تفعيل الدستور وإعادة الاعتبار كاملا للولاية العامة مدخل لحل التأزم الداخلي?
المشهد السياسي الداخلي قاتم هذه الأيام يعكس في تفاصيله الكثيرة أزمة ثقة بين صانعي القرار والمواطن.
صراع يحتدم بين الطبقة السياسية الجديدة والقديمة حول النفوذ والمكاسب والمصالح على حساب بناء الوطن ودولة المواطنة والقانون والمساواة في الحقوق المدنية. يتعمّق الشرخ نتيجة محاولات البعض فرض إيقاع جديد, آليات موازية ليس لها أي أسس دستورية كان هدفها الأكبر, بحسب مسؤولين, تسريع إيقاع التحديث الشامل الذي أراده الملك عبدالله الثاني مباشرة حين اعتلى العرش عام 1999 بعد ان ثبّت والده الراحل البلد على خارطة العالم.
في مستهل عهده حاول كثيرون وضع العصي في دواليب عملية التغيير بحسن أو سوء نية.
مقابل ذلك, كان لا بد من الاجتهاد لتطوير طرق للتعامل مع البيروقراطية المتجذرة والترهل الإداري الذي تعمّق, مع غياب توافق مجتمعي حول شكل الأردن الجديد وانقطاع خطوط التواصل بين ما يسمىّ بـ "الحرس القديم و "الحرس الجديد". أدت بعض الاجتهادات إلى تأسيس هيئات اقتصادية وسياسية وسياحية موازية لا سند لها في الدستور لتجميع طاقات وأفكار هدفها إعانة صاحب القرار على دفع ملف العصرنة في زمن العولمة. لكن للأسف انتهت غالبيتها بشللية وبلون واحد مع تمدّد لنفوذها إذ باتت في أحيان كثيرة تنافس "الدوّار الرابع" حول حدود الصلاحيات. هذه المعادلة الطارئة أضعفت الحكومات العلنية, صاحبة الولاية العامّة الحصرية في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية, المسؤولة دستوريا بينما تشكلت "حكومة ظل" قوية تعمل في الخفاء ولا تخضع للمساءلة والمسؤولية الدستورية.
أفضى ذلك إلى تشتت تدريجي في السياسات وتفريغ الولاية العامّة للحكومات من محتواها فضلا عن إضعاف مفاصل الرقابة الدستورية والابتعاد عن الشفافية الضرورية لتكريس حالة توافق ضرورية على الاولويات الوطنية والتوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأصبح مسؤولون يختبئون خلف الملك وبالتالي يحاولون تحميله تبعات القرارات بدلا من أن يقطف الثمار الايجابية للتحولات, بينما تتحمل الحكومة تبعات أي فشل أو تباطؤ بخلاف حصانة الملك الدستورية كرأس السلطات فيما يفترض أن تنحصر الولاية العامة والمسؤولية التي تترافق معها بمجلس الوزراء.
القشة التي قسمت ظهر البعير جاءت مع أجواء الاشعات التي فجرها السجال الدائر منذ أسابيع حول خيارات واجتهادات لم تنفذ بعد لبيع قطع أراض رسمية مرتفعة الثمن في مواقع حيوية, مقابل توفير أموال لشراء ديون خارجية وتطوير بنى تحتية وخدمات تنموية وصحيّة فضلا عن كبح عجز الموازنة وتخفيف الاتكّال على المنح والمساعدات العربية والأجنبية المشروطة بمواقف وسياسات.
تلبدّت أجواء التشكيك وباتت تلتهم الأخضر واليابس. ولم تعد المقولات والقصف العشوائي يتوقف عند حدود النخبة العاملة مع رأس الدولة والسياسات الحكومية لتطال الجميع من دون استثناء. أجواء متشنجة تعكس خوفا وقلقا شعبيا ونخبويا من نهج مدرسة سياسية ونهج اقتصادي جديد سرّع من عملية الخصخصة والإصلاح الاقتصادي التي بدأت عام .1988
في نفس الوقت, عجز الإعلام, الرسمي والخاص, في التعامل مع المشهد لأنه فشل في التحول إلى أعلام وطن بعد أن فقد بوصلته ودوره الرقابي وسط ضياع المرجعيات في عملية تعمقت بعد إلغاء وزارة الأعلام قبل خمس سنوات, وغياب استراتيجية إعلامية واضحة للدولة تهيئ الأجواء العامة قبل اتخاذ القرار وتدافع عن الخيارات الشعبية وغير الشعبية لمصلحة الوطن.
صارت الانطباعات الشعبية أقوى من الحقائق. وبان حجم الصراع بين مدرستين سياسيتين- اقتصاديتين وإن كان دائرا منذ سنوات. واهتز الوضع الداخلي الذي تعرض لتغييرات عميقة ضربت في أعماق الدولة ومؤسساتها وعلاقاتها مع المجتمع. وأي إشكالية قادمة قد تحول الحبّة الى قبة, وقد تخرج الامور من عقالها.
في خلفية المشهد مجلس نواب منزوع الدسم يبدأ دورته الاستثنائية اليوم بعد إجازة ربيع. لكنه غاطس بالشؤون الفردية. تراجع مستوى الرضا الشعبي عنه يتجلّى في نتائج استطلاعات الرأي الدورية, سواء التي تعلن نتائجها أو تلك التي تبقى سرية وتطوّع نتائجها لمساعدة أصحاب القرار على دراسة توجهات المجتمع و"تزبيط" الاستراتيجية العليا للدولة. غالبية نوابه الـ 110 وصل إلى مقاعد السلطة التشريعية من خلال النفوذ العشائري وأخيرا سطوة المال السياسي, متكئا على قانون الصوت الواحد المعتمد منذ عام ,1993 لكبح جماح المعارضة بقيادة الإسلاميين وثنيها عن إفشال معاهدة السلام الإشكالية مع إسرائيل. الإصلاحات السياسية والحريّات الإعلامية تراجعت كثيرا بالمقارنة مع ما كانت عليه عندما قرّر الأردن العودة إلى مسار الديمقراطية قبل 20 عاما.
أحزاب ضعيفة, غالبيتها قائم على أشخاص, لم تفلح في استقطاب جمهور واسع حول برامج سياسية واقتصادية وتنموية بديلة عن السياسات القائمة وقابلة للتنفيذ. دستور وقوانين يتسابق الجميع لخرقها بدءا برجل الشارع وانتهاء بالمسؤول.
في زمن المصاعب الداخلية المرشّحة للتفاقم تحت وطأة جنون الأسعار وانفلات التضخم على الساحة المحلية والعالمية وأزمة الطاقة والمياه وانسداد أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة مع نهاية ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد سبعة شهور, لا بد من عودة الجميع حاكما ومحكوما, إلى طوق النجاة الوحيد والأساس المتمثل في الدستور الأردني لتحصين التناغم بين سلطات الدولة الثلاث المنصوص عليها وهي الحكومة, مجلس الأمّة والقضاء. فما يعرف بأبي القوانين يوفر الحلول من خلال الالتزام بفصوله التسعة. أما "السلطة الرابعة" الافتراضية الرابعة المدجنّة, فلا بد من أن تلعب دورها الأساسي في الرقابة وتحديد مكامن التجاوزات بدلا من الانجرار إلى معارك جانبية ودفن الرؤوس بالرمال.
الاحتكام للدستور نصا وروحا يشكّل المدخل الوحيد لعملية تحديث الأردن وتعزيز الجبهة الداخلية التي يوجد اجماع عام على أنها تمثّل الركن الاساسي في صد الأخطار في ضوء المخاطر التي يفرضها انسداد آفاق التسوية السلمية.
وعلى ذلك لا بد من العودة الى الالتزام الكامل بمبدأ فصل السلطات وإعادة الاعتبار الكامل للولاية العامة الحصرية لمجلس الوزراء في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية قولا وفعلا ليتسنى للمجلس أن يتحمل مسؤولية القرار والتوجه وحيدا. وليتسنى أيضا للسلطة التشريعية أن تمارس دورها الرقابي والمحاسبي على الحكومة صاحبة الولاية العامة الوحيدة. يتطلب ذلك إعادة تمكين مجلس الوزراء ثم محاسبته الصارمة دستوريا أمام الملك ومجلس النواب والرأي العام. ويتطلب ذلك أيضا تحجيم كل المؤسسات الموازية وحصر دورها في تقديم أفكار ومشورات تساعد صاحب الولاية الدستورية في التقرير وليس الحلول او التنافس المعيق معه بينما يعود منصب رئيس الديوان الملكي إلى دور "عين" صاحب الجلالة على مؤسسات الدولة وناقل توجيهات ورغبات رأس الدولة إلى معاونيه الذين يمارسون السلطة التنفيذية ويكون حلقة وصل بين الملك والشعب.
كذلك ينبغي تفعيل النصوص المتقدمة جدا في الدستور والتي تصون حد التقديس مفهوم المواطنة وتنبذ الإقليمية والعصبيات المستشرية. هذه النصوص التي تكفل المساواة في الحقوق والواجبات لكل مواطن وتمنع التمييز بين المواطنين لأي اعتبارات دينية أو طائفية أو عرقية أو إقليمية. كما تصون حرية الرأي والمعتقد وتكفل حق التعبير ومخاطبة السلطات العامة واستقلال القضاء وتحقيق العدالة; عماد الحكم, وتشجع التنمية السياسية وروح المبادرة وتعمّق مبدأ سيادة القانون وتغلب منطق الدولة على كل هوى ومنطق آخر وتحفز روح المبادرة.
هذا بدوره سيؤدي إلى إرساء دعائم توافق مجتمعي عام على الثوابت الوطنية من شأنه أن يُحصن الجبهة الداخلية ويوسع هوامش وخيارات الدولة في تحركاتها وسياساتها الداخلية والاقليمية والدولية وهي مطمئنة إلى صلابة وتماسك أواصر جبهتها الداخلية.
إن إعادة الاعتبار الكامل للدستور وللولاية العامة لا تتناقض مع تحسين الإدارة والتغلب على البيروقراطية أو مع جهود تنمية وتحديث الأردن, ولا مع جهود الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ومحاربة الفساد. بل على العكس من ذلك فانها تساهم في حصر أي إخفاق أو فشل في تحقيق هذه الأهداف بالجهة التي ينيط بها الدستور حصريا مسؤولية تحقيق هذه الأهداف ويُحّملها أيضا المسؤولية الحصرية للفشل شريطة أن يصار إلى إعادة تمكين هذه الجهة صاحبة الولاية بالفعل لتغدو موضع مساءلة عن أي فشل في تحقيق أعمال منوطة بها فعليا وليس نظريا فقط.
* المقال نقلا عن صحيفة العرب اليوم الاردنية