الوجه الآخر لآثار الازمة المالية العالمية على الاقتصاد الاردني
يصر الكثير على ان هناك تعتيما اعلاميا على تداعيات الازمة المالية العالمية على الاقتصاد الاردني المبني على اقتصاديات السوق الحر والمندمج في العولمة منذ سنوات, واننا في الاعلام نخفي الحقائق عن مدى خسائرنا في العديد من القطاعات وهذا الكلام عار عن الصحة تماما.
الاقتصاد الاردني يختلف عن باقي اقتصاديات دول العالم او حتى المنطقة
العربية, ففي الخارج عندما يتحدثون عن اقتصاديات صغيرة فهم يشيرون الى
سنغافورة او تايوان او ايرلندا, وتلك اقتصاديات تفوق الاقتصاد الاردني
عشرات الاضعاف.
يتناسى الكثير ان الاقتصاد الاردني الصغير الحجم يتأثر اكثر مما يؤثر في
الاقتصاد العالمي, لانه اقتصاد يستورد اكثر مما يصدر, وحتى صادراته ما
زالت قيمتها المضافة ضعيفة ومتباينة من قطاع لاخر, بمعنى ان ارتفاع اسعار
النفط من بداية العام الجاري بمقدار 70 دولارا للبرميل فاقم من ازمة
الاسعار على المستوى المحلي وأدى لارتفاع حاد في معدلات التضخم التي وصلت
الى اكثر من 15 بالمئة, الا ان تراجع اسعار النفط بمقدار 60 دولارا
للبرميل في الاونة الاخيرة سيساهم بلا شك في انخفاض تكاليف المعيشة وهبوط
فاتورة النفط بمقدار مليار دولار على اقل تقدير, ناهيك عن ان اسعار المواد
الاساسية في تراجع كبير مثل القمح التي انخفضت هي الاخرى اسعارها الى
النصف وبلغت 250 دولارا للطن بعد ان وصلت قبل اربعة اشهر الى اكثر من 550
دولارا, وهذا سيخفض فاتورة القمح بمقدار 200 مليون دولار, ناهيك عن اسعار
المواد الاخر مثل الحديد على سبيل المثال لا الحصر تراجعت من 1160 دينارا
في شهر تموز الماضي الى 650 دينارا لحديد "البلت" حاليا.
تراجع اسعار النفط العالمية والمواد الاساسية وتحسن الدولار بسبب ضعف
العملة الاوروبية اساسا سيخرج الاقتصاد الوطني من اهم تحد واجهه في الاشهر
الماضية, وسيكون له اثار ايجابية على تحسن العجز في الميزان التجاري
والمدفوعات, ناهيك عن تحسن تنافسية الصناعات الاردنية التي ستنخفض عليها
كلف الانتاج.
الا ان ذلك لا يمنع من ان صادرات المناطق الصناعية للولايات المتحدة
ستتراجع بشكل كبير, ولا ادري ما هي الفائدة الاقتصادية الكبرى للاقتصاد
الوطني من تلك الصادات والجميع يعلم ان قيمتها المضافة تكاد تكون محدودة
على الاقتصاد الوطني, الا ان صادرات التعدين من فوسفات وبوتاس ستتأثر بلا
شك وستتراجع بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي وهبوط الاسعار وتراجع الطلب,
وبالتالي فان ربحية هذه الشركات ستتأثر كثيرا, لكن علينا ان نتذكر ان
ملكية تلك الشركات بالدرجة الاولى اجنبية اضافة الى انها حققت ارباحا
خيالية قبل اشهر بعد ان ارتفعت اسعار سلعها لمستويات قياسية غير مبررة,
وبالتالي فان السوق الان سيصحح نفسه بنفسه وستعود الامور الى مجراها
الطبيعي.
أما على صعيد القطاع المصرفي, فالاشاعات تسود ذهنيات الكثير ممن يجلسون في
الصالونات للحديث عن الازمة, ويصرون على ان خسائر كبيرة لحقت البنوك
الاردنية بعد افلاس العديد من المصارف الامريكية من دون ان يقدم اي منهم
معلومة موثقة عن تلك الخسائر, وجميع المعلومات التي حصلت عليها سواء من
جهات رسمية او خاصة, تؤكد او تجزم انعدام اي اثار للازمة المالية العالمية
على البنوك المحلية وان مستويات السيولة النقدية ما زالت كبيرة ولا توجد
اية مبررات لضخ سيولة في السوق, الا ان هذا لا يمنع من اعداد خطة طوارىء
من قبل الدولة تجنبا لاية اثار او احداث غير متوقعة, وهذا ما فعلته
الحكومة الاسبوع الماضي , وقد جاء هذا متوافقا مع ما خرجت به مؤسسة موديز
العالمية في تقريرها امس الاول من ان الازمة المالية لا تؤثر على الجهاز
المصرفي الاردني.
الا ان المصارف قد تلجأ الى التشدد في عمليات الاقراض وتقديم التسهيلات,
وهذا له جانب ايجابي اكثر منه سلبي كما يعتقد البعض, وان المصارف لن تقدم
الاموال الا للمشاريع ذات الجدوى الاقتصادية الحقيقية, وبالتالي لن تحصل
مشاريع ضعيفة على قروض مما قد يتسبب في ازدياد الديون المتعثرة وبالتالي
يسبب ازمة مالية وهذا ما حدث في الولايات المتحدة واوروبا مؤخرا.
فيما يتعلق بأساس الازمة المالية العالمية وهي الرهن العقاري, فالوضع في
الاردن يختلف جذريا عن ما يحدث في الخارج, فلا يوجد اردنيون فقدوا وظائفهم
وبالتالي لم يتمكنوا من سداد اقساطهم , فالقطاع العام ما زال يستحوذ على
اكثر من 50 بالمئة من الانتاج في الدولة, في حين ان باقي النسبة التي
يقودها القطاع الخاص تتمتع باستقرار في نشاطها ولا توجد اعادة هيكلة,
واعتقد ان الوضع متاح للشركات بزيادة انشطتها بسبب تراجع الاسعار وارتفاع
تنافسيتها, الا ان هناك شريحة من المضاربين دخلت سوق العقار بغرض الربح
السريع واشترت عقارات لبيعها بعد فترة باثمان عالية, الا ان التباطؤ في
سوق العقار ادى الى تجميد عمليات البيع, وبات العرض اكثر من الطلب, لذلك
كل التوقعات تشير الى انه ومع انخفاض كلف البناء والتشدد في الاقراض ووجود
استثمار عقاري اكبر من حاجة السوق الاردني ووصول الاسعار الى مستويات غير
حقيقية تعكس التكاليف فان مستويات اسعار العقارات في المملكة ستشهد
انخفاضا ملموسا خلال الاشهر القليلة المقبلة.
بالنسبة للاستثمارات الاجنبية خاصة الخليجية, فان ما حدث في البورصات
العالمية والخسائر الفادحة التي لحقت بالمستثمرين هناك فان ذلك سيدفع بعض
المحافظ الاجنبية في سوق راس المال في الاردن الى الذهاب للخارج من اجل
اغلاق مراكزها المالية المكشوفة في الاسواق العالمية, وهذا لن يؤثر على
الاردنيين, فالمحافظ المستثمرة بغرض المتاجرة تسعى اولا واخيرا لتعظيم
ارباحها وبالتالي لن يضر الاردن شيئا لو خرجت من السوق, لكن المسألة
مختلفة بالنسبة للاستثمار الاجنبي الاستراتيجي في كبريات الشركات والذي
يشكل نسبته اكثر من 41 بالمئة من اسهم بورصة عمان, ولا يوجد في الافق ما
يشير الى ان هناك بيوعات من تلك الشركات على العكس تماما شهدنا قبل يومين
من ادارة تلك الشركات اقبالا على شراء اسهمها في البورصة.
من المرجح ان تتباطأ عمليات جذب الاستثمارات للمملكة بسبب الخسائر الكبيرة
التي لحقت بالدول اصحاب الفوائض المالية الكبرى مثل الدول الخليجية والتي
تقدر اوساط مصرفية خسائرها في الازمة العالمية بحوالي 750 مليار دولار, اي
ان جميع وفورات النفط التي جنتها الدول النفطية في العامين الماضيين تبخرت
مع انهيار وول ستريت, الا ان الاستثمارات الحالية قيد الانشاء ما زالت على
حالها ولا يتوقع ان تتراجع, فهي استثمارات انتاجية صناعية وليست مالية كما
هو الحال في بعض محافظ المتاجرة بالاسهم.
حالة الهلع في بورصة عمان التي حدثت الاسبوع الماضي كان المضاربون سببها
الرئيسي لانهم امتنعوا عن شراء الاسهم وساهموا بتخفيض الاسعار لمستويات
جاذبة دفعت صغار المتعاملين الى عرض اسهمهم التي اشتروها باسعار بخس
وسيبيعها المضاربون عما قريب لهم من جديد باسعار عالية, والحقيقة ان ما
بثه بعض المضاربين من اشاعات حول بيوعات اجنبية كان بغرض احداث بلبلة لدى
صغار المتعاملين بغرض جمع الاسهم من جديد.
لا شك ان التباطؤ الذي قد يحدث في الاقتصاد العالمي قد يؤثر نوعا ما على
النمو الاقتصادي في المملكة , لكن تلك مسألة غير محسومة لعدة اعتبارات,
اولها ان النمو المتوقع لهذا العام والعام المقبل هو بحدود 5 الى 6 بالمئة
بمعنى انه نمو عادي جدا, ثانيا مع اخفاض معدلات التضخم فانه من المتوقع ان
تشهد الحركة التجارية نشاطا استهلاكيا اعلى مما هو عليه الان وهذا منطقي
جدا, فالتوفير الذي قد يحدث في دخل الفرد يعني استهلاكه في احتياجات
اساسية له ولعائلته لم يكن بامكانه تحقيقها في ظل ارتفاع الاسعار, اضافة
الى ذلك فان اسعار العقارات قد تشهد تراجعا في الفترة المقبلة من جهة,
وزيادة اقبال اصحاب الاموال على الاستثمار في شراء الاراضي حيث الامان
الاقتصادي من جهة اخرى.
بالنسبة لاسعار الفائدة ومستوياتها الراهنة والتي وصلت الان الى حوالي 9
بالمئة بالنسبة لقروض الاسكان, فان البنك المركزي اعتاد في الاشهر القليلة
الماضية على رفع معدلاتها بسبب تنامي معدلات التضخم, الا انه بات عليه
الان اعادة النظر في تلك المسألة, خاصة ان اسباب التضخم في الاردن ليست
ناتجة عن ارتفاع الطلب لكنها مبنية على عوامل خارجية متمثلة بارتفاع
الاسعار عالميا, وبالتالي لا يستطيع البنك ان يحارب التضخم المستورد
باجراءات داخلية في الوقت الراهن, الا العامل الرئيسي الذي سيدفع البنك
المركزي الى دراسة قراراته حول اسعار الفائدة والعمل على تخفيضها ليس فقط
تماشيا مع ما يحدث في الخارج هو التراجع الكبير في اسعار النفط والمواد
الاساسية في الاسواق العالمية مما سيقلل من معدلات التضخم بلا شك, وقد
يكون لذلك القرار المرتقب آثار كبيرة على عمليات الاقراض وزيادة السيولة
وتحسين مستوى معيشة الافراد خاصة من ذوي الدخل المحدود.
التحدي الاكبر امام الاقتصاد الاردني من جراء الازمة المالية العالمية هو
مستقبل المساعدات الخارجية التي باتت اليوم تساوي ان لم تزد عن العجز
المالي في الموازنة, وسواء اكانت المنح تأتي من دول الخليج ام اوروبا ام
من الولايات المتحدة واليابان فان جميع تلك الاطراف تعاني البوم من
تداعيات مالية خطيرة على موازناتها قد تدفع صانعي القرار هناك الى اعادة
النظر في موازنات مساعداتها الخارجية لتعويض خسائرها وتقليل انفاقها,
والسؤال المطروح كيف سيتم تعويض تلك المساعدات التي تمول اليوم جزءا كبيرا
من النفقات الرأسمالية, لكن مختصون يؤكدون ان ذلك سيتم تجاوزه وتعويضه
بفضل انخفاض فاتورة الاستيراد والتي من المرجح ان تخفض بمقدار ملياري
دولار على اقل تقدير.
نتفهم جديدا تخوفات المواطنين من ارتفاع الاسعار , لكن من المستغرب ان
يتباكوا في ظل تدهور الاسعار للسلع والخدمات الاساسية, ومفهوم ان يتحسروا
على خسائر فعلية لحقت بهم, لكن من غير المفهوم ان يتخوفوا من خسائر وهمية
لم ولن تتحقق بسبب مفهومهم من حتمية ان ما يحدث في العالم يجب ان يتأثر به
الاقتصاد الاردني بنفس الشكل, ويتناسوا ان مصائب قوم عند قوم فوائد, وان
سر قوة الاقتصاد الادنى هو في ضعفه اساسا.











































