عمال المياومة المصريين...معاناة فاقمها تفشي كورونا(صور)
منذ 22 يوما لم يدخل العامل المصري ملاك (51 عاما) قرشا واحدا بجيبه، حال ملاك لا يختلف عن حال معظم المصريين من العمالة الوافدة بالأردن، وأغلبهم من عمال المياومة، وهي من أكثر الفئات تضرراً من تبعات أزمة انتشار فيروس كورونا، وما تبعه من قرارات حكومية تمثلت بشكل أساسي بتعطيل العمل في القطاعات الحكومية والخاصة، للحد من انتشار الوباء.
في منطقة الهاشمي الشمالي، شرق العاصمة عمّان، يقاسي عمال المياومة من أجل احتمال المصاعب والضائقة الاقتصادية التي يفرضها الحظر، وتتفاقم حدّة هذه المعاناة على العمال المصريين الذين يتركز عملهم في قطاعات كالإنشاءات والزراعة والتنظيف، باعتبارهم أجانب، ومن الفئة الأكثر هشاشة بين العمال الوافدين، لأن يسيّرون أمورهم بما يحصلون عليه من عمل يومي، ما يجعلهم الأقل أمناً من حيث الأجور واستمرارية العمل.
وتشكل العمالة المصرية 70% من حجم العمالة المهاجرة في الأردن، ما يشير إلى أن شريحة واسعة من العمال الأجانب تضرروا بشكل كبير، نظراً لعدم حصولهم على أي نوع من المساعدات، بالإضافة لعاملات المنازل غير النظاميات، وهي فئة من الواجب الالتفات لها، كما تؤكد مديرة مركز تمكين الحقوقي ليندا الكلش.
توقف العمل طال
عند مدخل غرفة ضيقة يتقاسمها 6 عمال مصريين، ينهمك زُهير (42 عاما) بغسل ملابسه بيديه، كما يفعل رفاقه الستة في غرفة المعيشة ذاتها، إذ ينامون بغرفة واحدة، ويتقاسمون الطعام والشراب، ويوزعون المهام ما بين طبخٍ وغسلٍ للأواني والملابس فيما بينهم، ويقومون بهذه الأعمال في ممر ضيق يصل بين باب غرفتهم والباب الواصل إلى الشارع العام، بسبب عدم توفر مطبخ لإعداد الطعام، وافتقارها للمرافق الصحية أيضاً.
"لو في طريق إحنا انروّح"، يقول زهير الذي يئس من سوء حالته بسبب انقطاعه عن العمل، إذ يفضل الحجر الصحي لمدة 14 يوما في مصر على أن يُحجر في غرفة واحدة كهذه، دون أي مصدر لكسب الرزق، بينما يستمر صاحب البيت بمطالبته ورفاقه بدفع مستحقات الكهرباء والماء وإيجار السكن.
ويعمل زهير في قطاع البناء بالأردن منذ 15 عاما، واعتاد أن يرسل ما يكسبه لأسرته في مصر شهرياً، وهذا ما قام به الشهر الماضي، ليفاجأ بعدها بقرار الحظر وإيقاف شتى أنواع الأعمال، لأنه لم يكن يتوقع أن تجري الأمور بهذا الاتجاه وفقاً لقوله، ويعتبر زهير أن أثر الحظر وانقطاع العمل على عمال المياومة الأردنيين أقلّ وطأة من المصريين، لأنهم مشمولون بالدعم الحكومي في بلادهم، متسائلاً عن دور السفارة المصرية في الأردن في مساعدة رعاياها في مثل هذه الظروف.
ويخشى زهير من وصول الأزمة التي يواجهها العمال المصريون إلى مرحلة كارثية، وخاصة الفئة التي لا تمتلك تصاريح عمل منهم، فهؤلاء غير قادرين على البوح بمعاناتهم وظروفهم خوفاً من توقيفهم لأنهم لم يصوبوا أوضاعهم القانونية، آملاً أن تنظر الجهات المعنية لهم بعين الرحمة في هذه الظروف، قائلاً: "الإنسانية لا تحدد لونا أو جنسية أو دينا، إحنا ننشد أي معونة من الدولة تخدمنا وغير كده ملناش حل تاني".
ولا يختلف وضع ملاك كثيراً، إذ ضاق به الحال منذ إيقاف العمل في السابع عشر من نيسان الماضي، كان يحدّث نفسه بأن أزمة تعطلهم عن العمل لن تطول أكثر من أسبوعين، لكن الواقع يخالف توقعاته، ويسيّر أموره منذ توقفه عن العمل بالاستدانة من رفاقه المصريين، لكن من كان يدّخر بعض المال منهم أنفقه الفترة الماضية، حتى بات يخشى ملاك بأن لا يجد ما يأكله الأيام القادمة إذا استمر الحال على ما هو عليه، معبراً عن خوفه بالقول: "الله يلطف بينا كلنا سواء كنا مغتربين أو مقيمين أو ولاد بلد".
ملاك الأب لأربعة أبناء يعيشون بمحافظة المنيا في صعيد مصر، كان يعمل بأجر يومي معدله 15 – 20 ديناراً، وهذا حاله كعامل بناء منذ 15 عاما في الأردن، وكان الوضع جيداً، فلم يمرّ عليه شهر واحد دون إرسال المصروفات اللازمة لأسرته في المنيا، لكنه اليوم لا يستطع إرسال الحوالة المالية كالمعتاد، بسبب انقطاعه عن العمل، وعائلته الآن تعاني من ضائقة مالية وصعوبة في تأمين الموادّ الأساسية كبقية أسر العاملين الآخرين، مستدركاً "لكن أصحاب الخير من الأقرباء والجيران هناك، لا ينسونهم".
في الفترة الحالية، يتغذى ملاك ورفاقه الستة على البقوليات من فول وفاصولياء بيضاء ومعكرونة، ويمتنعون عن تناول اللحوم البيضاء والحمراء، فجميعهم من طائفة الأرثوذكس، إذ يصادف في التاسع عشر من نيسان الجاري "عيد القيامة" وهم في حالة صيام عن اللحوم، هذا الصيام "لصالحهم"، كما يقول زهير، فهم لا يملكون المال لابتياع اللحوم في ظل هذه الظروف الصعبة، لكنه يتأمل أن تعود الحياة لطبيعتها بانتهاء المرض قبل حلول يوم العيد، ليتمكن ورفاقه من المشاركة بصلاة العيد في كنيسة العبدلي، وهي الكنيسة التي يجتمع بها المصريون المتواجدون في الأردن، وقبل الأزمة، كانوا يؤمونها كل جمعة للصلاة كونه يوم العطلة الوحيد، بينما يعتبر الأحد من أيام العمل في الأردن.
تأخر الأجور
لم يستلم الثلاثيني المصري صبحي راتبه لشهر آذار لغاية الآن، وهو أحد العاملين في شركة تنظيفات براتب قدره 200 دينار، أي ما دون الحدّ الأدنى للأجور المقرر في الأردن، ما اضطره للعمل على غسيل سيارات سكان الحيّ الذي يقيم فيه شرق عمّان، ليكسب بعض المال الذي يؤمن به احتياجاته الأساسية.
"إحنا كعمال المياومة متضررين أكتر حاجة، اللي كان معاه خمسين دينار ابتدأت تِشطب وخلصت، وإذا مددوها تاني مش هنعرف منين ناكل ونشرب"، يقول صبحي الذي تراكمت عليه الديون بس انقطاع دخله، وتزايدت التزاماته التي يجب تسديدها كإيجار المنزل الذي يسكنه برفقة آخرين، علماً أنه مشترك بالضمان الاجتماعي كونه إلزامي، ويطالب المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي بتحمل المسؤولية تجاه العاملين المصريين في شركات التنظيف وغيرها.
وما زاد الأمر تعقيداً، أن الأعمال الأخرى التي كان يمارسها صبحي لتأمين لقمة عيشه، من تنظيف أدراج العمارات السكنية والسيارات، أصبح من الصعب القيام بها الآن بسبب الحظر الكامل، وحصر الخروج للتزود بالاحتياجات الغذائية فقط، آملاً أن يُسمح له ولغيره من عمال المياومة بممارسة عملهم ضمن شروط وساعات عمل تحددها الدولة، ليستطيع تأمين غذائه وتسديد الالتزامات المترتبة عليه من ماء وكهرباء وغيرها من مصاريف.
تأخر الشركة في دفع أجر صبحي وغيره من العاملين، جزء من جملة الانتهاكات المخالفة لقانون العمل الأردني التي ترتكبها شركات القطاع الخاص، متحدية بذلك قرار مجلس الوزراء بتعطيل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لمدة أربعة أسابيع بدءاً من آذار 2020، واعتبارها عطلة رسمية طارئة يتقاضى العامل فيها أجره كاملاً، كما تقضي المادة (59) من قانون العمل الأردني. وفقاً لما جاء في تقرير صادر في 4 نيسان 2020 عن مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية.
وقد ألقت الأزمة الحالية بظلالها على جميع عمال المياومة من لاجئين ومهاجرين ومواطنين أردنيين، لكن الفرق يكمن في تطبيق إجراءات الحماية الاجتماعية كالمعونات التي يستثنى منها الأجانب كونهم لا يحملون رقماً وطنياً، إذ حصرت المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي إمكانية السحب من الحسابات الادّخارية عن تأمين التعطل عن العمل بالمشتركين الأردنيين المشمولين بتأمين التعطل عن العمل، ويستثنى الأجانب من هذا القرار ومن بينهم المصريون، رغم اشتراكهم بتأمين التعطل عن العمل، ما يضاعف معاناتهم.
وعلى الرغم من تعطلهم عن العمل، لم تبادر أي جهة حتى الآن قيامها لتقديم مساعدات لهذه الفئة، بحسب الكلش، مشيرة إلى أنهم يساعدون بعضهم بعضاً، إذ قام بعض المصريين الذين يصنف وضعهم الاقتصادي بأنه أفضل، بتقديم مدخراتهم والتبرع بها إلى زملائهم بالعمل، لافتة إلى أن هذا التضرر يمتد لأسر هؤلاء العمال والتي تعتمد على تحويل المال من ربّ الأسرة لتدبير حياتهم، ما يفاقم المعاناة الإنسانية لهذا القطاع، مؤكدة على ضرورة قيام السفارات الموجودة بالأردن دعم مواطنيها بهذا الوقت، خصوصا بما يتعلق بالاحتياجات الأساسية من طعام ومعونة.
تخفيف المعاناة
تؤكد الكلش بأن جميع المعاهدات وخاصة المعاهدات الأساسية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسة، والاقتصادية والاجتماعية، والتي وقعها الأردن، تنطبق على كل المقيمين على أراضي الدولة، باستثناء حق الترشح والانتخاب وحق تقلد المناصب العليا، وما عدا ذلك، يجب أن يحظوا بجميع الحقوق المنصوص عليها.
وبما يتعلق بالمعاهدات الثنائية بين مصر والأردن، وحتى آخر نسخة منها، شملت بندًا يتعلق بالمساواة بين الأردنيين والمصريين في الأردن والمساواة بين الأردنيين والمصريين في مصر، ومعاملة كل دولة مواطن الدولة الأخرى كمعاملة مواطنيها. كما توضح كلش، أن الحل العملي لفئة عمال المياومة من المصريين يجب أن يأتي بدافع إنساني لتأمينها، كون الحديث عن قطاع ضخم وغير منظم، ولابدّ من إيجاد طريقة لدعمه، معتبرة أن ذلك من مسؤوليات الدولة بالدرجة الأولى، خوفاً من تدهور أوضاعهم أكثر، وانزلاقهم إلى فقر مدقع، بقولها: "اللي معاه قرشين صاروا قرش، واللي معاه قرش صار تعريفه، بعدين صار ولا أشي".
*بدعم من منظمة صحافيون من أجل حقوق الإنسان JHR