صمت الأرحام: التعدي على حقوق النساء ذوات الإعاقة الذهنية

الرابط المختصر

تُعتَبَرُ الدورة الشهرية محطةً مهمةً في حياة جميع الإناث، بل وطقسَ عبورٍ لكُل فتاةٍ شابةٍ إلى الأنوثة. الأمرُ المعروف، أنّ ردات الفعل عليه تختلف من شخصٍ ومُجتمعٍ إلى آخر، ففي بعض المجتمعات يتم الاحتفال به، بينما قد يُثير الخجل في المجتمعات الأكثر تقليدية. 

 

إلا أنّ هذه المناسبة السعيدة تصدِمُ النساء ذوات الإعاقة الذهنية، فَمحاولة اجتياز موقفٍ مثل هذا يُعتَبَرُ خارج فهمهنّ وسيطرتهنّ، وربما في حالاتٍ أكثر تعقيداً قد لا يختبرن هذا الجزء من أنوثتهن لخضوعهنّ المسبق لعملية استئصال الرحم.

قرارُ هذه الجراحة -التي نادراً ما تكون ضرورةً طبية- غالباً ما تعطي العوائل نفسها حقّ اتخاذه، فَوفقاً لعواطف أبو الرب، مؤسِسةُ جمعية الياسمين لأطفال متلازمة داون: "لدى الآباء قناعة راسخة بأن مثل هذه الجراحة قد تكون في مصلحة الطفل الفضلى، ظانّين أنهم لا يقومون بارتكاب أي خطأ على الإطلاق". 

قوبِلت جميع محاولاتنا للتحدث إلى عائلات النساء اللواتي خضعن للجراحة، بِصمتٍ مدوٍ. إذ بيّنت أبو الرب أن هذا الموضوع حساسٌ للغاية، وعلى الرغم من أن الجراحة قد أجريت بالفعل في معظم الحالات، إلا أن الإنكار والتكتُّم هما سيّدا الموقف. "حتى في الجمعية، نتحدث إلى العائلات في مجموعاتٍ مغلقة، وندعوهم عبر مجموعات الواتساب ولا نعلن عن التجمعات علناً. أي أن الحالات مخفية، وتبقى القصص غير محكية، والأدلة قليلة مع غياب بياناتٍ رسمية مفصلة".

كما قالت آسيا ياغي، رئيسة جمعية "أنا إنسان" لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة: "مهما حاولنا جاهدين، لا يمكننا كسر صمت العائلات.  هناك وصمة عار اجتماعية قوية تقف بيننا". 

ما الذي يمكن أن يدفع العائلات إلى تبنّي إجراءٍ جراحيٍ شديدٍ إلى هذا الحدّ؟ 

أشارت الخبيرتان إلى أن المخاوف المتعلقة بالنظافة أثناء الدورة الشهرية والضغوط المالية الناجمة عن الدعم طويل الأجل، إلى جانب التعب العاطفي والجسدي لمسؤوليات تقديم الرعاية، هي  الذريعة التي  تدفع الآباء إلى اتخاذ مثل هذه القرارات. ومن وجهة نظر الوالدين، هناك سببٌ أكثر إلحاحاً، وهو احتمالية تعرض بناتهنّ للاعتداء الجنسي، خاصةً إذا انتهى بهنّ المطاف في إحدى دور الرعاية بعد وفاة الوالدين، ليعتني بهنّ شخص غريب ، ما يجعلهنّ أكثر عرضةً للاعتداء. كما تعتقد بعض العائلات أنه بما أن الابنة لن تتزوج على الإطلاق، فلا جدوى من الاحتفاظ برحمها؛ بل وفي حالاتٍ أخرى، يعتبرون أن هذا تدبيراً مسبقاً للحد من تكاثر ذوات الإعاقة وزيادة عددهنّ.

على الجانب الآخر، ترغب الأمهات في تجنيب بناتهن الانزعاج الذي يأتي كل شهر مع "المتلازمة السابقة للحيض - PMS" والتي تسبب تقلباتٍ في المزاج وألماً وتقلصات. ولكن بغض النظر ما إذا أُجريت عمليات استئصال الرحم من أجل مصلحة المرأة ذات الإعاقة الفضلى أو من أجل راحة الآخرين، فإنها تشكل قلقاً وقضيةً حقيقة فيما يتعلق بِنظرة ثقافتنا إلى النساء والأشخاص ذوي الإعاقة، أو كليهما. 

التقاطعية: نظرة على العلاقة بين النوع  الاجتماعي والإعاقة 

تعاني النساء ذوات الإعاقة الذهنية من تمييزٍ مزدوج، إذْ إن استئصال  الرحم هو المكان الذي يتقاطع فيه التمييز القائم على النوع الاجتماعي مع التمييز على أساس الإعاقة، وهذه التقاطعية تؤدي إلى انتهاكٍ صريح لحقهنّ في الإنجاب. علماً أن اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة  تنُص على أن للأشخاص ذوي الإعاقة الحق في الحفاظ على خصوبتهن على قدمِ المساواة مع الآخرين.

كما يُنظَر إلى هذا الإجراء الذي لا رجعة فيه على أنهُ مُهين وغير إنساني من قِبل العديد من النشطاء والناشطات لأنه ينتهك الاستقلال الجسدي للمرأة، بغض النظر عن مدى اعتماد صحتها الجنسية والإنجابية على الآخرين.

ما بين التحريم والتجريم

إنّ قراراً أخلاقياً بهذا التعقيد يجب أن يُحكم من خلال إطار قانوني واضح. وعليه، أسفرت الجهود الجماعية التي بذلها المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عن اعتماد العديد من التدابير القانونية التي أدت إلى الحد من الظاهرة في الأردن. كما أصدرت دائرة الإفتاء العام في عام 2014، الفتوى الشرعية رقم 194/2014 التي حرّمت بموجبها الجراحة، معتبرةً إياها انتهاكاً واضحاً للشريعة الإسلامية إذا تم إجراؤها لسببٍ غير طبي، مُشيرةً إلى أن مسؤولية المجتمع والأسرة تقتضي استيعاب حاجة النساء ذوات الإعاقة الذهنية وليس العكس.

قالت لارا ياسين، مديرة وحدة الشؤون القانونية في المجلس الأعلى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة حول مفهوم الموافقة الحرة والمستنيرة: "تُعرّف المادة 2 من قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 20 لسنة 2017 -بكل وضوح و إسهاب- مفهوم الموافقة الحرة والمستنيرة على أنها رضا الشخص ذو الإعاقة أو من يمثّله قانوناً عن كل عملٍ أو تصرفٍ أو إجراءٍ قانوني يشرع في اتخاذه يتعلق بأحد حقوقه أو إحدى حرياته، بعد إخباره -بطريقة يفهمها- لمضمون ونتائج وآثار الإجراء. وهذا المفهوم مهم جداً في سياق نقاشنا لهذه العمليات".

ومع ذلك، يمكن فتح باب النقاش والمجادلة بأنه إذا كانت الفتاة أو المرأة لديها إعاقة ذهنية، فهي تفتقر إلى الأهلية القانونية وتخضع للوصاية، وأنها بالتالي غير قادرة على إعطاء الموافقة المستنيرة. وفي مداخلة من أبو الرب، "أنت لا تحصل في الواقع على موافقة المرأة.  أنت تحصل على موافقة أفراد العائلة باعتبارهم الأوصياء عليها، فإذا كانت العائلة هي التي تريد إجراء الجراحة، فمن تخدم هذه العملية؟".

وأوضحت ياسين قائلةً: "تنص المادة 14 من قانون المسؤولية الطبية والصحية أنه بالإضافة إلى الحصول على الموافقة، يجب الأخذ برأي لجنةٍ متخصصة تتكون من ثلاثة أطباء على الأقل متخصصين في هذا المجال، وأن تُشير تقاريرهم الطبية إلى أن الإجراء هو ضرورة علاجية أو وقائية طبية مع عدم وجود تدخلٍ علاجيٍ طبيٍ بديل متاح ". وأضافت أن استئصال الأرحام للنساء ذوات الإعاقة الذهنية يُعدُّ عملاً من أعمال العنف وفقًا للمادة 30 من قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رقم 20 لسنة 2017.

سألنا أبو الرب وياغي عن رأيهما إذا ما انخفضت الحالات بعد التعديلات القانونية، لِتُجيب ياغي: "نحن شبه متأكدين من أن الحالات لم تنخفض، لكن ليس لدينا دليلٌ وسطَ الصمت المستمر من العائلات وإغلاق المجتمع الطبي لصفوفهم. وقد تلقّيتُ عدة مكالمات مجهولة تدّعي أن بعض المستشفيات استمرت في إجراء عمليات استئصال الرحم، بينما يتم تسجيلها على أنها إجراءات أو تدخلات جراحية في السجلات الطبية الرسمية، مما يعيدنا إلى نقطة الصفر".

كما أخبرتنا أبو الرب أنه أصبح من النادر لدائرة الإفتاء العام إصدار فتوى ما لم تنص التقارير الطبية صراحةً على أن الرحم يشكل ضرراً يهدد الحياة، لكن هذا لا يعني أن جميع العقبات الجديدة أوقفت الظاهرة، فَبعض العائلات كانوا على درجة من التصميم دفعتهم لاستعطاف الأطباء من أجل الحصول على التقارير الطبية اللازمة للمبررات القانونية، بل حتى للسفر إلى تركيا لإجراء العملية في الخارج".

ثمنٌ باهظ

على الرغم من أن عمليات استئصال الرحم يتم تصويرها على أنها حلٌ مثاليّ لمسألةٍ صعبة، إلا أن الجراحة ونواتجها تؤدي إلى عواقب لا تُحمَد. فَقبل ما يقارب عقد من الزمن، وفي حادثةٍ هزت الشارع الأردني، تعرضت فتاة مصابةٌ بِمُتلازمة داون للاغتصاب بشكلٍ متكررٍ من قبل عمها المدمن على المخدرات، بل وبدأ في اصطحابها إلى منزلٍ مهجورٍ كانت تُغتّصبُ فيه على يد تجار مخدرات مقابل المخدرات التي يعطونها لِعمّها. وربما الحوادث المخفية أكثر إيلاماً.

تعتقد ياغي أن للجراحة نتائج عكسية واضحة، لأنها قد تزيد من احتمالات الاعتداء الجنسي وتقدم تصريحاً للمعتدين يفعلون من خلاله ما يحلو لهم، متجولين بِحُريةٍ دون رادِعٍ أو خوفٍ من العقاب، ما يتيح لهم مجالًا لتكرار جرائمهم عند إزالة الحمل من المعادلة. علاوةً على ذلك، يجب ألّا نستثني الإصابة بالإيدز وغيره من الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي.

يمكن تفادي هذه النتائج العكسية المُفضية إلى استئصال أرحام ذوات الإعاقة الذهنية كوسيلة حماية لهنّ من أيّ اعتداء جنسي، عبر عدد من التدابير الوقائية منها: تعليم ورفع وعي ذوات الإعاقة الذهنية بطريقة مناسبة فيما يتعلق بالحدود الشخصية والتصرفات والتواصل الجسدي المناسب والغير مناسب و كيفية الإبلاغ عن أي تجاوز، تعليم ورفع وعي مقدمي الرعاية ومقدمي الخدمات حول المخاطر التي قد تتعرضن لها ذوات الاعاقة، ومراقبة ومتابعة تواصل وتفاعل ذوات الإعاقة الذهنية مع مجتمعاتهنّ.

على غرار أي عمليةٍ جراحيةٍ أخرى، حتى لو كانت ضمن الظروف الطبيعية، فإن آثارها الجانبية لا يمكن غض النظر عنها، سواء كانت نفسيةً مثل الألم والصدمة والاكتئاب، أو جسديةً مثل هشاشة العظام، أمراض القلب وأعراض انقطاع الحيض المبكر التي تتراوح بين الهبات الساخنة والتعرق إلى النوم المضطرب والأرق. 

جوابٌ معقولٌ لِسؤالٍ صعب… هل الاستئصال الحل الوحيد؟

"لا" -هذا ما أجابت به أبو الرب، باحثةً في طرقٍ وحلولٍ بديلة رغبةً منها في إعطاء طفلتها المصابة بمتلازمة داون أفضل رعايةٍ ممكنة. تقول: "هناك اعتقادٌ خاطئٌ شائع بأن الفتيات ذوات الإعاقة الذهنية غير قادراتٍ على التعلم عن الدورة الشهرية والنظافة الشخصية. لا يزال التدخل المبكر حلاً غير مستغل في مجتمعنا؛ فمن خلال بحثي شاهدت مقطع فيديو من بريطانيا تم إنتاجه في عام 1961، يُظهر كيف تم تعليم فتاة ذات إعاقة ذهنية تبلغ من العمر ستة أعوام استخدام الفوط الصحية تحسباً لأول دورةٍ شهريةٍ لها، ففي معظم الحالات، يبدأ عمر البلوغ لديهن في وقت مبكر قد يكون على عمر تسعِ سنوات."

"بدأت تدريب ابنتي على النظافة واستخدام الفوط اليومية. ابنتي، في الصف الثامن ترتدي الفوطة إلى المدرسة وتحزم واحدةً إضافيةً في كيس من البلاستيك الأسود. يمكن إدارة الأمور لأنهم أشخاص نمطيين، ويمكن تنمية هذه المهارة مثل أي مهارةٍ أخرى".

تساعد أبو الرب وياغي العائلات الأخرى في التكيّف والتعرّف على الخيارات الأخرى المتاحة والمخاطر المرتبطة بإجراء عمليات استئصال الرحم وكيفية التخلص من الصور النمطية المجتمعية من خلال الجمعيات الخاصة بكل منها.

إنّ وجود تدابير تخفيفيةٍ أخرى، مثل زيادة مخصصات الميزانية الحكومية والمرافق التي يسهل الوصول إليها، والرعاية الطبية وخدمات الدعم النفسي والاجتماعي، إلى جانب وجود ضماناتٍ قوية ضد الاعتداء الجنسي وزيادة الوعي، وتوفير التدريب لمقدمي الرعاية، من شأنه أن يمنح الأسر أملاً أفضل لإعطاء بناتهم القدرة على التأقلم والتمييز بين الإجراء الصواب والخطأ بدلاً من الخضوع لِعمليات استئصال الرحم.