رمضان في الصحافة: تكريس الواقع السائد

الرابط المختصر

ربما لا تكون وسائل الإعلام مسؤولة عن خلق الوضع الراهن الذي يعيشه الجمهور في شهر رمضان، ولكنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن تكريس هذا الوضع بغض النظر عن دور كل القوى الأخرى الفاعلة في المجتمع.ليس من قبيل الكفر، او اكتشاف السر، القول بأن شهر رمضان الذي كان مفترضا فيه، وفقا للشريعة الإسلامية، ان يكون شهرا للعبادة وتعزيز القيم الايجابية لدى المسلم في مناحي حياته المختلفة من التعبد إلى التضامن والتكافل والشعور مع الفقراء، ومعه تعزيز القيم الحاضة على العمل المتقن وتحمل الصعاب والتآخي والتراحم، لم يعد كذلك مطلقا، بل أصبح بقدرة الواقع أولا ثم بسيطرة وسائل الإعلام لاحقا شهرا "فلكلوريا" و"استهلاكيا" تسوده كل النزعات المناقضة لما كان يبتغى منه تحقيقه.

في شهر رمضان، وفقا لكل المؤشرات المعلنة من قبل جهات رسمية وأهلية ووفقا للمشاهد العيان، ترتفع النزعة الاستهلاكية إلى حدود ضاغطة على موازنات الدولة والاسر سواء بسواء، ويزداد الطلب على مصادر الطاقة، وتتسلق أسعار السلع وبخاصة الغذائية منها، أرقاما فلكية، هذا ناهيك عن نقص بعضها في الاسواق بسبب ارتفاع الطلب أو بسبب الاحتكار. وتتقلص إلى حد فاجع إنتاجية العمل، وترتفع إلى أرقام كبيرة حوادث الطرق والازدحام والمشاجرات وضيق النفس والى ذلك من كل المظاهر التي تشكو منها الناس والصحافة (انظر مثلا، مقال خالد الوزني في "الرأي" (9/10) أو مقالات نزيه بنفس الصحيفة (23/9 و4 و25/10) أو مقال سميح المعايطة في "الغد" (6/1) وياسر أبو هلالة في نفس الصحيفة (5/10)، وباتر علي وردم في "الدستور" (10/10) وغيرها من المقالات على قلتها، إضافة إلى بضعة أخبار متفرقة حول حركة الاسواق وحوادث الطرق).

إذا كان هذا هو واقع الحال الذي آل إليه الشهر الفضيل، فما هو دور الصحافة في هذا الواقع، والى اي حد ساهمت في تكريسه أو في محاولة الدفع للخروج منه؟

الثابت من خلال مراجعة أداء الصحافة المحلية خلال شهر رمضان وعنه، وإذا ما طرحنا جانبا بضعة مقالات، أشرنا إليها سابقا، فإن الصحافة سعت بكل ما أوتيت إلى تكريس الواقع بتحويل رمضان مناسبة للاستهلاك المنفلت، ثم طقسا فلكلوريا تحضر فيه خرافات المسحراتي والخيم الرمضانية والدراما التلفزيونية وروائح المطبخ والمسابقات و"الحزازير" تبسيطية ومتشابهة ناهيك عن الفتاوى المتكاثرة والمتكررة.

لأن رمضان تحول الى شهر استهلاكي بامتياز، ولأن هذا الوضع يناسب الصحف من حيث هو فرصة لتحقيق مردود مالي اعلى من خلال الاعلانات الدافعة الى مزيد من الاستهلاك، يصح الزعم ان الصحافة كرست وتكرس هذا الواقع، فهي تستعد كل عام لجني هذا المردود من خلال تخصيص مواد للشهر تصدر على شكل ملاحق يومية متضمنة، وهذا هو الهدف الاساس منها، مسابقات تصوغها بالتعاون مع الشركات المعلنة، فيتحقق الإعلان للشركة وتجني الصحف دخلا اضافيا، ويزيد العبء المالي على المستهلك بما يتعزز في إدراكه من نزعة استهلاكية.

في ما يخص الملاحق فإن "الرأي" تصدره تحت مسمى "أيام رمضان"، اما "الدستور" فتطلق عليه "قناديل" و"العرب اليوم" "رمضان اليوم" واخيرا "الغد" الذي تصدره بعنوان "حياتنا في رمضان".

مضمون الملاحق

تتشابه الملاحق اليومية لرمضان عند كل الصحف وكل عام، سواء في العناوين العريضة او في بعض التفاصيل، فكل الملاحق تتضمن: تحقيقات عن بعض العادات الرمضانية السائدة مثل الخيم الرمضانية او بائعي العرق سوس او القطايف او المسحراتي او موائد الافطار عند المسلمين في هذا البلد او ذاك او نوستالجيا رمضان ايام زمان، ثم هناك قسم ديني خاص تتناول فيه الصحف نتفا من سير الاولين او بعض الآيات القرآنية أو الاحاديث النبوية او كيفية أداء بعض الشعائر الدينية، او تحقيقات عن المساجد في بلاد الاسلام ثم هناك الفتاوى وهي تقريبا متكررة حول ما يجوز او لا يجوز للصائم خلال الشهر، ثم هناك امساكية رمضان وهي واحدة بالطبع. القسم الاكبر تخصصه الملاحق للترويج للدراما التلفزيونية عبر إجراء أو إعادة نشر مقابلات لهذا الفنان أو ذاك أو عرضا لاهم المسلسلات ودائما مرفقة بصور ملونة للممثلين او للقطات من المسلسلات، وبالطبع مواعيد بث المسلسلات على الاقنية التلفزيونية. واخيرا وفوق كل ذلك قسم الطبيخ ومائدة رمضان و"الغذاء الصحي".

ولكن الصحافة لا تغفل ايضا عن ما يجري في الواقع من عادات تنتهك المعنى الاصيل لشهر رمضان، فأحيانا تجد في ملاحقها تحقيقات عن هبوط أداء الموظفين ملحق "الدستور" مثلا في قسم "رمضان والعمل"، وكذلك ملحق "العرب اليوم" في مواد من نوع "السلوك العصبي والمزاج ليسا من رمضان في شيء"، ولا تخلو الملاحق من بضعة تقارير حول وضع الاسواق، وغيرها، ولا تنسى الملاحق مشكلة الفقر، ففي كل عدد تعثر على مادة تتحدث عن حالة فقر.

نظرة بسيطة قد تعطي انطباعا بأن الملاحق الرمضانية منوعة وتغطي كل هموم الجمهور وثرية بالمضمون، غير ان واقع الحال ليس كذلك، وهنا بعض الملاحظات على محتوى الملاحق:

1- يخصص القسم الأكبر من الملاحق لتحقيقات حول العادات الرمضانية السائدة ثم لقسم الطبخ وتاليا لقسم الترفيه وفي اغلبها مواد مكررة او منقولة وقلة هي المادة الاصلية، كما ان اكثرها تحقيقات تجرى على عجل وتقدم "كوجبة خفيفة".

2- تقدم حالات الفقر في كل الملاحق بوصفها حالات فردية، تستحق الشفقة والعطف في الشهر الفضيل، وهو عمل إعلامي تجزيئي بامتياز يسلخ الفقر بوصفه ظاهرة مجتمعية تستحق التناول من منظور عام.

3- في المقابل تزخر بعض الصحف والملاحق بمواد دعائية تقدم على شكل أخبار دون أي تميز عن نشاطات الشركات المعلنة في شهر رمضان والهادفة إلى تلميع صورة هذه الشركات فتجد مثلا أخبارا عن ان الشركة الفلانية أقامت خيمة رمضانية تقدم فيها "وجبات الرحمن او ان شركة اخرى قامت بتوزيع سلة غذاء على الفقراء وغيرها قام بتقديم معونات مالية او عينية وهكذا.

4- إذا كانت كل الملاحق مكرسة في الأساس لتكريس واقع قائم فإن السياق التجاري الاستهلاكي يظهر اكثر من غيره في ما تتضمنه الملاحق جميعها من مسابقات رمضانية ليس هدفا بالطبع زيادة وعي المواطن او ثقافته العامة فالأسئلة ليست هي المقصودة بقدر الإعلان والترويج للشركات وهكذا فإن كل ملحق يضم اكثر من صفحتين يوميا للشركات المقدمة للجوائز.

5- تتسم المواد الدينية المنشورة في الملاحق بكونها موادا اشتغل عليها بعجل فيتكرر مضمونها كل عام، وهي ثانيا مواد تستعيد الماضي الصالح منسلخا عن الواقع الراهن. إذ لا تحتوي الملاحق أي مواد دينية جدية تعالج الاسلام راهنا. وهنا تبدو الصحافة الاردنية، باستثناءات بسيطة مثل ملحق "سياسات" في "الغد"، بعيدة كل البعد عن الجدل المفتوح حول الاسلام في ضوء كل التطورات التي يشهدها العالم خاصة بعد هجمات أيلول. وبغياب مضمون حقيقي كهذا عن الملاحق فإن الصحافة تكرس النظرة السائدة لرمضان بوصفه شهر "راحة" يحتاج فيه المواطن لمادة خفيفة لا تثقل على معدته ومن ثم عقله.

5- تتسم ملاحق رمضان بزيادة في "تسويق" رمضان و"مستهلكاته". فتزين كل الصحف ملاحقها يوميا بصورة غلاف وصور داخلية ملونة هدفها في الأساس ليس عكس الواقع بقدر توخي جمالية الصورة بحد ذاتها، وهو ما يسهم في تزيين وتجميل الاستهلاك وايضا التخفيف من انطباع المشاهد لصور الفقر او الصور المرافقة لتقارير حول "المظاهر السلبية" السائدة.

6- تحمل المادة المتضمنة في ملاحق رمضان تناقضات واضحة، فهي وان كانت تنشر بعض التقارير عن ظواهر سلبية تسود خلال الشهر، تعمل على تكريسها بوعي او من دونه، من خلال كل المادة المنشورة، فإذا كان الموظف يتقاعس عن عمله في النهار فهذا لان الملاحق تدفعه إلى السهر حتى مطلع الفجر لمشاهدة المسلسلات الرمضانية التي لا تنقطع وهي أي الملاحق إذا كانت تنشر موادا او مقالات تحض على التراحم والشعور مع الفقراء وتخفيف "النهم الاستهلاكي" تروج لهذا النهم من خلال الإعلانات الملونة والمسابقات ومواد الطبخ وغيرها.

هذا التحليل لا يدعي الإحاطة بكل الأداء الصحفي خلال شهر رمضان أو عنه بقدر ما هو عناوين تصلح لتحليلات مضمون اكثر تفصيلية.

إلى ذلك إذا كانت الصحافة المحلية جادة فيما تقوله عنه نفسها من أنها صاحبة رسالة اكثر مما هي ناقلة خبر، فالأجدى أن تقوم بمراجعة أدائها ومضمون مادتها الإعلامية لرمضان.

أما وان الصحف تشهد منافسة حامية من قبل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة فهي مدعوة أيضا لمراجعة هذا المضمون الذي بات متكررا حتى الإملال ولا نخاله يدفع الجمهور إلى الإقبال على قراءة الصحف.


أضف تعليقك