متضايق من بوستاتي، يشيلني عن الفيسبوك"، لم أفكر أبدًا بالتوقف عن النشر من أجل إرضائه، على الاقل ما أشاركه أفضل من فيديوهات بعض الموظفين على “التيك توك”. ولم أتقدم بشكوى لوزارة العمل لأني لا ارى الموضوع مشكلة عمل فقط، هي اعتداء على أفكاري ومبادئي من أجل راتب آخر الشهر، "بعدين إذا الجهات الرسمية بتقيد ع حريات المواطنين، مين يمنع صاحب العمل يعمل هيك؟".
يقول محمود* الذي تعرض لموقف مشابه في نفس الشركة "ظروفي بتسمحش اعمل زي خليل، بالاخر هاي رزقتي، بقدرش افكر وكأني في عالم مثالي"، مؤكدًا أنه يفضل لو يستطيع الأشخاص ترك الوظيفة أو التحدث عن القضية في العلن، على الأقل من أجل إيقاف الشخصيات السلطوية عن تصرفاتها ووضع حد لهذه التجاوزات.
يتابع محمود: لم يهدد المالك أحد بالتهديد الذي وقعه ولا يملك أيًا منا نسخة عنه لأن التعهد نفسه غير قانوني، وليس جزءًا من العقد أو النظام الداخلي حتى، لكنه يتابع كل منشورات الموظفين ويراجعهم في محتواهم مجددًا. "بحس انه اجا بكرامتي"، لأني توقفت عن مشاركة المنشورات ومنعني من التعبير عن رأيي حول موقف أفخر به وأحب أن أظهره للناس، أعلم أني لن أستمر في هذا المكان، لكني لا أملك ترف المغادرة الآن.
"الحزب ما بقدر يأمنلي وظيفة"
انضميت لحزب يساري أردني وأنا شاب، كنت فاعل في أنشطته ومع الوقت صرت أنا والحزب غير فاعليْن. حاليًا بالكاد أحضر الاجتماعات الهامة وأقرأ البيانات الصادرة عن الحزب لأنّي أعمل في وظفيتين، الأولى سائق تكسي والثانية محاسب في محال تجارية كبيرة: أنا طارق*، 59 سنة.
شاركت عدة مرات منشورات الحزب، كان آخرها في نيسان الماضي منشورًا لبيان صادر عن الحزب حول الأوضاع السياسية في البلد، وانا لا اعرف من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الا زر المشاركة. أذكر أن المنشور لم يحصل إلا على "3 لايكات" لأعضاء في الحزب أو أصدقاء له، ولا أظن أن أحدًا غيرهم قد لاحظه، بالإضافة لمدير القسم الذي استدعاني بعد يومين في مكالمة هاتفية من أجل "دردشة على السريع".
"هذا ممكن يأثر على سمعة الشركة"، أخبرني المدير بعد أن استقبلني في المكتب وتحدث معي عن الأوضاع السياسية في البلد وذكّرني بصعوبة وضعي الاقتصادي والالتزامات المادية التي أتحملها، مشيرًا إلى منشوري الذي كان يظهر على شاشة اللابتوب وإلى تعهد لم يطبعه بعد حول الالتزام بعدم النشر. قال مدير القسم أن مشاركة منشورات الحزب تؤثر على عملي كمحاسب، لا أعلم كيف يمكن أن يحصل ذلك، "من يهتم إذا كان الكاشير الذي تدفع له ثمن باكيت الدخان عضو حزب وإلا طالب جامعة وإلا متقاعد عسكري؟".
لم أكن مندفعًا في ردة فعلي وبعد التفكير وجدت أنه ربما لا أحد يهتم من الزبائن، لكن العقلية الأمنية قد تهتم وتضغط على أصحاب العمل من أجل الاستغناء عن خدمات موظفين محددين. لا أعتبرها قضية أن أتوقف عن مشاركة المنشورات نظرًا لأني في الأصل لا أمارس دورًا هامًا في الحزب. في نفس الوقت، لا أخفي أنني شعرت بضيق ذكرني بالإنذار النهائي الذي تلقيته أثناء دراستي علم الاجتماع في الجامعة الأردنية في الثمانينات قبل أن أترك الدراسة، لكني لا أتحمل فقدان قدرتي على شراء باكيت الدخان الذي أبيعه للناس.
"بالنهاية الحزب ما بقدر يأمنلي وظيفة"، لذلك لم أراجع إدارة الحزب بالموقف ولا حتى على سبيل المزاح، أعرف الرد ولا أظن أني الشخص الأول أو الأخير في الحزب الذي يواجه موقفًا كهذا، الأشخاص في العمل الحزبي والسياسي يحاربون في لقمة عيشهم، وهذا يحصل في كل دول العالم حتى تلك التي تروج لخطاب الديمقراطية وحريات التعبير المطلقة.
بعد شهرين، أنشأت الشركة مجموعة واتساب عليها جميع الموظفين ترسل عليها منشورات صفحة الفيسبوك التابعة للمحل من أجل أن يقوم الموظفين بمشاركتها على صفحاتهم الخاصة، لم يكن النشر إجباريًا، لكن الملتزمين بالنشر كانوا يلقون معاملة خاصة. "صحيح اللي بتابعوني مش كثار، بس صراحة مش مضطر أشارك عروض الدجاج واللبن على صفحتي".
"التفاعل مع هذه القضية محظور"
أعمل في خدمة العملاء منذ 4 أشهر بعد تخرجي من كلية اللغات في الجامعة الأردنية بتقدير "جيد جدًا"، تلقيت تدريب في الشركة لمدة أسبوع حول استخدام الموقع وتلقي المكالمات والرد على الشكاوى ومن ثم انتقلت للعمل عن بعد، لم أزر الشركة إلا مرتين، من أجل التدريب مرة والمرة الثانية من أجل مقابلة مسؤول الموارد البشرية لتوقيع تعهد بعدم الدخول في حوارات سياسية على مواقع التواصل الاجتماعي. كان التعهد معد خصيصًا لي ويقول في السطر الأول: أنا سناء الفلاني*.
لا أتحدث في السياسة عادة لكن استفزني منشور لأحدهم على جروب فيسبوك عام حول ما يسمى بقضية الفتنة ووضعت تعليق عابر تفاعل عليه زملائي في العمل. "لا يسيء التعليق للحكومة أو أحد رموز الدولة ولا ينتقدها من قريب أو بعد، لكن الظاهر التفاعل مع هذه القضية محظور"، حذف المنشور لاحقًا وكان هذا التعليق لي بشأن قضية سياسية الأول والأخير.
لا اتذكر من المكالمة التي تلقيتها من مشرفي -من أجل مقابلة مسؤول الموارد البشرية- شيئًا إلا كلمة "تعهد". لم أقلق بشان الموعد لأنني ظننت أنه تعهد مشابه للذي وقعته في بداية الدوام حول الحفاظ على أسرار العمل وبيانات الزبائن وكنت أنتظر موعدًا كهذا من أجل تمديد عقدي الذي يجب أن أجدده كل ثلاثة أشهر. أخبرني المسؤول أننا مكشوفون ومراقبون على مواقع التواصل الاجتماعي أكثر مما نظن، أتفق معه، لقد تمكن من رؤية المنشور رغم أنه ليس صديقًا عندي على الفيسبوك.
"ما بتابعك العميل على الفيسبوك بس الكل بعرف انك كول سنتر عنا، صح؟"، سألني بعد أن أخبرني بقصة موظف سابق تعرض للفصل عندما امتنع عن حذف بوست اشتكى فيه من ضغط العمل في خدمة العملاء وسوء معاملة المتصلين، بحجة أن ذلك يسيء للشركة. "القرار برجعلك"، قال في إجابته على سؤالي في حال لم ارغب بالتوقيع، لم يبدو مكترثًا بأدنى درجة لخسارة موظف، يمكنه إيجاد غيري بسهولة، نحن لا نقوم بأي عمل استثنائي في خدمة العملاء، مجرد أشخاص يحفظون عبارات جاهزة ويرددونها طول الوقت أمام الشاشة لساعات متواصلة.
بعد أسبوع من توقيعي للتعهد، عرفت من مشرفي أن جميع الزملاء –البالغ عددهم أربعة- ممن تفاعلوا على تعليقي تم استدعاؤهم أيضًا من أجل التوقيع على التعهد رغم أنهم أنكروا ذلك عندما سألتهم، قد يكون المشرف تعمد قول ذلك لاخافتي، لكني لا استغرب تصرفهم أيضًا. "كشب مش رح يطلع حاله قدامي بهاي الصورة وانه اضطر يوقع تعهد عشان ما يترك الشغل خصوصًا في فترة لو بدنا نترك الشغل، ما حدا بلاقي وظيفة".
عندما عدت للمنزل، سألتني والدتي: هل جددتِ العقد؟
أخبرتها: نعم.
ختامًا، تشمل المعايير التي وضعتها منظمة العمل الدولية للعمل اللائق احترام الحقوق الأساسية للفرد كإنسان على رأسها إتاحة مساحة للتعبير (4). يقول مدير مرصد العمال الأردني أحمد عوض أنه لا يجوز لأصحاب العمل تقييد حرية العاملين في القضايا ذات الطابع العام مثل قضايا المجتمع وحياة الناس الشخصية ومواقفهم، ولكن من حق المؤسسات أن تضع قيود على حرية التعبير عن الرأي إذا كان رأي العامل مرتبط بطبيعة عمل المؤسسة التي يعمل فيها. تنص المادة 28 في قانون العمل الأردني على ضرورة أن لا يأتي العامل بأي نشاط يؤثر سلبًا على عمل المؤسسة التي يعمل فيها، وتتضمن بند "إفشاء أسرار العمل" كواحدة من الحالات يجوز لصاحب العمل فيها فصل العامل بدون إشعار "الطرد المشروع" ولا يترتب عليها بدل فصل تعسفي (5).
أضاف عوض أن مكانة الموظف القانونية ومكانته التفاوضية مع صاحب العمل ضعيفة، حيث يمكنه اللجوء للقانون برفع دعوة قضائية لكن الإجراءات القانونية في الأردن طويلة المدى ومكلفة وتحول دون تمكن العامل من اللجوء للأساليب القانونية لضمان حقه، خصوصًا في ظل مستوى الحريات الديمقراطية والعامة المتراجع وخضوع أصحاب الأعمال لضغوط الحكومة واستغلال سلطتهم على العمال. "العمال فش الهم ظهر يسندهم، الظهر اللي بسند العمال هو النقابات العمالية وهي معزولة وغير ديموقراطية ومسيطر عليها من قبل الحكومة أو أصحاب الأعمال نفسهم، وبالتالي هي غير قادرة عن الدفاع عن حقوق ومصالح عمالها في هيك حالات".
* تم تغيير أسماء الشخصيات وبعض التفاصيل المتعلقة بهم حفاظًا على سرية هويتهم.