بلاط الرشيد بين ثلاثية السلطة المال الثقافة

الرابط المختصر

بين مثلث النار يقع المقهى...لعل اسمه يحمل شيء من السلطة منذ زمن هارون الرشيد...انه مقهى بلاط الرشيد، الذي يتخذ من وسط البلد موقعا له منذ العشرينات القرن الماضي، لينتقل من سوق اليمنيين الملاصق لسوق السكر الى وسط البلد في بناية قديمة، تقابلك في واجهة المقهى لافتة كتب عليها بلاط الرشيد أُسس عام 1923. ثمة مقاهي وسط البلد لها تاريخ وحياة؛ تستنطق الماضي وترفض الجديد، وتستذكر عبق عمان الخمسينيات وأريج البساطة وعنفوان الحياة...لكن، بلاط الرشيد يمثل نموذج حياة وشاهد على حقبة من حياة عمان من زمن تعريب الجيش الأردني وفترة رئاسة الوزراء والتي كان حينها الشهيد وصفي التل رئيسا للوزراء وفترة ريعان الملك الشاب الحسين بن طلال حينها؛ ذلك الملك الصغير الذي كبر وترعرع بين شعبه، ولمعان الرئيس المصري جمال عبد الناصر الضمير الحي للشعب العربي...وصولا الى اتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني، بدءا من كامب ديفيد مرورا بأوسلو وصولا الى وادي عربة، لنرى بلاط الرشيد عبر عن رأيه من تلك الاتفاقيات في لوحة مزركشة بأعلام دول العالم، واضحة باستثناء علم دولة قائمة على أنقاض أخرى- وهي إسرائيل لمن لا يعرف- مخفي بطمس لونه أحمر معلنا المقهى من خلال تلك اللوحة عن رفضه حتى القبول بفكرة علم لها.



أما في زاوية المقهى، فأنك ترى مذياع قديم، رث، كأنه لا يزال يصدح بأخبار الأمة العربية منذ سقوط فلسطين مرورا بالنكسة وتصريحات أحمد سعيد النارية التي جعلت الوطن العربي ينتشي النصر على العدو وصولا إلى خطابات محمد سعيد الصحاف الذي جعل من الجيش العراقي أسطورة في تفوقه على الجبروت الأمريكي!...ليذكرنا المشهد مرة أخرى بخطاب التنحي الشهير لعبد الناصر...انه المذياع الذي كان يشدوا من خلاله عبدو موسى، الذي تغنى بطعم الحياة العمانية وأم كلثوم التي جعلت من زوار المقهى عائلة تتردد عليه كل يوم، تستنطق كلمات أغنياتها مع قرقعة لعبة الشطرنج، أو لعبة "داما" طاولة الزهر، وورق الشدة، وخرير الماء داخل النارجيلة، أصالة المكان، ودفئ ساكنيه.



من يرى المقهى من الخارج، يلاحظ أعلام دول العالم الملونة على جدرانه الخارجية الموجودة في شرفته؛ وهنا يأتي اختلاف "بلاط الرشيد" عن غيره من المقاهي المنتشرة بقربه، وجعلته مثار الدهشة والاستغراب لدى زائريه، خصوصا الأجانب، لكن لماذا الأعلام على جدرانه! سؤال أجاب عنه أحد العاملين في المقهى الذي قال "الفكرة كانت من أصحاب المقهى حين أنتقل الى موقعه الجديد أن يكون لجميع الناس، أينما كانوا، مهما اختلفت منابتهم"، والمحير أن علم الولايات المتحدة هو الأكبر عن غيره من الأعلام؟...أجاب بان الصدفة جعلت ذلك العلم الأكبر وكأن الذي رسم الأعلام كان مستشرفا على واقع الحال! "لكننا بالتأكيد نرفض سياسة هذا البلد جملة وتفصيلا".



بين مثلث النار يقع "بلاط الرشيد"...وحين قصدنا بالمثلث فإننا نستذكر الروائي والقاص الأردني الراحل مؤنس الرزاز خصوصا في روايته "متاهة الأعراب في ناطحات السراب" الذي أشار إلى عشوائية القدر في تلك الرواية بين سلطة المال وسلطة الأمن وسلطة الثقافة، وهنا نلحظ أن أمام المقهى يقع مباشرة أقدم مركز مصرفي في عمان وهو البنك العربي، وأقدم فرع له، حيث تجده أمامك من على شرفة المقهى، ببابه الكبير الذهبي، ويتراءى أمامك مشهدا للقصور عصر هارون الرشيد، مشهدية تضفي على المكان. العبق والتاريخ والحضارة.



أما بجانب المقهى يقع أقدم مركز أمن للعاصمة وهو السلطة الأمنية التي تسعى للحماية والرقابة، ويعلق الشاب رامي سعادة 24 عاما أحد زوار المقهى بأن وقوع المقهى بجانب المركز الأمني يؤمن الراحة له.



أمام المقهى وعلى محاذاة البنك العربي يقع مباشرة كشك "الثقافة للجميع" لصاحبه الشهير أبو علي؛ وأبو علي لمن لا يعرفه، يعتبره كبار المثقفين في الأردن من أهم المثقفين ولمطلعين على الحركة والثقافية الأردنية، يبيع الصحف والمجلات والكتب، كشكه يعتبر مركزا يؤمه كبار الساسة وأصحاب القرار والمثقفين وبالطبع" الغلابه"... وعلى ذكر أبو علي الملك عبد الله كرّم أبو علي بوسام الثقافة من قبل الملك الراحل الحسين.



بلاط الرشيد مقهى بسيط يقع على مثلث يتحكم بالشعوب؛ المال والأمن والثقافة، ثلاثية أصبحت حكرا على من يملك المال والسلطة...بلاط الرشيد مقهى السياح والمثقفين والغارقين في غياهب الديون وفقر الحال، بلاط الرشيد مقهى الاختلافات والتشابهات مقهى العاملين والكادحين والعاطلين عن العمل.