ذكرى النكبة الفلسطينية: اضطهاد وتكميم أفواه عرب الداخل

الرابط المختصر

تحل الذكرى الـ76 لنكبة الشعب الفلسطيني، هذا العام، في ظروف استثنائية بخضم حرب إبادة على غزة، دخلت شهرها الثامن، وتعيد إلى الأذهان وتُذكّر بالكثير من مشاهد النكبة الفلسطينية عام 1948، وما شهده الفلسطينيون حينها من نزوح وتشريد ودمار وشهداء وعودة إلى خيم التهجير، بتوقيع "المؤسسة" ذاتها، ولكن بفارق زمني طويل. وتأتي ذكرى النكبة الفلسطينية، اليوم، في ظلّ سياسة اضطهاد قومي وتكميم أفواه وملاحقات سياسية تطاول فلسطينيي الداخل المحتل، أعقبت 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويمكن تشبيهها بفترة الحكم العسكري.

حكم عسكري في ذكرى النكبة

وعملت السلطات الإسرائيلية، على فرض سياسة "الممنوعات" على فلسطينيي الداخل منذ 7 أكتوبر الماضي، والتي شبّهها الكثيرون بفرض نوع من الحكم العسكري شمل تكميم الأفواه والملاحقات السياسية للناشطين الفلسطينيين ومنعهم من التعبير عن رأيهم في وسائل التواصل الاجتماعي.

تمّ التحقيق واعتقال المئات من أبناء الداخل الفلسطيني، كما منعوا من التظاهر رفضاً للحرب

وتمّ اعتقال المئات من أبناء وبنات الداخل الفلسطيني المحتل والقدس المحتلة، وقد فرضت الإقامة الجبرية على البعض ممن تمّ إطلاق سراحهم بعد التحقيق معهم. وقال رئيس قسم الأمن والمهمات الخاصة في النيابة العامة التابعة للاحتلال، شلومي أبرامسون، في مقابلة نشرتها صحيفة "كلكليست" أول من أمس الإثنين، إنه "منذ 7 أكتوبر وحتى نهاية عام 2023، نُقل إلينا 818 طلباً لفتح تحقيقات في ملفات تحريض كي نصادق عليها، ووافقنا على التحقيق في 63 في المائة من هذه الملفات. وقدمنا حتى نهاية العام الماضي، 132 لائحة اتهام، وأكثر من 17 لائحة اتهام أخرى في الربع الأول من عام 2024، وأعتقد أنه سنصل إلى 100 ملف (كهذا) سنوياً". وكانت غالبية التهم تتمحور حول "التحريض والتماهي مع منظمة محظورة"، بالإضافة إلى تهم "أمنية" وأخرى تقع تحت مسمى قانون مكافحة الإرهاب.

 

"ذكرى النكبة الفلسطينية".. عن الإحلال المستمرّ منذ 1948

وكانت السلطات الإسرائيلية منعت التظاهرات في الداخل الفلسطيني المحتل، وشهدت تظاهرة نظّمها ناشطون فلسطينيون في مدينة أم الفحم، في 19 أكتوبر الماضي، رفضاً للحرب، حملة اعتقالات نفذّها الاحتلال طاولت 12 معتقلاً، ما زال اثنان منهم رهن الاعتقال، وهما أحمد خليفة ومحمد طاهر جبارين. ومنعت سلطات الاحتلال منذ ذلك الحين أي حراك أو تظاهرة محلية دعماً لغزة، حتى شهر مارس/آذار الماضي، حين خرجت تظاهرة في كفركنا (شمال مدينة الناصرة) ضد الحرب بتنظيم من لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في الداخل المحتل.

وفي السياق، يرى الكاتب أنطوان شلحت، بمناسبة ذكرى النكبة الفلسطينية، أنه "حتى قبل الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، عادت النكبة الفلسطينية إلى جدول الأعمال في إسرائيل على خلفية أحداث عدة مرتبطة بها، بطريقة ما. وفي موازاة ذلك، استمرت أيضاً عمليات الكشف عن وثائق من الأرشيف الإسرائيلي تتطرّق إلى ما ارتكب من مجازر وآثام خلال نكبة 1948، بما جعل هذا الماضي الإسرائيلي المظلم يلقي بظلاله على الحاضر. كما أن هذا الماضي الظلامي ألقى بظلاله قبل ذلك على الهبّة الفلسطينية التي اندلعت في مايو/أيار 2021 وشملت على نحو رئيسي ما يعرف باسم "المدن المختلطة" داخل أراضي 1948، وهي بالأساس مدن اللد والرملة ويافا وعكا وحيفا".

 

ويتابع شلحت: "كشفت هذه الهبّة عن بنية عنصرية لدى قطاعات كبيرة في المجتمع اليهودي لم تسلّم ويبدو أنها لن تسلّم بفكرة أن العرب الفلسطينيين في إسرائيل لهم انتماء وطني، وهم جزء من الشعب العربي الفلسطيني ومن قضيته التي بلغت الذروة في أحداث النكبة. وهذه القطاعات تصعّد حملتها ضد هؤلاء الفلسطينيين في خضم الحرب الحالية أيضاً".
ويشرح شلحت أنه "إذا ما توقفنا عند مناسبة إحياء ذكرى النكبة العام الماضي، يمكن القول إن الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ"قضية الأقلية العربية في إسرائيل" كانت قليلة، وظلّت الغلبة من نصيب أصوات خلصت إلى نتيجة مسبقة الأدلجة، فحواها أن إحياء النكبة يشكل أبلغ تعبير عن التمسك بالماضي وعدم الاستعداد لمجاراة الحاضر من خلال نسيان ما كان والتطلع من ثمّ إلى ما سوف يكون.

أنطوان شلحت: عادت النكبة الفلسطينية إلى جدول الأعمال في إسرائيل قبل حرب غزة

وكان من اللافت برأيه، على نحوٍ خاصٍ أن بعض هذه الأصوات، بمن في ذلك تلك المحسوبة على اليمين الإسرائيلي الجديد، ذهبت إلى الاستنتاج بأن مشاركة حزب عربي في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي (رئيس القائمة العربية الموحدة النائب في الكنيست منصور عباس عن "الحركة الإسلامية"، الذي وقف وراء حكومة نفتالي بينيت – يئير لبيد المنتهية ولايتها)، للمرة الأولى في تاريخ الأحزاب العربية التي لا تدور في فلك الأحزاب الصهيونية، يعتبر دليلاً واعداً على اصطفاف مأمول للفلسطينيين في إسرائيل، بين فريق يفضل التمسك بالماضي انطلاقاً مما حدث في مرحلة النكبة على الأقل، وبين فريق آخر حسم أمره بأن يتعامل مع الحاضر، وبأن يدير ظهره إلى الماضي المرتسم تحت وطأة النكبة على وجه التحديد". ويضيف: "إذ نشير إلى هذا الجدال الدائر بين الإسرائيليين، فلتوضيح جانب من جوانب التفكير الإسرائيلي في ما يتعلق بالنكبة، وهو الجانب الذي يشي بهروب أصحابه إلى الأمام من مستحقاتها عموماً، وخصوصاً في ما يرتبط بما يعرف بعلاقات الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية داخل أراضي 1948".

وبرأي شلحت، فإن "أصحاب هذا التفكير يتجاهلون أن الفلسطينيين أينما كانوا ليسوا في حاجة إلى أي مُسبّب في الظاهر كي يسترجعوا نكبتهم، فهي كما قيل ويُقال مراراً وتكراراً مستمرة في الحاضر، سواء من خلال المواجهة التي يخوضونها مع إسرائيل، أو من خلال المواقف التي تستجد بين الفينة والأخرى، إن كان من طرف جهات عربية أو دولية". ويتابع: "جولة الكفاح التي خاضها الفلسطينيون في عام 2022، وكذلك الجولة التي سبقتها في عام 2021 والتي بدأت من القدس (حي الشيخ جرّاح) وسرعان ما شملت سائر مناطق فلسطين ولا سيما أراضي 1948، قد تكونان جاءتا بالصدفة متزامنتين مع ذكرى النكبة الفلسطينية، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال عدم رؤية أن السبب الواقف وراءهما يعود إلى تلك النكبة، وإلى تداعياتها المستمرة، التي ليس من المبالغة القول إنها بمنزلة الشرارة المتوهجة التي لا تخبو لأي جولة كفاح فلسطينية، بما في ذلك الراهنة والسابقة، وكذلك المقبلة، كما كانت الحال حتى الآن".

ويلفت شلحت في ذكرى النكبة إلى أن "الأمر الأكثر جدية في الأعوام القليلة الماضية، والآن في خضم حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، هو ما طرأ من مستجد على مواقف اليمين الإسرائيلي، والذي تراكمت إشارات قوية لديه تشي بأنه قام بالانتقال من إنكار النكبة إلى الإقرار بها وبفظائعها بجانب التلويح علناً بالاستعداد لتكرارها، كما انعكس ذلك في تصريحات عدد من المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين والبرلمانيين". وبرأيه، فإن "ذلك يثبت أن الادعاءات التي تتمسك بها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وفحواها أن الرواية الفلسطينية للنكبة تمثل تشويهاً خسيساً لوقائع التاريخ هي ادعاءات باطلة من أساسها".

نكبة متواصلة

وتحل ذكرى النكبة في ظل حرب غزة التي فرضت نظام حكم عسكري على فلسطينيي الداخل. ويقول رئيس لجنة الحريات المنبثقة من لجنة المتابعة، الشيخ كمال خطيب، إن ذكرى النكبة تتزامن اليوم مع النكبة الجديدة التي تقع على غزة عبر تهجير مليونين من سكانها وهدم 70 في المائة من مساكنها وهو ما يفوق ما حصل في عام 1948. لكنه يؤكد على أنها "العقلية إياها التي آمنت بالقتل والبطش وارتكاب المجازر لتحقيق هدف التهجير هي نفسها التي تمارس اليوم القتل وارتكاب المجازر الجماعية بهدف التهجير". 

ويضيف: "إنه المشهد ذاته، لكن اختلفت فقط الأسماء ولافتات المجرمين وأسمازهم، أما السياسة فهي ذاتها التي كانت تمارس تماماً في عام 1948 تمارس اليوم، وإلا كيف لنا أن نفسّر أن يتم تهجير مليوني إنسان في وضح النهار وعبر البث المباشر، في عملية يشاهدها العالم كلّه ولا يرمش له جفن؟". وبرأيه، فإن الأمر يحدث على هذا النحو "لأن هؤلاء مقتنعون بأن هذا هو السبيل الوحيد من أجل تحقيق أهدافهم".

ويلفت خطيب إلى أن فشل التهجير لأهل غزة إلى خارج حدود الوطن، هو الدرس المستفاد، وإصرارهم على البقاء داخل حدود الوطن وحتى إن هجروا من بيوتهم، وهذا في حد ذاته يمثل نقلة نوعية فاجأت المجرم والجزّار وأفشلت عليه مشروعه وأفسدت عليه قصصه"، بحسب تعبيره. ويشدّد خطيب على أنه "رغم كل ما يحصل سواء في غزة أو في الداخل عبر الهدم بالجملة كما حصل في النقب، فإن شعبنا عقد العزم على ألا يكون هناك تهجير بعد اليوم، وأنه أمام البطش السلطوي لا خيار إلا الصمود والثبات، وإن كان الموت، فالموت في أرض الوطن وليس في أرض سواه".

ويتابع: "نحن نعيش في ظلّ حكم عسكري غير معلن رسمياً بمعنى المحاسبة على الكلمة وحتى على النية، فهم يريدون تفسير نوايانا بأنها تعاكس سياسة الحكومة الإسرائيلية الظالمة". وحول الوضع في الداخل المحتل، يشرح: "نحن في وضع جديد، مُنعنا من أن نمارس أي نشاط نعبّر فيه عن إنسانيتنا تجاه إنسان آخر حتى وإن كان هذا الإنسان هو شقيقنا وابن عائلتنا وابن شعبنا في قطاع غزة. لكن أنا أقول رغم هذا كلّه، إن المؤسسة الإدارية فشلت في أن تحقق هدفها بمحاولة الفصل بين أبناء شعبنا في الداخل وارتباطهم وبين ارتباطهم التاريخي والعقائدي والديني بالجزء الآخر من أبناء الوطن".
وعن ذكرى النكبة الفلسطينية هذا العام في ظل الواقع السياسي الفلسطيني وانعكاساته ومعنى إحياء ذكرى النكبة، يقول الكاتب عوض عبد الفتاح، إن "ما يحصل الآن هو أشد وأخطر من النكبة، وأيضاً جريمة الإبادة التي تنفذها إسرائيل حالياً هي ربما أيقظت الكثير من الناس الذين لم يكونوا يعرفون ما هي النكبة في عام 1948 وتبعاتها، فجعلتهم الحرب يعودون إلى تاريخ النكبة، وخصوصاً في الغرب ليفهموا ما حصل، ويدركوا أن النكبة مصيبة ألحقها الغرب في الفلسطينيين، وما يعني أن يشرّد شعب وأن يباد شعب".

أقرّ اليمين الإسرائيلي بالنكبة وهدّد بتكرارها

ويعتبر عبد الفتاح أن "مشاهد حرب غزة أشد وأخطر من النكبة، فالناس مذهولون ومصدومون من مشاهد القتل والإبادة، مشاهد الحرب في غزة اليوم استمرار للنكبة، لأن الحركة الصهيونية لم تنجح في إبادة الشعب الفلسطيني بعدما أبادت قسماً بسيطاً منه وطردت نصفه خارج الوطن، وبقي العامل الديمغرافي هاجساً مستمراً مؤرقاً للإسرائيليين والحركة الصهيونية، التي وجدت فرصة في 7 أكتوبر لتنفيذ مخططات قديمة". ويشير عبد الفتاح إلى أن المخطط الأصلي، هو إما إبادة الفلسطينيين وطردهم أو إخضاعهم كلّياً للاستعمار الإسرائيلي وإبقاؤهم عبيداً إلى الأبد من دون حق تقرير المصير، وهذه البرامج كشفوا عنها بشكل واضح عشية شن الهجوم، وأخرجوا من الأدراج أيضاً مخططات قديمة بالنسبة لغزة".
لكنه يلفت إلى أن "كل ما قامت به إسرائيل حتى الآن انقلب عليها، فصحيح أنها تمكنت من تدمير حياة الشعب الفلسطيني الساكن في غزة وإبقائه في حالات صدمة لسنوات طويلة ولكن إسرائيل بقدر ما قامت به من تدميرنا، فقد دمرت نفسها، وهي استراتيجياً خاسرة".

فلسطين في الأجندة العالمية

ويرى عبد الفتاح أن "الفلسطينيين الآن موجودون في قلب الأجندة العالمية وهناك حركة ثورية عالمية ليس فقط في الجامعات، بل كحركة وعي عالمي بالظلم الواقع على الفلسطينيين، مع وجود تقاطع بين قضية فلسطين وقضايا الظلم في العالم، وهو ما يوحد الشعوب في الجامعات والشوارع بالغرب". ويوضح أن هذه الشعوب أدركت أن الظلم الإسرائيلي تتشارك فيه أنظمة الغرب، ومصدره هو نظام عالمي غير عادل تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون. ويتابع: "قيل في السابق الكثير عن عولمة القضية الفلسطينية والآن يطالبون بعولمة الانتفاضة ليس فقط من أجل فلسطين ولكن ضد كل هذا النظام ومنظمات القمع التي تشتغل مجدداً في أميركا وغيرها".

 

ويخلص إلى أن إحياء الذكرى الـ76 للنكبة الفلسطينية ضروري جداً في الداخل الفلسطيني وفي فلسطين ككل، حيث يجب أن يكون الحدث مشتركاً لكل الشعب الفلسطيني، لأن ما تقوم به إسرائيل يؤكد على أهمية استذكار النكبة بمعنى استمرار النضال، من أجل أن تستمر المعركة الفلسطينية التحررية الإنسانية ضد منظومة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني.
ويختم: "الآن بات واضحاً للجميع أن إسرائيل ليست دولة طبيعية بل دولة استعمار استيطاني ونظام فصل عنصري وشديد التوحش، فاقت أنظمة عرف تاريخها الإبادة. لذلك لا يستطيع النظام المتوحش أن يعيش في ظل وعي عالمي متزايد بأهمية الحرية والتحرر والقيمة الإنسانية".