سياسات “الزفاف الهاشمي”.. الخلفية والدلالات

الرابط المختصر

يتجاوز حفل زفاف ولي العهد الأردني، الأمير الحسين بن عبدالله، المعاني والدلالات والاعتبارات التقليدية بوصفه عرساً لعائلة ملكية أو أمير عربي، وبالتالي تطغى اعتبارات الفخامة والاهتمام عليه، فمن الواضح أنّ من قاموا بالتصميم الإبداعي لصورة حفل الزفاف قصدوا أهدافاً سياسية كبرى وعميقة، وأتخموا الحفل بالدلالات الرمزية والعاطفية والسياسية، ليتم من خلاله تدشين الإدراك المطلوب والصورة المنشودة لولي العهد ؛ Perception Management، فتم استثمار مناسبة الزفاف بما تحمله من معانٍ وأبعاد وربطها بالعديد من المعاني والأفكار وصنعوا مسرحاً سياسياً متقناً لربط صورة ولي العهد بالتقاليد الاجتماعية والثقافية، والرمزيات التاريخية والوطنية وترصيص العلاقة بين العائلة الهاشمية الصغيرة (الملك وعائلته) والكبيرة (آل هاشم) والمجتمع الأردني.

ما هو معيار النجاح؟ من الصعب بناء مقياس علمي دقيق، لكن -في المقابل- من السهل تلمّس “المشاعر العامة” للمواطنين، وإذا كان هنالك مختبر كبير لذلك فهي مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال تصدر وسوم تتعلق بالزفاف الملكي (#) وحجم انتشار صورة الأمير الحسين في الفرح على “قصص” Stories على مواقع التواصل الاجتماعي عموماً، والتفاعل الكبير من قبل المواطنين، ذلك كلّه قد يعكس تحولاً عميقاً في اتجاهات الشارع نحو الأوضاع العامة في البلاد، بعدما كانت استطلاعات الرأي تشير منذ أعوام إلى حالة الإحباط وخيبة الأمل وفقدان الثقة بالحكومات والمؤسسات السياسية، فإنّ حفل الزفاف شكّل نقطة تحول مهمة في “المشاعر العامة” (بالمناسبة مصطلح المشاعر هنا يستخدم بمعناه ودلالاته السياسية، بوصفه مصطلحاً مهماً في المعادلات السياسية في علاقات الحكومات بالشارع واتجاهاته نحو الأحداث السياسية) نحو النظام السياسي والوضع العام في البلاد.

ما هي الرسائل المهمة التي أثّرت على الشارع وحققت اختراقاً عميقاً في مواقفه؟ من قاموا بتصميم حفل الزفاف والتخطيط له وتفصيلاته المختلفة والدقيقة، أظهروا تميّزاً استثنائياً في إدراك الموضوعات والقضايا التي يمكن أن تؤثّر على “سيكولوجيا” الشارع في الأردن؛ فاستثمروا بداية فكرة الفرح لمجتمع يتعطش لهذه اللحظات، تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والأوضاع السياسية المحيطة القاسية، فربط صورة ولي العهد وزفافه بمفهوم الفرح والبهجة والأعياد الوطنية والاحتفالات في المحافظات تعكس إدراكاً لأهمية هذا الربط وتلك الصورة.

الرسالة الأخرى تمثّلت في صورة الملكة رانيا العبد الله، والده الأمير، إذ جرت عملية التركيز على الجانب الإنساني والعاطفي في علاقتها بالأردنيين، وتمّت دعوة أعداد كبيرة من النساء الأردنيات من مختلف المحافظات والاتجاهات والأعمار، وجرت عملية “الحناء” للعروس عبر التقاليد الاجتماعية الأردنية، وهو الأمر الذي ظهرت نتائجه في القبول عبر التواصل الاجتماعي وانتشار الصور والفيديوهات.

ما خطف الأضواء وشكّل حالة لافتة، في مضامين ومجريات حفل الزفاف، هو ما يسمى بـ”حمام العريس”، الذي أقيم لولي العهد في منزل ابن عمه، الأمير عمر بن فيصل، ومشاركة ضباط من الجيش في الحفل (قبل ذلك أقامت القوات المسلحة حفلاً للأمير الحسين)، وانعكس ذلك أيضاً على انتشار هائل لصوره في الملابس العربية في حمام العريس.

وليمة العشاء التي أقامها الملك لولي العهد في مضارب بني هاشم، حمل دلالات هائلة، ومن المهم الإشارة إلى أنّ خطابات الملك والملكة تم صياغتها بمهارة شديدة لمخاطبة “المشاعر العامة” للمواطنين، ومن ثم الربط الذكي بين التقاليد الملكية في الأردن وتظهيرها في الحفل وبين ولي العهد بوصفه امتداداً لهذا الإرث السياسي والتاريخي والرمزي الكبير كان أيضاً بمثابة علامة نجاح كبيرة، بخاصة أنّ هنالك حالة من “النستولوجيا” لدى الأردنيين للعقود السابقة، ما كان يعكس فشلاً ذريعاً في الرسالة السياسية والإعلامية للدولة وعلاقة النظام بالأردنيين.

في المجمل صمّمت “سياسات حفل الزفاف” لتحقق أهدافًا سياسية مهمة، ويبدو أنّ كثيراً منها تحقق بعلامات نجاح مميزة، وعبر “مطبخ القرار” هذه المحطة المهمة في تقديم وبناء صورة ولي العهد في المجتمع الأردني بصورة مميزة، وتجاوز الهواجس التي خلفتها العديد من الأحداث سابقاً، مثل قضية الأمير حمزة وقضية أسامة العجارمة وغيرها من قضايا أثارت قلقاً كبيراً حول المستقبل وتعبيد الطريق بصورة ناجعة ومتدرجة للملك القادم.

بالضرورة المعارضة الغاضبة وجّهت انتقادات عديدة لحفل الزفاف بوصفه مصطنعاً وخاضعاً لإدارة مرسومة مسبقاً، وهكذا، وباستخدام أدوات الدولة ومؤسساتها لتحقيق هذه الغايات؛ وذلك صحيح تماماً، لكن هذا الأمر يدل على اتجاه إيجابي يتمثّل في شحن قدرات النظام في المجال الرمزي والتنظيمي والاستخراجي وتحقيق مستوى من الدعم الشرعي الكبير عبر القدرات الاتصالية والرسالة الإعلامية التي أصبحت تمثّل اليوم أداة مهمة وفاعلة ضمن أدوات التأثير السياسي، وإذا نجح “القائمون” على الزفاف الهاشمي ببناء المسرح بهذه الطريقة فهذا يعتبر نجاحاً سياسياً وإعلامياً.

لكن ماذا بعد الزفاف الهاشمي وكيف يتم البناء على هذه الاعتقادات الإيجابية والصورة التي تشكلت حول ولي العهد، واستثمارها في المرحلة القادمة؟ هذا هو التحدي الكبير والحقيقي، لأنّ ذلك يتطلب روافع أكثر صلابة وتجاوز سياسات الإدراك على المدى القصير Short-termism إلى مواجهة ظروف وشروط قاسية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهي المسؤولية التي تقع على ولي العهد وفريقه الرئيسي؛ في “بناء خارطة طريق” للمرحلة القادمة، والعودة من التحليق في فضاء الأفراح والصور الجميلة إلى واقع أكثر تعقيداً وتحديات جسام، وهو أمر يدفع إلى عملية مدروسة بعناية في التفصيلات والمحطات الرئيسية بالدقة التي تمّت فيها إدارة “سياسات الزفاف”.

الأسئلة المهمة المتعلقة بحفل الزفاف تتمثل في؛ لماذا نجح حفل الزفاف؟ وما هي الأمور التي أثّرت كثيراً على الأردنيين؟ وما هي المفاصل المهمة في سيكولوجيا الشارع التي يمكن التركيز عليها؟ وما هي السياسات التي يمكن أن يتم إحالتها على المدى القصير لولي العهد كي يحقق فيها نجاحاً ملموساً؟ كيف نطوّر صورة ولي العهد وخطابه السياسي خلال المرحلة السابقة؟ ما هي الإيجابيات التي يمكن البناء عليها؟ ما هي السلبيات التي من الضروري أن نتجاوزها؟ ما هي المراحل التي من الضروري التدرج فيها وتطويرها في المرحلة القادمة؟

الملاحظة الأخيرة أو الرسالة التي توجّه للمسؤولين الذين يتمتمون دوماً بالحديث عن سوداوية الأردنيين والشارع، فإنّ ما حدث يظهر بوضوح العكس تماماً الناس عقلاء وعاطفيون ويحبون بلادهم ونظامهم، ويرغبون بالاستقرار والحياة الفضلى؛ لكن المشكلة هي في عدم فهم الشارع وضعف السياسات الاتصالية والاستهتار في “مشاعر الناس” وهمومهم ومشكلاتهم، وعدم إعداد الدرس جيداً في صناعة السياسات والتشريعات والمواقف السياسية.

للدكتور محمد أبو رمان.