سكن الطالبات: أنظمة صارمة لا يبررها حسن التربية؟

الرابط المختصر

لم يكن من اليسير أبدا الدخول إلى سكن الطالبات الداخلي في الجامعة الأردنية. فالإجراءات الصارمة المتبعة في السكن بذريعة "المحافظة على حسن تربية الطالبات ومستوى التحصيل العلمي" تكاد تلامس إجراءات مراكز الإصلاح.المكان يضج بحركة الفتيات وأحاديثهن. صعدنا إلى إحدى الغرف، بدت مكتظة بثلاثة أسرة وبعض قطع الأثاث القديم. أجابت إحدى الطالبات على أسئلتنا بإيجاز وغادرنا. خرجنا من بوابة السكن وفارقنا كلما ابتعدنا إحساس الخوف من أن تغلق الأبواب علينا ونحن في الداخل.



أسوأ سنوات عمري

سنوات الدراسة الجامعية، حلمنا بها صغارا وسابقنا الزمن لنكبر أسرع ونصلها، من سنحت له الفرصة منا عاشها بانطلاقة الشباب وحماسهم لامتلاك العالم وتغييره، وغادرها حاملا ما تيسر من ذكريات جميلة تلطف واقعية الحياة العملية والزوجية بما فيها من أعباء ومسؤوليات.

لكن عائشة لم تجد بانتظارها ما حلمت به وهي صغيرة، وأنهت حياتها الجامعية حاملة معها ذكريات ثقيلة تحاول نسيانها.

"كانت أسوأ سنوات عمري.. ذكريات مؤلمة جدا، ولا أريد تذكرها"، هكذا وصفت لنا عائشة ابنة الـ23 ربيعا حياتها الجامعية التي قضتها في سكن للطالبات.



كل شيء ممنوع

للسكن التابع للجامعة الأردنية نظام صارم. تغلق أبوابه شتاءا في تمام الساعة السابعة والنصف مساء، وصيفا في الثامنة والنصف. بعد إغلاق الأبواب تقوم المشرفة بتفقد الطالبات في غرفهن. من تحضر منهن متأخرة، ولو لدقائق قليلة تعاقب. فعليها الانتظار في المدخل إلى أن تنتهي المشرفة من التفقد، أي حوالي ساعة كاملة، تخضع بعدها لاستجواب يصل في أحيان كثيرة إلى الإساءة للطالبة وإحراجها أمام زميلاتها. أما من تتأخر أكثر من مدة التفقد، ودون إذن مسبق بناء على طلب ولي أمر الفتاة، فتتصل المشرفة بالأهل لإبلاغهم بغياب ابنتهم. وبالطبع لا يسمح للطالبة بالمبيت خارج السكن إلا بإذن مسبق من ولي الأمر.



قد يبدو أمر المحافظة على بعض الأنظمة واللوائح الداخلية مفهوما خاصة في ضوء إصرار الأهل على نوع من التربية في مجتمع محافظ، لكن الأمر في سكن الطالبات يخرج عن مألوف التربية الإنسانية، فالفتاة عرضة بشكل دائم لنوع من التحقير. وتبدو مشرفات السكن كما لو أنهن "أُفهمن" أن السلوك "البوليسي" هو أفضل وسائل التربية.

تقول طالبة مقيمة في السكن، تمنت عدم ذكر اسمها: "في بداية الفصل الدراسي يجمعون منا جداول المحاضرات لمعرفة المواعيد اليومية للمحاضرات. وإذا لم تعودي وقت انتهاء المحاضرات يقولون أنك كنت "طاشة" و"الله أعلم أين كنت!".

وحتى من تلتزم بالموعد المحدد وتتكرر عودتها عندما يوشك وقت إغلاق الباب، تتعرض لأسئلة وتعليقات المشرفة المسيئة والمشككة في صحة سلوكيات الفتاة، من مثل "الله أعلم وين ومع مين كنت"، "كنت في المقاهي"، وتصل أحيانا إلى الشتم والصراخ أمام زميلاتها: "أنت سايبة، أنت ماشية على حل شعرك".



تقول عائشة: "عشنا في رعب... أخرج مع صديقاتي وأعود إلى السكن في الوقت المحدد، لكن كيف يمكن إقناع المشرفات أنني كنت مع صديقاتي. لدى المشرفات قناعة كاملة بأن كل من تتأخر لغاية الثامنة فهي فالتة وفاسدة وماشية على حل شعرها".

وتشير إلى أن هناك طالبات لا يتحملن الإهانات ويتصادمن مع المشرفات، ويحولن إلى عمادة شؤون الطلبة في الجامعة، حيث يتم التحقيق معهن والضبط ثم الطرد من السكن. "مهما حصل الطالبة دائما هي المذنبة. لا يوجد عدالة".



ولا يسمح للطالبات استقبال الضيوف في غرفهن. وباستثناء الأب والأخ، لا يسمح باستقبال الذكور في قاعة الانتظار، أو حتى دخول بوابة السكن، رغم وجود لافتة في قاعة الانتظار تقول "الزيارة مسموحة للأهل والأقارب.. أوقات الزيارة من 1:00 وحتى6:00".

والأنظمة مفروضة كذلك على استقبال المكالمات الهاتفية. فللمشرفة الحق في معرفة هوية المتصل ورفض تحويل المكالمة إذا كانت من ذكر من غير الأقارب. وعلمنا أن معظم طالبات السكن يدركن أن الهواتف مراقبة.



تقول إحدى المقيمات في السكن: "عندما أتكلم بالهاتف أسمع صوت رفع السماعة الأخرى وأشعر بوجود شخص آخر على الهاتف".

وتؤكد انتصار، طالبة كانت مقيمة في السكن: "نعم يراقبون التلفون.. فليراقبوه، ماذا نفعل.. لا شيء بأيدينا".

أما اغرب الممنوعات فهو حجب الطالبات عن أمام شبابيك غرفهن. "لا يوجد مراوح في الغرف والجو خانق في الصيف، ممنوع أن نرتدي ملابس خفيفة أو أن نقف على الشباك، رغم أننا داخل أسوار الجامعة ومحاطين بالشجر ولا يرانا أحد. وإذا رأوك واقفة على الشباك يا ويلك، عليك كتابة تعهد".

وللمشرفة أيضا صلاحية التدخل في لباس ومكياج الطالبات، داخل وخارج السكن. كما يحق لها تفتيش الغرف في غياب قاطناتها، وتستخدم مفتاح الاحتياط لمداهمة الغرفة ومباغتة من فيها (كبسة)، أو حتى دون طرق الباب وانتظار إذن الدخول، بحجة الاشتباه باقتناء طالبة لأحد الممنوعات، مثل الدخان أو الأرغيلة.

تقول عائشة: "كل شيء ممنوع في السكن، لا يوجد تلفزيون ولا ثلاجة. والدخان ولعب الورق ممنوع، حتى استخدام الكمبيوتر ممنوع سوى لطالبات البرمجة، والإنترنت ممنوع أيضا".



"وكأننا في سجن.. لو كنا في سجن لن نكون مقيدين في مثل هذه القيود، كأننا نعيش في جحيم. يقولون أن السكن هو بيتنا الثاني، هذا فقط كلام ليس أكثر".



وضعوكِ أمانة!

لا تثق المشرفة، كما الأهل، بالفتاة كإنسانة ناضجة قادرة كالذكر على عيش حياتها بحرية دون أن تكون عرضة للـ"انحراف"، فهي في نظر مشرفة السكن والمجتمع، مخلوق ضعيف "منقوص العقل والدين" يحتاج لرقابة دائمة ووصاية لا تنقطع.

تروي إحدى المقيمات في السكن قصة زميلتها التي حدث بينها وبين المشرفة صدام على خلفية تأخرها. فاستدعت المشرفة أهل الطالبة وأطلعتهم على مخالفة ابنتهم للقوانين بتأخرها، إضافة إلى ملاحظات حول تغيرات طرأت على لباسها وصديقاتها. وعندما عادت للبيت اعتدى عليها أهلها بالضرب.

"الأهالي راضون عما يجري"، تقول عائشة. "كنت اشتكي لأهلي فيقولون أن هذا أفضل وأكثر أمنا".

وترى انتصار أن القيود المفروضة من المشرفات هي بإيعاز من الأهل. "الأهل يفرضون قيود على بناتهم ويشجعون المشرفات على هذه الممارسات".

تقول إحدى الطالبات: "هناك أهالي يتقبلون ويفضلون أنظمة السكن وطرق معاملة المشرفات ويريدون أن يضغط على بناتهم، وهناك أهالي يعترضون عليها".

"المشرفات يكررن القول "أهلك وضعوك هنا كأمانة، ونحن نريد أن نكون بقدر الأمانة".



متى ينتهي النظام لتبدأ الحرية؟

يوضح د. بلال الجيوسي، أستاذ في علم النفس وعميد شؤون الطلبة في جامعة البتراء، إن كل محاولة للضغط على حرية الفرد دون أي مشروعية يسبب أذى نفسي في جوانب كثيرة. "أولا، إحساسه العميق بالحرية وهو جزء من إحساسه بإنسانيته. ثانيا، يؤثر على تقديره لذاته. وثالثا، يدفعه إلى أعمال سرية يقوم بها ويتعلم دروب من الكذب والتهرب لا داعي لها، و يترك أثرا سيئا على علاقاته".



"عندما تكون الطالبة في غربة ويزيد من غربتها الضغوط الأكاديمية، تجدها تعيسة بدل أن تكون سعيدة بأحلى مرحلة في حياتها، وهذا يمكن أن يترك إحساسا قويا بالتمرد. والتمرد له جانب إيجابي، عندما يكون التمرد عقلانيا فيؤكد الإنسان ذاته، ولكن له جانب سلبي عندما يتمرد على السلطة أيا كانت".



"الضغط أكثر مما ينبغي على الطالبة يجعلها أكثر عصبية ويؤثر على دراستها وعلى علاقتها مع صديقاتها. المعادلة الأبدية من الحرية والنظام يجب أن تطرح في كل المساكن الجامعية وتصبح موضوع نقاش: متى تنتهي الحرية ليبدأ النظام، ومتى ينتهي النظام لتبدأ الحرية".



ويتابع الجيوسي: "عندما تشعر انك لا تملك زمام الأمور بين يدك تشعر بالعجز. من أهم الأمور في حياة الإنسان أن تكون كافة أموره في يده، المادية والنفسية والاجتماعية. وجود قيود كثيرة يعطي إحساسا بالعجز وينعكس على تقدير الإنسان لذاته، وهذا يؤدي إلى إصابته بالاكتئاب والقلق مما يزيد الأمر سوءا".

تحت وصاية الرجل

يرى د. سرّي ناصر، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، أن مجتمعنا ما زال مجتمعا تقليديا، وتلعب الأسرة دورا محوريا في سلوك الإنسان، وسلوك الإنسان لا ينعكس على نفسه فقط بل على الأسرة بأكملها. "من هنا نجد أنه ما زال مطلوب من الفتاة في مجتمعاتنا أن تقوم بدور تقليدي، وأن لا تقوم بأي سلوك قد يؤثر تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على أسرتها".



"عندما يسمح الأهل لبناتهم الالتحاق بأي جامعة يتم التأكد أنهن سيكن في مكان آمن، والجامعة ستكون مسؤولة عنهن. هذا يعني أن الفتيات اللاتي يتقبلن نظام الجامعة لا يلحقهن أي أذى أو إنتقاد".



ويوضح: "بغض النظر عن كل ما يقال أو ما يجري من برامج لإعطاء المرأة حقوقها، فهي ما زالت تعاني من عدم بروز هوية لها في المجتمع، مثل أن يقال أنها بنت فلان أو زوجة فلان، أي أنه ليس لها هوية خاصة بها. وهي لا تستطيع التصرف كما يحلو لها عندما تصبح ناضجة في تصرفاتها لأن المعايير التقليدية تفرض عليها دور معين. لذلك هي تسلم من الأب إلى الزوج وتكون تحت وصاية رجل".



ويؤكد ناصر أن مجتمعنا يسير نحو الحداثة لأن المرأة أصبحت متعلمة وتمارس مهن لم تمارسها من قبل. "تستطيع الفتاة الاعتناء بنفسها أكثر بكثير من الذكر. الأنثى في مجتمعنا عادة يحسن تربيتها، وهي قادرة على أن تكون مسؤولة عن نفسها، دعينا نقول الأكثرية منهن".



ويستدرك: "الآن المسألة الكبيرة هي أننا إذا سألنا هؤلاء الطالبات اللاتي يدرسن ويتعلمن ويحاولن التميز أو تمييز أنفسهن، ماذا يردن؟ ما هي طموحاتهن؟ ستجدين أن طموحهن هو الزواج والإنجاب وممارسة عمل ما. منذ بداية تربية الفتاة يضعون في عقلها وطموحاتها أنها يجب أن تتزوج، يجب أن تكون في حماية رجل. هذا ما زال مجتمعا تقليديا".



اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة لا تكفي

حالة سكن طالبات الجامعة ليست استثنائية بالقطع بل هي حالة عامة من التمييز ضد المرأة ابتداء بالأسرة وليس انتهاء بالعمل.

رغم كل المؤشرات التي تدلل على التطور النوعي في وعي المرأة والفتاة الأردنية، وتكفي نظرة واحدة على نسب الإناث إلى الذكور في الجامعات أو في خريجيها وفي نسب النجاح في الثانوية العامة ومستوى التحصيل العلمي، وتكفي نظرة واحدة أيضا لمراقبة سلوك المرأة في البيت والعمل والشارع مقارنة بشريكها الذكر، لتدلل على مدى جديتها ونضج وعيها وحسها بالمسؤولية الاجتماعية ربما بما يفوق الذكر ومع ذلك فهي لا تزال "الضلع القاصر" وهي لا "تزال عورة" وإنسانيتها محكومة بجسدها وهي التي تحتاج لوصاية الرجل حتى لو كان هذا اقل شأنا منها.



لا يكفي أن الأردن لم يعدل قوانينه الخاصة بما يتلائم وما وقع عليه من اتفاقيات دولية، خاصة "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" في عام 1980، وعلى ميثاق حقوق الإنسان وأكثر الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمساواة بين الجنسين وعدم التمييز، فلا يزال البلد والمجتمع بعيدان عن أسلوب تربية وتعليم يقوم على احترام إنسانية المرأة واحترام عقلها والتوقف عن مكيال "الشرف بالجسد".




أضف تعليقك