الوحش المقدّس إذ يقتل ناهض حتّر!
من صنع "داعش" وأخواتها، هو الذي قتل الكاتب الأردني ناهض حتّر؛ وهو مَن اختطف الإسلام، وصار ناطقاً حصرياً باسم الله. ومَن يهلّلون لمقتل كاتب وصحفي سلاحه القلم والكلمة هم الذين يريدون جرّ البلاد والمجتمع إلى فتنة طائفية بغيضة، من خلال التحريض والتهديد، وتعبئة الهواء بروائح الكراهية والحقد والانتقام.
ويكتظ الحدث، الذي وقع كالصاعقة على رؤوس كثيرين في الأردن وخارجه، بدلالات شديدة الكثافة والمعنى؛ فهو الأول من نوعه في بلد لم يعهد تصفية المعارضين، أو قتلهم أو التنكيل الدمويّ بهم، ما يجعل هذا الحادث مرعباً بكل المعاني، مهدّداً للسلم الأهلي، ونافخاً في رماد فتنة.
لم يكن حتّر نبياً في خصوماته؛ كانت لديه أفكار خلافية جعلته يناصر القتلة المتوحشين الذين يقصفون شعوبهم بصواريخ سكود وبالبراميل المتفجّرة؛ وكانت لديه طروحات إقليمية عنصرية تجاه الأردنيين من أصل فلسطيني، ونشر في أخريات أيامه كاريكاتيراً على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" يسخر من الذات الإلهية، ما أشعل احتجاجات شديدة ضده أدت إلى اعتقاله والإفراج عنه بكفالة، وربما يكون ذلك الكاريكاتير هو سبب قتله بعدة رصاصات أسكتت الجسد وأصابته بلعنة الموت.
ولم يكن لحتر علاقة بالكاريكاتير الذي اعتذر لاحقاً عن محتواه، وأزاله عن صفحته، فلم يكن هو راسمه، بل ناقله وناشره، ومع ذلك اعتقل بسببه، في تصرّف فيه مغالاة تستهدف النيل من حرية التعبير، وهي الحرية التي لا معنى لها في قاموس أولئك الموتورين الذين يعتبرون أنفسهم حماة الله على الأرض!
الوحش هو من قتلَ ناهض حتر، ونحن كلنا شركاء في صناعة هذا الوحش المتستر بعباءة الدين والمقدّس. الأنظمة المستبدة التي كمّمت أفواه شعوبها وأفقرتها، وقامرت بثرواتها، ورهنت قرارها للأجنبي، شاركت في صناعة "داعش". الحكام الطغاة الذين ربضوا على صدور شعوبهم عقوداً طويلة، ومنعوا الهواء أن يتسرّب إلى رئاتهم شركاءُ أيضاً، وهم الذين هيّأوا البيئة لإنتاج الظلم والفقر والجهل واليأس والتطرف.
المثقفون الانتهازيون، صنعوا "داعش" عندما تخلوا عن أدوارهم في مناهضة الظلام، ووفّروا ملاذات آمنة للفكر الإرهابي، وفقهائه، وتعاطفوا مع أنصاره بذريعة أنهم يُقارعون الغرب، ويريدون اجتثاث الروح الصليبية من الشرق.
وستتوالى التفاصيل حول هُوية القاتل وخلفياته الدينية ومرجعياته السياسية، لكنّ المجرم الحقيقي هو الإرهاب الفكري، وذهنية التحريم والتأثيم، ومصادرة المجتمعات والقوانين، ووضع الفرد نفسه مكان العدالة، فيحاكِم ويسجن ويقتل بنفسه بعقلية ثأر تستمد جذورها من عصور التوحش والهمجية.
ربما ظن قاتل ناهض حتّر أنه إن فعل ذلك سيدخل الجنة، ويُرزق بالحور العين وأنهار الخمر واللبن، ولا بأس في سبيل هذه المكرمات الجليلة أن يتم التضحية بالإنسان؛ خليفة الله على الأرض كي يعمّرها بالخير، ويحصّنها بالعدل والحب.
ويستعيد اغتيال ناهض حتر أمام قصر العدل في قلب العاصمة عمّان، حادثة اغتيال المفكر المصري فرج فودة، في شارع أسماء فهمي بمصر الجديدة، لجهة أنّ الحادثتين سبقهما حملات شحن وتحريض وتأثيم وضعت الشخصين في دائرة الشيطنة المُبينة.
وكان سبق اغتيال فودة، بستة شهور، مشاركته في مناظرة ضمن فعاليات معرض الكتاب في القاهرة عام 1992، وجاءت تحت عنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، ومثل فيها الدولة المدنية: فرج فودة، ومحمد أحمد خلف الله، ومثل الدولة الدينية كل من: الدكتور محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبي المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، والدكتور محمد عمارة. وخلال المناظرة، كما تفيد الأنباء، تم التحريض على فرج فودة بدرجة كبيرة، واتهامه في دينه وأفكاره وعقيدته.
وعقب اغتيال فرج فودة وبيان الاعتراف بالعملية من جانب جماعة إسلامية، وبعد التعرف على القاتل وبدء مسار المحاكمة الجنائية، تطوع الشيخ محمد الغزالي بالتوجه إلى النيابة للشهادة من دون طلب أو استدعاء، ومن دون أن يكون طرفاً مباشراً في القضية، وقال: "إنهم قتلوا شخصًا مباحَ الدم ومرتداً، وهو مستحق للقتل، وقد أسقطوا الإثم الشرعي عن كاهل الأمة، وتجاوزهم الوحيد هو الافتئات على الحاكم، ولا توجد عقوبة في الإسلام للافتئات على الحاكم، إنّ بقاء المرتد في المجتمع يكون بمثابة جرثومة تنفث سمومها بحض الناس على ترك الإسلام، فيجب على الحاكم أن يقتله، وإن لم يفعل يكون ذلك من واجب آحاد الناس"!!
ولم يكتف الغزالي، المحسوب على تيار الوسطية والاعتدال، بهذا الأمر، بل كتب ونشر بياناً مساندًا لمحمود المزروعي نائب رئيس جبهة علماء الأزهر الذي دعا بشكل صريح إلى قتل فرج فودة. وقد وقّع على بيان الدعم والتأييد لقاتل فرج فودة، إلى جانب الغزالي، كل من: الشيخ محمد متولي الشعراوي، ومحمد عمارة، وآخرين من علماء الأزهر.
واتهم بقتل فودة كلٌ من أشرف سعيد إبراهيم وعبد الشافي أحمد رمضان. وبالتحقيق مع رمضان، كما يروي علي سالم في مقال له نشرته "المصري اليوم" أعلن أنه قتل فرج فودة بسبب فتوى الدكتور عمر عبد الرحمن مفتي الجماعة الإسلامية بقتل المرتد في عام 1986. فلما سئل من أي كتبه عرف أنه مرتد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب، ولما سئل لماذا اختار موعد الاغتيال قبيل عيد الأضحى، أجاب: لنحرق قلب أهله عليه أكثر!
وفي سياق متصل، نشرت مجلة "الثقافة الجديدة" الشهرية حواراً على لسان الشاب الذي حاول قتل نجيب محفوظ في أكتوبر 1994، وفيه يعترف بأنّ الجماعة الإسلامية كلفته "أو شرّفته" بذلك.
وقال محمد ناجي محمد مصطفى للرئيس السابق لاتحاد كتاب مصر محمد سلماوي إنه فني إصلاح أجهزة إلكترونية، وحصل على شهادة متوسطة واتجه "إلى الله منذ أربع سنوات..."
سلماوي يذكر أنّ الشاب اعترف له بأنه لم يقرأ شيئاً لمحفوظ وعقّب قائلاً: "أستغفر الله" مشدّداً على أنه لا يحتاج إلى قراءة أعمال محفوظ. ويضيف أنّ الشاب اعترف له بأنه حاول اغتيال محفوظ؛ لأنه ينفذ "أوامر أمير الجماعة، والتي صدرت بناء على فتاوى الشيخ عمر عبد الرحمن".
هل نقول: ما أشبه اليوم بالبارحة، أم أنّ هذه الفانتازيا العبثية ستكون صفة ملازمة لأيام العرب والمسلمين في هذه القنطرة الموحشة التي تتلاشى فيها قيم العقل والمنطق لمصلحة عقل أسطوري مشبع بالخرافة، ينفخ فيه "فقهاء" يعشقون الموت، ويتلذذون برؤية الضحايا مسربلين بدمائهم، أمام أبنائهم، لا لجريمة سوى أنهم فكّروا، وربما اجتهدوا وأخطأوا فكان لهم أجر واحد، وليس هذا الأجر، بالتأكيد، أن يقتلوا غيلة في رابعة النهار؟!
كان ذلك قبل انبثاق "داعش" بعشرين سنة، لكنّ أربابه كانوا من الذين مهدوا للحظة الداعشية التي تتعدى التنظيم وممارساته الهمجية، لتكون علامة لحقبة بأكملها يغيب فيها العقل لمصلحة فقه التكفير، ويُسفك دم من يحاول أن يشتبك مع أسئلة الدين، ويفكّر خارج صندوق اليقين الديني، حتى لو كان ذلك التفكير لخير الدين، وتنزيهه عن الهوى، وجعله محركاً لصلاح الدنيا وبنائها وإشاعة الحق والنور.
ولو كانت أفكار الظلام التي أفتى بها عمر عبد الرحمن وصحبه بلا جذور، لما أينعت شجرة الدم، ولما أورقت ثمار التوحش. فما "داعش" إلا رأس جبل الجليد الطافي فوق الماء. أما في الأعماق، فإنّ كثيرين يلتفون حول هذا الجسد السرطاني. لذلك، فإنّ كلَّ من لا يدين هذا الإرهاب الأعمى الذي أودى بحياة ناهض حتر، وهذا الشبقَ المجنون للقتل والدم، هو داعشيّ، ومعادٍ للحياة، ومسيء للإسلام وللأديان والشرائع الأخلاقية.
لترقد روحك يا ناهض بسلام.. وليكن دمُك باعثاً لنا جميعاً كي نحمي بلادنا من العبث والفتنة. ولتنتصر الحرية على المسدس الذي لن يكتم أصواتنا، مهما كلّف الثمن!!
المصدر: الحوار المتمدن