رحلتي مع الباص العمومي

رحلتي مع الباص العمومي
الرابط المختصر

الآلاف من المواطنين يركبونه، وفيه يذهبون إلى أعمالهم وبيوتهم، وبأجرة لا تزال في متناول أيديهم، وداخله قصصا ومشاهدات كثيرة.فإذا
أردتم أن تكونوا مع القصص اليومية عن حياة الناس ومشاكلهم عن كثب، فما عليكم إلا
أن تعتمدوا على الباص كوسيلة نقل يومية.


ثلاثين
قرشا كانت كلفة رحلتي في عالم الركاب الباحثين عن لقمة عيشهم، إنهم مواطنون.


في
هذه الرحلة والتي بدأت من مجمع رغدان مرورا بوسط المدينة، شارع وادي صقره، الحدائق
وصولا إلى المدينة الطبية، كانت مدتها تقارب الساعة، وكانت البداية بانتظار الركاب
كي يمتلأ الباص..وبدا الجميع بالركوب وسط صياح باعة البسطات وصوت قرقعة النقود
المعدنية داخل صندوق الباص.


بداية
الرحلة!

هنا،
تحرك الباص وبدأت الرحلة وبدأت أدون مشاهداتي وإثناء مسيرنا كان التوقف عند زاوية الجامع
الحسيني في وسط البلد، ليفتح أبوابه على مصرعيه ويصعد فوجا من الناس، وكانت السيدة
الخمسينية في عمرها من أوائل الراكبين، كانت مندفعة لأجل الوصول إلى مقعد تسبق فيه
من كان معها في الموقف..ملابسها مهترئة، والتعب كان واضحا على ملامحها..أرادت أن
تستقل الباص لتريح نفسها من مشقة مسير خاضته منذ ساعات الصباح الباكر بحثا عن قوت
يومها.


راقبتها
وهي تدخل الباص وسمحت لنفسي أن أسمع ما دار بينها وبين سائق الباص الاربعني من
عمره رغم جلوسي على مقعد يبعد أمتارا عنهما.


راح يضاحكها
صاحب الباص ويقول لها "سبحان الله أنت دائما تركبين معي"، أجابته على
عجالة "نعم بالفعل سبحان الله ماذا أفعل"..


ومضت
ضاحكة تبحث عن مقعد تجلس عليه لتريح جسدها الذي أثقلته الهموم، وجدت ضالتها.. بكرسي
فارغ لتطلق لخيالها العنان عبر زجاج الباص المتسخ لتتأمل ما حولها شاردة في بحر
افكارها.


جلست
السيدة على الكرسي، وثم أكملت تأملي في هذا الباص متفحصة وجوه الركاب واحد ضاحك
وآخر حزين وكأن كل وجه له قصه؛ سرحت للثواني وتأملت العالم الخارجي عبر نافذتي
التي كنت بالكاد أرى من خلالها... رأيت ملامح الشوارع والأبنية والازدحامات
المرورية الخانقة وكذلك الفقر الظاهر في الأماكن والأناس.


رحلة
أخرى!

ركبت
باصا بعكس رحلتي الأولى من المدينة الطبية وحتى مجمع رغدان، وعندما صعدت إلى الباص
كانت حالة من الهدوء تخيم على أجوائه، كل واحد من الركاب يتأمل شباك نافذته وسارحا
بعالمه الخاص..وهناك أيضا من يقرأ كتابا أو يتصفح الجريدة.


تحدثت
مع من كان يجلس بقربي، والجالس بقربي عائلة مكونة من أم وأولادها الخمسة، قالت لي:
"ما أحلى ركبة الباص هذه أول مره أركب فيها الباص أنا وأولادي أشعر أننا في
رحلة بالفعل رائع الشعور، شاطرتها نفس المشاعر وعادت الذاكرة إلى الوراء لسنوات
قليلة كنت فيها أركب الباص وأنا متجهة صوب جامعتي في مدينة إربد.


توقف
الحديث مع هذه السيدة، وأكملت أسجل في دفتري ما يدور في هذا العالم.


وإذ تبدأ
الحكاية الأخرى مع أبو محمد الثلاثيني من عمره، أبو محمد يقضي معظم وقته في الباص متنقلا
من هذا الباص إلى ذاك حتى يصل إلى مكان عمله وبالعكس، فركوب الباص بالنسبة له يومي
لا يمكن الاستغناء عنها.


استوقفني
هذا الشخص وسألته ما بك! تبدو متعبا.


وهنا
بدأ بالحديث " لقد تعبت من المواصلات ماذا سأفعل يوميا أستقل الباص المتجه من
الزرقاء إلى المحطة ومن ثم استقل باصا أخر حتى أصل شارع المدينة الطبية لأصل إلى
مكان عملي، أنتظر الباص قرابة 15 دقيقة ليصل، وعندما يصل الباص استقله وابقى ساعة
ونصف واقفا كيف نقعد وهناك امرأة وافقه نحن نشامى، فمن باب الذوق اقوم وادعها تجلس
مكاني ونادرا ما جلست في رحلتي اليومية في الباصات".


ويتابع
سرد حديثه مع عالم الباص الذي أصبح بيته الثاني، فيقضي أبو محمد وقتا فيه حيث أنه
يشعر أن عائلته لا يراها بقدر ما يرى الباص يوميا..على حد تعبيره، يقول: "ادفع
في كل رحلة استقلها 20 قرشا فرغم التعب إلا أن الباص يوفر علّي المال، والمشكلة في
المواصلات أنني أتعرض يوميا للبهدلة لمدة ساعة ونصف".


"في
رحلتي لا أفكر بشيء مميز إلا متى سأصل إلى مكان عملي لارتاح من عناء الرحلة".


رغم
قضاء أبو محمد وقتا طويلا في رحلة الباصات إلا أن الأمر أصبح لديه كالروتين، حيث
أمضى صديقا لكل سائقي الباصات وركابه ..متبادلا الحديث مع من حوله يوميا ومطلعا
على مشاكلهم.

لا
يلبث أن يتوقف الباص حتى يسير وهكذا حتى الوصول إلى النقطة النهائية للمجمع..عبارات
عدة مزينة على هيكل الباص "الرجاء وضع النقود في الصندوق "،"الصرافة
ممنوعة منعا باتا "، "الرجاء دفع الأجرة كاملة وعدم احراج السائق"،
" للشكاوى والملاحظات اتصل على الرقم التالي". فكلها عبارات تمتزج مع
صوت الأغاني الخليجية والشعبية الخارجة من سماعات رديئة في الأصوات المنبعثة منها
وكذلك في شكلها المهترء.


هنا،
انتقلت إلى باص آخر متجه صوب منطقة أبو نصير وبالعكس إلى وسط البلد، ركبت الباص في
ذروة ازدحامه بالمواطنين من مختلف الأعمار، لفتني على ظهر مقعد كتابات تتحدث عن الحب
واللوعة والاشتياق والأسماء والرموز وقلوب الحب المرسومة بطريقة فوضوية... وتواريخ
ترمز إلى حدث مهم مرت على من كتابها،فضلا عن المقاعد الممزقة.


سيدة في
الخمسينيات من عمرها قاطعت حبل أفكاري وقالت: "مرحبا هل تفسحي لي المجال حتى اجلس
بقربك، إجابتها: نعم تفضلي، وهنا بدأت بالحديث معها وقلت لها هل تستقلين الباص
يوميا؟ أجابت : " أنا ست بيت ولست موظفة اخرج مع جاراتي في أوقات فراغنا إلى
وسط البلد ونستقل الباص حتى نصل إلى وجهتنا، اركب التاكسي والسرفيس ولكن ركبة الباص
مختلفة فهو عالم بحد ذاته".


"نادرا
ما اركب الباص لوحدي وإذا كنت وحيدة أتأمل من حولي وابدأ بالتسبيح أو أكون صداقات
مع من يجلس بقربي".


مشهد
رائع صادفني في الباص، مشهد حب أبطاله لا تتجاوز أعمارهم عن العشرين عاما.. همس
وضحكات وتشابك أيدي تبادلها معا حتى وصلا لآخر المجمع.


نهاية
الرحلة!

توقف
الحديث مع السيدة الخمسينية، وترجلت من الباص، وقفت لثواني انظر إلى المجمع، تفحصت
المكان من حولي وأدركت أن الرحلة قد انتهت بوصولي إلى البلد.


بعدها
تابعت مسيري مشيا على الأقدام تحت أشعة الشمس الدافئة باتجاه مكتب عملي لأعود
واسرد لزملائي رحلتي مع باص المؤسسة.


رحلة
الباص، رحلة العناء اليومي لآلاف المواطنين، عالم مليء بقصص وهموم ، فاكتشفت
المشقة التي يخوضها أبو محمد وأمثاله يوميا مع عالم الباصات.


قبل نزولي
من الباص، أردت أن اترك تذكارا رمزيا على أحد المقاعد كتبت عليه...بتاريخ 25-1-2007 مررت من هنا. أردت لهذه الرحلة أن تؤرخ على مقعد
الباص.

أضف تعليقك