خلّصوا عقولكم من عقالها

الرابط المختصر

كانت إحدى أروع النعم أن عشت لحظة رائعة منذ سنوات، جمعتني بخمس سيدات، يغمرني إحساس وأنا استحضر تلك اللحظة أنهن من أروع السيدات اللواتي عرفتهن في حياتي- ليس لروابط الدم التي تجمعنا فقط- وإنما لما يمثلنه من نموذج إنساني رائع.

وبقدر ما في اللقاء من طرافة، فيه الكثير من الغرابة بالنسبة للكثيرين، إذ كان يجمع: جدتي الكبرى لأمي واعتقد أنها كانت في أواخر ثمانيناتها آنذاك –وليس لنا سبيل للتأكد إلا كلماتها وحساباتها حصرا لأن كل من عاصروها وتعرفهم كانوا سبقوها إلى دار الحق بسنوات عديدة قبل أن تلحقهم- بالإضافة إلى جدتي، وأمي وأختي الكبرى، وابنة أختي البكر...

 وأجمل ما في الصدفتين  أنه تسنى لهما أن يجتمعا معاً لسنوات وسمح صفاء ذهن جدتي الكبرى -والذي استمر حتى مماتها- أن ترى نفسها فيها وتعيش تلك اللحظة الرائعة وتشاركنا فيها جميعا بحب لا نهائي وغير مشروط...
وهذا الإحساس استمر لسنوات طويلة كنا نستمع عبرها لأحاديث جدتي الكبرى وهي تلاعب إبنة أختى ونحن نراقبها بإعجاب لم نكن نخفيه- ولم نكن ننوي ذلك- فانتقل تراكم الفخر عبر جدتي لأمي لأخواتي الست وكأني بكل واحدة منا تحمل كم من الأحاسيس يصعب وصفها، تسبغها روعة خبرة معتقة كانت تحملنا في هودج يحمله جمل متجه من شمال الأردن إلى جدة في المملكة العربية السعودية للمتاجرة بصفقة ملح كانت جدتي الكبرى السيدة الوحيدة التي تمثل العائلة فيها ..وكأني بنا حفيداتها نشارك معها سباق خيل أو مبارزة في شعر في لحظات الراحة وهي قليلة جدا بالمناسبة ، كما قيل لنا...  
 
وابتسم وأنا استذكر تناقلنا النظرات بيننا وبين تلك الأجيال الرائعة بأنهن- وذلك قبل تأسيس المملكة - لم يحتجن قط لمؤتمر ما ليقنع رجال القبيلة بالسماح لجدتي الكبرى بأن تشارك منفردة بلا محرم -سوى الجيرة والمعرفة -برحلة لأسابيع لكي تقوم بمهمة للعائلة بأكملها...ولم يحتجن لورشة عمل تؤكد حق واحدة منهن لاختيار زوجها أو أن تدافع عن قصة حبها أو أن تقول رأيها في أي محفل أو تشارك في اتخاذ قرار...
 
ما أريد قوله أن العشائرية التي تستخدم شماعة لتعليق فشل مجتمعنا الأردني لإنصاف المرأة ليست هي السبب في تأخر أوضاع المرأة... وإنما تلك العشائرية السلبية التي تعشعش في فكرنا كمثقفين ومتعلمين وبعضاً من السياسيين الذين يساهمون بفاعلية في صنع القرار، فالمرأة لا تعاني من أزمة بالمعنى الدقيق في المجتمع الأردني الحقيقي ، وإنما تعاني من أزمة ثقة من أجيال شابة فقدت حس التوازن الإنساني، ومن مجتمعات تضمها مدنية الجغرافيا فقط وهي بعيدة عن كل ذلك في تفكيرها واعتقادها...
 
هي  فجوة كبرى بين ما عاشته جدتي الكبرى من تفرد في الشخصية والقرار في إطار عام للعائلة وبين ما تكابده منهكة ابنة أختي البكر في إقناع من حولها للحصول على أدنى حقوقها كإنسانة بالتفكير والتعبير الحر عن ذاتها ....هي ليست مشكلة قبيلة كمنظومة اجتماعية...هي مشكلة قبلية فكرية ترتدي ربطة عنق وتقود أفخم السيارات وتدرس في الجامعات وترتاد أرقى المقاهي والمطاعم  لكن عقلها ما زال يلجمه عقالها....