"ضاق خلقي يا صبي" مع الاعتذار للسيدة فيروز
لم يعرف عن الأردنيين أنهم "أهل نكتة" إذ قلما تداولوا النكت أو ضحكوا عليها عندما تروى على مسامعهم ، ونادرا ما "ألّفوها" أو "أردنوها" فنحن قوم شعارنا "كثر الضحك يورث قلة الهيبة".
لكن في المقابل لم يعرف عن الأردنيين أنهم أناس "أيديهم والهواة" ، فالأردني عموما ليس ميالا للعنف ، حتى وإن بدت "سحنته" القاسية مقدودة من صخر وصحراء وشمس لافحة.
لكن على ما يبدو ، فإن بقاء الحال من المحال ، فالأردنيون باتوا اليوم يتندرون على ما هم فيه وعليه ، من ضائقة اقتصادية واجتماعية خانقة ، وميلهم "للنكتة" زاد بشكل غير مسبوق ، وارتفعت معه ذائقتهم الفنية والفكاهية على حد سواء ، ومن يصغي إلى بعض النكت المتداولة ، يدرك حجم الألم والخيبة اللذان يعتصراننا ، تماما كما هو حال الأشقاء في مصر ، الذي يواجهون ظروفهم الصعبة بالنكتة الذكية.
كما أن الأردنيين باتوا ميالين للعنف وامتشاق "القنوة والموس الكبّاس" أكثر من أي وقت مضى ، فما من يوم ينقضي من دون أن نقرأ أو نسمع عن اعتداء على طبيب أو ممرض أو ممرضة ، عن ضرب موظف أو أستاذ جامعي أو معلم مدرسة ، أو جابي ضرائب أو محصّل مالي ، ومن الواضح تماما أنه بعد الاعتداء على الوزراء ورؤساء الجامعات ، لم تعد هناك "لحيّة مشّطة" ، فالكل معرض للضرب عند أول خلاف أو سوء فهم.
ما أن تطلق بوق سيارتك أو تتجاوز أحدهم على الطريق ، أو تعترض على ممارسة سائق أرعن ، حتى تنهال عليك النظرات التي تتطاير شررا ، والمحذرة من الويل والثبور وعظائم الأمور ، وربما تتحرك أصابع السائق ، خصوصا الوسطى منها ، في إشارة لا تخفى إيحاءاتها على أحد ، فلأتفه الأسباب وأقلها أهمية ، أصبح ممكنا توقع حدوث ما لا تحمد عقباه ، واندلاع مشاجرة كبرى ، قد تنتهي بإراقة الدماء ، وما يستتبعها بالطبع من عطوات وجاهات إلى آخر ما هنالك من طقوس وفولكلور.
منسوب العصبية يرتفع عند الأردنيين ، وهذا يفسر الكثير من الشجارات والمشاجرات ، مثلما يفسر تفشي حالة "السرحان والسهيان" التي تنتاب الناس ، كما أن ظاهرة المتحدثين مع أنفسهم في الشارع إلى تزايد ، بيد أنهم لا يفعلون ذلك عشقا وهياما على حد توصيف طيب الذكر كارم محمود "أمشي أكلم روحي" ، بل لانشغالاتهم الرياضية في الجمع والطرح والقسمة والضرب ، عل وعسى أن تنطبق أرقام الإيرادات مع أرقام النفقات في موازناتهم المخرومة.
ومن المتوقع أن تواصل هذه الظاهرة ارتفاعها مع اقتراب مواسم "العودة للمدارس" أو عند إطلالة فصل الشتاء القارس ، حينها سيرتفع منسوب "التنفيس" بالنكتة و"القنوة" ، وستصبح أغنية فيروز "ضاق خلقي يا صبي من ها الجو العصبي" نشيدا صباحيا ، يجري التعبير عنه باللهجة الأردنية المعتادة عند إطلالة كل نهار "مبين من أوله".
*الدستور