طريق الحرير.. من يقود العالم في القرن الحادي والعشرين؟
لفهم رؤية الصين في بناء خطوط المواصلات التي تربطها مع العالم، أو تلك التي شيّدتها في مناطق نفوذها الاقتصادي، يمكن مقارنتها بخطوط سكّك الحديد التي دشنّتها البلدان الأوروبية في أفريقيا خلال فترة الاستعمار حيث كان اهتمامهم منصباً بفتح الطرق المؤدية من المناجم ومصالحهم الاقتصادية نحو الموانئ فقط، بينما يرسم الصينيون خارطة الطرق الجديدة وفق خطط لتنمية التي يتحرّكون فيها من أجل تسهيل التجارة الداخلية فيها، وانتقال البشر والبضائع عبرها.
يستشهد كثير من الباحثين بالمشاريع الصينية التي انطلقت منذ الستينيات باتجاه الباكستان ونبيال وبلدان آسيوية أخرى أو تلك التي أقامتها في تنزانيا وزامبيا وشرق أفريقيا عموماً، والتي ترافقت مع تأمين بنية تحتية من بناء السدود والمصانع والموانئي والمطار ومحطّات تنقية المياه. وبالمثل لم تختلف السياسات الأميركية عن سابقتها الأوروبيية حين أسّست الولايات المتحدة شبكة طرق وأنظمة اتصالات ومطارات وبنى تحتية في السعودية وتركيا وأفغانستان والعراق مصممة لتلبية احتياجات العسكرية والاستراتيجية.
ربما تمنح تلك المقارنات فهماً أعمق لمبادرة الحزام والطريق الصينية التي تخدم أكثر من ثمانين دولة يبلغ عدد سكّانها مجتمعة 4.4 مليار نسمة؛ أي ما يقارب ثلثي سكّان العالم وتمثّل أيضاً حوالي ثلث الناتج المحلي، وهي جزء من تنافس دولي محموم على امتداد القارتين الآسوية والأوروبية ستحدّد نتائجه طبيعة النظام العالمي المقبل، وتشكّل القرن الحادي والعشرين بحسب أوزان القوى الجديدة مع بعض القوى القديمة في خريطة جديدة.
في كتابه "طرق الحرير الجديدة: حاضر العالم ومستقبله" (2018)، يشير بيتر فرانكوبان أستاذ التاريخ في "جامعة أكسفورد" إلى أن ما يحدث على امتداد طريق الحرير الجديدة يشكّل سرداً لآخر مرحلة في العولمة الحديثة، وربما ينهي ما وضعه النيوليبراليون العربيون على مدى الأربعين عاماً الماضية، ولكنه يجادل في كون تلك الطريق ستعجّل من محاولات الصين تعزيز سيطرتها الإقليمية أو السياسية تحت يافطة مشاريع اقتصادية بحتة، مثلما الاستعمار الغربي قبل نحو قرن ونصف، وأنها ليست بحاجة إلى تسمية نفسها "إمبراطورية" لتتصرف وفق سلوك الإمبراطوريات السابقة.
ويرى أن القوة الاقتصادية المتزايدة لأوراسيا بفعل النمو الاقتصادي المتصاعد في البلدان الواقعة ضمن مبادرة الحزام والطريق وتزايد التبادلات التجارية في ما بينها، تشبه إلى حد كبير ما حدث في العقود التي أعقبت عبور كولومبوس للمحيط الأطلسي، واكتشاف الأوروبيين لرأس الرجاء الصالح.
تحليل فرانكوبان يقود إلى مستويين من النقاش؛ الأول يتعلّق بسعي بكين لفرض نفسها قوة عظمى من خلال هيمنتها المتزايدة في العالم، وقدرتها على الحدّ من التوسع الأوروبي والأميركي، ونمو اقتصادها بمعدّل عشرين ضعفاً خلال خمسين سنة مضت، استند جزء كبير منه على ملاءتها المالية وضخّ السيولة في مشاريع تحتاجها الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ولا تستطيع حكوماتها، ولا حلفائها الغربيين السابقين من توفيرها، ما يعطي انطباعاً حاسماُ بأن زيادة النفوذ الصيني ستؤدي عاجلاّ أم آجلاً إلى التدخّل في البلدان التي أقرضتها قروض طويل الأمد.
في المستوى الثاني من النقاش، ثمّة عوامل ثقافية لا ينبغي تجاهلها تتعلّق بعدم تعميم الصين لأيديولوجية ما أو نمط تفكير معين أو لغتها تحت ادعاءات التحديث في البلدان التي تحتضن مشاريعها الضخمة، بل تبدو المفارفة بكون الصينيين يتعلمّون لغة تلك البلدان ويتبنون سياسات انفتاح ثقافي تجاهها، على النقيض من سياسات الإحلال التي مارسها الاستعمار القديم على مستعمراته.
يضاف إلى ذلك إلى أن سياسات الصين لا تأتي في وقت تقدّم فيه أوروبا والولايات المتحدة حلولاً لإنقاذ الاقتصاديات المتدّهورة وخطط التنمية الفاشلة في دول العالم الثالث بعد دعمها الدكتاتوريات التي حكمتها على مدار عقود ماضية في مواجهة خطر الاتحاد السوفييتي أو بسبب حروبها الأخيرة ضدّ "الإرهاب"، بل يجري دوماً استحضار نموذج اليونان؛ الدولة الأوروبية التي فرضت عليها الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) استراتيجية خصخصة قسرية لمؤسساتها في أعقاب الأزمة المالية، لتفضي تلك السياسات إلى فتح البلاد أمام الاستثمارات الصينية، بعد أن عُرض منشآتها الأساسية للبيع.
وينطبق الأمر ذاته على المشاريع الصينية في تطوير البنية التحتية التي طالما حُرمت منها البلدان الأفريقية والآسيوية، والتي تأتي بشروط مناسبة توافق حكوماتها حتى تلك التي تفشل في تأمين مثل هذه القروض نتيجة للعقوبات الأميركية.
الأرقام تخبرنا عن معطيات قد تبدو صادمة، فبحسب بيانات مركز سياسة التنمية العالمية في "جامعة بوسطن"، فإن الصين قدّمت بين عامي 2008 و 2019 ائتمانات تنمية خارجية بقيمة 462 مليار دولار؛ أي أقل بقليل من 467 مليار دولار قدمها "البنك الدولي" في الفترة نفسها، وتوزّعت تلك القروض على تميول مشاريع بنى تحتية نالت منها بلدان مثل روسيا والبرازيل وإيران وفنزويلا وياكستان وأنغولا والإكوادور حصة الأسد، ما يسترعي التدقيق باختيار الصينيين للدول التي تقدّم إليها الائتمانات حيث تعيش معظمها أزمات سياسية مع الولايات المتحدة، أو تواجه مشكلات اقتصادية لا تسعى الأخيرة إلى تقديم أيّة مساعدات إليها.
تختلف الشروط التي تمنح من خلال الصين تلك القروض، ولكنها بالمحصلة شروط تتجاوز قدرات المموّل الغربي، إذ تموّل الصين بناء ميناء غوادر الباكستاني بقروض من دون فائدة بينما وقّعت عقداً لإدارة ميناء هامبانتوتا في سيرلانكا لمدة تسع وتسعين عاماً بعد الانتهاء من تشييده، ومدّدت فترة السداد لكينيا نظير بناء ميناء مومباسا بعد أن عجزت عن سداده، مع الإشارة إلى الدور الكيني الذي تلعبه في تعزيز السيطرة الصينية في الشرق الأفريقي، من خلال العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية المتينة بين نيروبي وبكين.
يعيد الحضور الصيني المتزايد التذكير بالإمبراطورية البريطانية حين امتدّت لتغطّي سدس العالم في بداية القرن العشرين، حيث ألقى آنذاك الجغرافي هالفورد ماكيندر محاضرة أمام "الجمعية الجغرافية الملكية" في لندن، وقال فيها إن المنطقة المحورية ليست في جميع المناطق التي تسيطر عليها بريطانيا، إنما في أوراسيا وتحديداً في المناطق الشاسعة على طول الخط الواصل بين نهر يانغتسي في الصين ومصبّ نهر الفولغا في روسيا، وأطلق عليها اسم "قلب العالم" الذي يضمن لمن يسيطر عليه أن يتحكّم بالكون بأسره.
مقولة ماكيندر تستعيد محطّات عديدة من تاريخ البشرية استطاعت خلالها دول عديدة أن تجد مكانتها العالمية وتقول كلمتها لأنها امتلكت خطوط التبادل التجاري على طريق الحرير، بدءاً من الممالك الصينية القديمة والإمبراطورية البيزنطية ومروراً بالمغول ثم بريطانيا، ويبدو أن الطريق يحدّد اليوم اتجاه النظام العالمي الجديد. استدارة كاملة نحو الشرق ضمن معادلة جديدة تفرضها الصين، أو استمرار الهيمنة الغربية حتى نهاية القرن الحالي، وربما لا يلوح في الأفق حلّ ثالث.