جولة أخرى من التصعيد نحو تغيير معادلة "وحدة الساحات"

الرابط المختصر

أعقب الهدنة التي تم الإعلان عنها بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في 13 مايو 2023، حالة من الهدوء في قطاع غزة، بعد التصعيد العسكري الذي بدأ في التاسع من الشهر ذاته، إثر تنفيذ إسرائيل لسلسلة من الاغتيالات ضد قادة عسكريين في "سرايا القدس" الجناح المسلح لحركة الجهاد، والذي بلغ ذروته في 11 مايو، حين دخل الجانبان في سلسلة من عمليات القصف المتبادل.

جولة جديدة من التصعيد

جاءت حالة التصعيد الأخيرة، بعد أقل من عام على آخر جولة تصعيد بين الحركة وإسرائيل، في أغسطس 2022، وفي وقت تشهد فيه الساحتان الإسرائيلية والفلسطينية تحولات عدة، إذ تنخرط حركة الجهاد الإسلامي في تصعيد متكرر مع إسرائيل في سياق عام من التوترات بين إسرائيل وإيران والجماعات المُسلحة التي تتبع لها، كان من ضمنها إطلاق قذائف صاروخية من لبنان وسوريا نحو الأراضي الإسرائيلية، وتقدير إسرائيل أن "حزب الله" اللبناني يقف وراء التفجير في مفترق مجدو، وكذلك إسقاط الجيش الإسرائيلي لمسيرة مصدرها لبنان، بالتزامن مع توالي الضربات الإسرائيلية التي تستهدف البنى التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا، والتي خلفت أضراراً مادية وأوقعت عدداً من القتلى والمصابين من العسكريين الإيرانيين.

يُضاف إلى ذلك ارتفاع وتيرة التصعيد في الضفة الغربية، سواء من جهة الاقتحامات الإسرائيلية لبلدات الضفة الغربية، أو عمليات الدهس وإطلاق النار التي يقوم بها الفلسطينيون.

ومن ناحية أخرى، تواجه إسرائيل واحدة من أعقد أزماتها السياسية والقضائية، بعد محاولة حكومة بنيامين نتنياهو إدخال تعديلات على النظام القضائي في البلاد، والتي تم تعليقها تحت ضغط الشارع، الأمر الذي يواجه اعتراضات من داخل الائتلاف الحكومي، وهو ما صاعد من المخاوف بشأن تصدع هذا الائتلاف، حيث أشار استطلاع للرأي أجراه أستاذ الإحصاءات الإسرائيلي كميل فوكس، عن تراجع تأييد حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأنه سيفقد أكثر من ثلث مقاعده البرلمانية إذا أجريت انتخابات مبكرة للكنيست. كما رافق التصعيد الأخير حالة من الترقب مع قُرب مسيرة الأعلام الإسرائيلية السنوية المقررة في 18 مايو، والتي كان لها أن تشكل منحنى جديد للتصعيد.

ستراتيجيكس-تفتيت-الساحات-صورة-داخلية.jpg

 "وحدة الساحات" وتغيير قواعد اللعبة

المعطى الجديد الأهم في استهداف إسرائيل لحركة الجهاد الإسلامي يتمثل في سعي تل أبيب لكسر استراتيجية "وحدة الساحات" التي أطلقتها الحركة في مايو 2021 عقب اغتيال قائدها العسكري في غزة تيسير الجعبري. والتي تطورت في ضوء عدد من المؤشرات الهامة، منها:

أولاً: تصريحات الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة في أكتوبر 2022 والتي أقر فيها بارتكابه "خطأً استراتيجياً"، بقبوله وقف إطلاق النار بعد خمسين ساعة من المواجهة، رغم قدرة حركته على الاستمرار لوحدها لعدة أسابيع وفق ذات الأداء وذات الكثافة من النيران، بالإضافة إلى تأكيده على استراتيجية ربط قطاع غزة بالضفة الغربية، وربط الوضع الفلسطيني الداخلي بالخارجي، وربط الساحات مع غيرها، وتواصل حركته مع "حركة أنصار الله" اليمنية، وتعزيز "سرايا القدس" بقيادات جديدة وبألف مقاتل.

ثانياً: تزامن إطلاق الصواريخ من قطاع غزة ولبنان وسوريا باتجاه الأراضي الإسرائيلية في أبريل 2023 مع حالة تصعيد ميداني في الضفة الغربية عقب الاقتحامات المتكررة لمجموعات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى.

ثالثاً: إعلان جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشاباك" في 9 مايو، عن تفكيك خلية عسكرية تابعة لحركة الجهاد الإسلامي في جنين، كانت تعدّ لإنتاج مسيرات مفخخة وصواريخ ومنصات لإطلاقها من شمال الضفة الغربية نحو إسرائيل، بتوجيه من القيادي في الجهاد الإسلامي طارق عز الدين الذي اغتيل في قطاع غزة، وهو ما يشكّل نقلة نوعية في استراتيجية الحركة.

كل تلك المعطيات تشير إلى أن إسرائيل وللخروج من دائرة التهديدات التي تواجهها ستتجه نحو تبني استراتيجية "تفتيت الساحات" لمواجهة استراتيجية "وحدة الساحات" في الجهة المقابلة، وذلك من خلال:

 

أولاً: تدمير البنية العسكرية الأساسية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة والعمل على منع محاولات الحركة لنقل تجربة الصواريخ إلى الضفة الغربية.

ثانياً: ملاحقة وتحييد قادة العمل العسكري للجهاد الإسلامي في قطاع غزة والضفة الغربية، مع استمرار تلك المحاولات في الساحات الخارجية، كسوريا ولبنان.

ثالثاً: توجيه رسائل تحذير مباشرة لحلفاء إيران في سوريا ولبنان، خاصة "حزب الله"، من عواقب الانخراط في المواجهة العسكرية، وهي رسائل تحمل تحذيراً غير مباشر لإيران ذاتها.

رابعاّ: ضمان استمرار التفاهمات الضمنية مع قيادة حركة "حماس" لعدم تدخلها في المواجهات العسكرية، سواء من خلال الضغوط السياسية والأمنية والمالية التي يمارسها الوسطاء، أو من خلال التهديد باغتيال قادة الحركة، أو من خلال التلويح بتغيير التسهيلات الاقتصادية لحركة المعابر والبضائع من وإلى القطاع.

خامساً: العمل على خفض سقف شروط التهدئة من جانب الفصائل الفلسطينية المسلحة بعد كل جولة من جولات المواجهة، وقيام إسرائيل بفرض شروط جديدة تحقق استراتيجيتها في تفتيت الساحات، حيث تراجع سقف شروط تلك الفصائل في مباحثات وقف إطلاق النار في الجولة الحالية إلى تعهد إسرائيل بوقف الاغتيالات، إلا أن القناة 12 الإسرائيلية نقلت أن اتفاق الهدنة الذي تم توقيعه لا يتضمن وقف الاغتيالات في قطاع غزة.

وأخيراً؛ يمكن القول إن تطور استراتيجية "وحدة الساحات" بدأ يفاقم من التهديدات على إسرائيل، خاصة في ضوء تنامي القدرات العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، واندماج الفعل ورد الفعل بين الساحتين الفلسطينيتين؛ الضفة الغربية وقطاع غزة، وامتدادها إلى الساحات الخارجية في سوريا ولبنان، مع عدم وجود بوادر تُشير إلى قُدرة حركة "حماس" ضمان الهدوء في قطاع غزة، ضمن تفاهمات الحركة الضمنية مع إسرائيل، وكذلك في تفرع "الجهاد الإسلامي" إلى فصائل أصغر تُعقد من عملية احتوائها في الضفة الغربية، خاصة في ظل دعم إيران وحلفائها للحركة. وهو ما دفع إسرائيل لتبني سياسة "تفتيت الساحات".

ورغم أنّ الجولة الحالية من المواجهة العسكرية بين إسرائيل و"الجهاد الإسلامي" قد انتهت، إلا أنّ الخروج من دائرة المواجهة بشكل كامل لن يتحقق، خاصة بسبب تداخل أسباب وعوامل التصعيد بين إسرائيل والحركة، وامتداده إلى أحداث وسياقات خارجية، ترتبط بالشكل الأوسع بالتصعيد الإسرائيلي الإيراني.

*مدير عام المركز/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية‎

المصدر: ستراتيجكس