المرض النفسي ليس وصمة

الأمراض النفسية من اكثر الموضوعات التي يحيط بها الغموض ويدفع الناس الى تبني افكار وتصورات غير واقعية حولها، ومعتقدات غريبة عن أسباب المرض النفسي، الذى يتعارف العامة علي وصفه بحالة "الجنون"، وعن المرضي النفسيين الذين يطلق الناس عليهم وصف “المجانين“. وتمتد المفاهيم الخاطئة لتشمل تخصص الطب النفسي بصفة عامة، والذى اصبح اليوم رغم كل التطورات الحديثة في أساليب العلاج موضع نظرة سلبية من جانب مختلف فئات المجتمع. ولعل ذلك ما دفعني الى تناول هذه القضية الهامة ليس دفاعا عن الطب النفسي بل من أجل تصحيح بعض المفاهيم السائدة بعرض بعض الحقائق والآراء حتى نتبين الجانب الآخر من الصورة.

الجنون والمجانين 
بداية فإنني، وبحكم عملي في مجال الطب النفسي، أؤكد أنه لا يوجد مرض نفسي او عقلي اسمه  "الجنون"، فهذا اللفظ لا يعني بالنسبة لنا في ممارسة الطب النفسي اى مدلول ولا يعبر عن وصف لحالة مرضية معينة، غير اننا لا نستطيع انكار حقيقة الوصف المتداول بصورة واسعة بين الناس من مختلف الفئات لوصف المرضي النفسيين (حيث يطلق عليهم المجانين) وأحيانا يمتد ليشمل كل ما له علاقة بالطب النفسي، فكل من يتردد علي المستشفيات والعيادات النفسية هو في الغالب في نظر الناس جنون، وانطلاقا من ذلك فإن المستشفى هي مكان للمجانين والأطباء النفسيين أيضا هم "دكاترة المجانين"!

استخدام هذه المصطلحات له وقع سئ للغاية، فوصف اى شخص بالجنون لاشك هو وصمة أليمة تلصق به، وتسبب له معاناة تضاف الى مشكلته الاصلية التي تسببت في اضطراب حالته النفسية، فكأن المصائب لا تأتي فرادى بالنسبة لمرضي النفس الذين هم في أشد الحاجة الى من يتفهم معاناتهم ويحرص علي عدم ايذاء مشاعرهم المرهفة، فقد يتسبب المحيطون بالمريض النفسي من أهله واصدقائه ومعارفه بإضافة المزيد من الآلام النفسية الى ما يعاني منه من اضطراب نفسي حين يقومون، ولو بحسن نية، باستخدام بعض المفردات التي يفهم المريض منها انه قد اصبح اقل شأنا من المحيطين به. ولنا أن نعلم أن معظم مرضي النفس يتميزون بحساسية مفرطة تجاه نظرة الآخرين لهم وهذا جزء من مشكلتهم النفسية، فكأننا حين نؤذي مشاعرهم المرهفة بالإشارة او حتي التلميح كمن يلهب بالسوط ظهر جواد متعب ومنهك اصلا !

حاولت أن ابحث عن المعنى اللغوى لكلمة "الجنون" بدافع الرغبة بمعرفة اصلها، لكنني وجدت نفسي في متاهة متشعبة، فالأصل هو كلمة "جَنَّ " وتعني اختفى، ومنها جن الليل اى اخفت ظلمته الأشياء، ومنها أيضا "الجنة" التي تعني الحديقة او الشجر الكثير الذى يخفي ما بداخلة، اما صلة هذا الاشتقاق بالعقل فإن العقل إذا جن فإنه قد استتر واختفى، فالشخص إذن "مجنون" ويقال ايضا إن الجن وهم المخلوقات التي تقابل الإنس تأتي تسميتهم تعبيرا عن اختفائهم عن الابصار. واكتفي بذلك لأن ما قرأت من اشتقاقات وتفسيرات مختلفة لا يكفيه كتاب كامل، لكن عموما فما يمكن استناجه من ذلك هو العلاقة غير المباشرة بين تعبير الجنون ووصف المرض النفسي التي لا تتميز بالدقة حتى من الناحية اللغوية ناهيك عن الناحية النفسية حيث لا يعني الجنون اى مدلول علمي او وصف لمرض نفسي محدد.

لإضافة لذلك فإن لنا ان نعلم ان الأمراض النفسية (التي يطلق عليها جوازاً الجنون) تضم مجموعات كثيرة من الحالات المرضية تتفاوت في شدتها وأسبابها وطرق علاجها، ويكفي ان نعلم ان هناك ما لا يقل عن 100 مرض نفسي وعقلي معروف للأطباء النفسيين، وتضمها مراجع الطب النفسي بوصف كامل لكل منها. وهنا نتساءل اي هذه الحالات هو ما يصفه الناس بمرض الجنون! 
نتطلع الى ذلك اليوم الذى يتراجع فيه استخدام هذا اللفظ الأليم علي المشاعر.

 
الحاجز النفسي 
ان اى شخص منا مهما كانت درجة تعليمه او مكانته او موقعه علي السلم الاجتماعي يمكن ان ينتابه بوقت ما، ونتيجة لأى ظرف خاص، بعض الأضطراب الذى يؤثر بحالته النفسية ومزاجه، ويتأثر تبعاً لذلك أداؤه لعمله ونمط حياته بطريقة أو بأخرى، إن ذلك علامة على الاضطراب النفسي الذى يمكن أن يصيب اى شخص مهما كانت قوة احتماله، لكن الناس يتفاوتون فيما بينهم في تفاعلهم مع الاضطراب النفسي ومع ضغوط الحياة تبعا لتكوينهم النفسي وطبيعة شخصيتهم. ما نريد تأكيده هنا هو ان المريض النفسي ليس شخصا مختلفا عنا بل هو آي واحد يتعرض لظرف يفوق طاقة الاحتمال المعتادة او لأنه بحكم تكوينه شخص مرهف الحس لم يستطع احتمال ضغوط الحياة فظهرت عليه علامات الاضطراب النفسي، وفي كل هذه الحالات فالأمر لا يتطلب النظرة السلبية من المحيطين، به بل يجب مساندته حتى تمر هذه الأزمة بسلام دون خسائر كبيرة جراء الاضطراب النفسي.

لكن الواقع غير ذلك، فهناك حاجز نفسي قائم بين الناس في المجتمع بصفة عامة وبين مرضى النفس، بل يمتد ليشمل كل ما يتعلق بهم من العيادات والمستشفيات النفسية، وحتى الأطباء النفسيين، وكل ما يتعلق بالطب النفسي بصفة عامة، ويسهم هذا الحاجز بايجاد اتجاه سلبي نحو الطب النفسي يسبب عزوف الناس وترددهم في التعامل مع الجهات التي تقدم الخدمات النفسية، ويمكن لنا ملاحظة ذلك بوضوح من خلال عملنا بالطب النفسي، حيث يحاول المريض واهله الابتعاد عن العيادات والمستشفيات والمعالجين حتى تتفاقم الحالة ولا يصبح هناك بد من استشارة الطبيب النفسي، وعند ذلك فقط يحضرون مرغمين للعيادات النفسية.

الغريب ان الحاجز النفسي الذى تحدثنا عنه بين الناس والطب النفسي لا يقتصر وجوده على عامة الناس بل يمتد ايضا ليشمل فئات يفترض ان تكون اكثر فهما لدور الطب النفسي في علاج الأمراض النفسية بالطرق الحديثة، فقد اثبتت دراسات على طلبة كليات الطب انهم لا يفضلون التخصص بهذا المجال، ويعتبرونه اقل شأناً من تخصصات الطب الاخرى كالجراحة والطب الباطني وطب الأطفال، ليس ذلك فحسب بل إن الاطباء من تخصصات الطب المختلفة كثيراً ما يكون لديهم فكرة خاطئة وغير دقيقة عن مجال الطب النفسي، ما يدفعهم لعدم التعاون مع الأطباء النفسيين وعدم فهم اساليب تشخيص وعلاج المرضى النفسيين، بل إن بعض الأطباء من تخصصات الطب الاخرى كثيراً ما يتجنبون التعامل مع آي مريض نفسي حيث يعتقد البعض منهم ان مرضى النفس هم مصدر خطر محقق على كل من يقترب منهم، وهذه النظرة تفتقد للموضوعية بدليل أننا كأطباء نفسيين نتعامل مع كل حالات الاضطرابات النفسية والعقلية بسلاسة بالغة.

وصمة.. أسمها المرض النفسي 
كثيراً ما يعبر المرضى النفسيون عن عدم ارتياحهم لمجرد زيارة الطبيب النفسي، وينسحب ذلك على المرضى الذين تضطرهم حالتهم لزيارة العيادات الخاصة او مستشفيات الطب النفسي، إننا نلمس قلق المريض حين نجده يخشى ان يراه احد معارفه او اقاربه او جيرانه وهو في هذا المكان. معنى ذلك ان وصمة المرض العقلي او "الجنون" سوف تلحق به ويصعب عليه فيما بعد مهما فعل ان يصحح المفهوم الذى تكون لدى الناس عنه، ويزيد الأمر تعقيدا اذا كانت المريضة فتاة فمعنى ذلك ان الوصمة سوف تهدد مستقبلها، فمن من الشباب سيقدم على الزواج منها حين يعلم انها ترددت او قامت بزيارة الطبيب النفس ولو لمرة واحدة! 

مفهوم الوصمة ليس حكرا على مجتمع بعينه او انها مشكلة محلية، بل إن الارتباط بين الطب النفسي وهذا المفهوم السلبي موجود حتى في المجتمعات الغربية المتقدمة ولو بدرجة أقل، إنني اتفهم تماما  ما يطلبه بعض المرضى حين يطلبون الاستشارة بموضوع نفسي لكنهم يصرون علي عدم وضع اسمائهم في اى سجل رسمي او فتح ملف لهم ويعتبرون ذلك مشكلة هائلة قد تهدد حياتهم فيما بعد.

الطريف ان بعض المواقف المتناقضة تحدث للطبيب النفسي حين يلتقي مع مريض له مصادفة في الشارع او السوق او في مكان عام، ومن خلال ملاحظتي الشخصية فإن المرضى قد يتصرفون باحدى طريقتين، فمنهم من لديه شجاعة ليقوم بتحيته وقد يسلم عليه بحرارة وهذا يتطلب شجاعة كبيرة من جانب المريض، ومنهم من يشيح بوجهه وكأنما يريد ان يطرد عنه شبحاً مخيفاً يذكره بحالة المرض التي تعتبر اشد حالات الضعف الإنساني، إن هذه المواقف هي من خصوصيات الطب النفسي ولا تنطبق على الأطباء من آي تخصص آخر!

خدعوك فقالوا.. !
نعم؛ هناك الكثير من المعتقدات الخاطئة تحيط بالطب النفسي، والمرضى العقليين، والأمراض النفسية بصفة عامة، وهذه المعتقدات تصل أحياناً الى مستوى الخرافة لكنها تجد من يصدقها، فهناك من يعتقد أن الأمراض العقلية تنتقل من شخص لآخر عن طريق العدوى مثل الانفلونزا! بل إنهم يبالغون في ذلك فيؤكدون ان الابتعاد عن المجانين احتياط ضروري لمنع انتقال المرض، لقد اثار ذلك اهتمامي بصفة خاصة لأن بعض الناس وجه الي في بعض المناسبات سؤالا طريفاً لا اعلم ان كان على سبيل المزاح ام انها فكرة جادة، لقد سئلت ما إذا كان الطبيب النفسي يتأثر بعد حين فتنتقل اليه بعض الصفات من مرضاه بحكم طول المخالطة؟ لقد اضحكني هذا التساؤل لكنني لاحظت ان محدثي ينظر الي بتركيز شديد. كانت نظراته ذات مغزى فقد كان يبحث عن إجابة لسؤاله!!

اما المعتقدات الوهمية حول المرضى النفسيين فهي كثيرة ومتنوعة، ولعل الغموض الذى يحيط ببعض الموضوعات والظواهر النفسية هو الدافع لنسج الخيال حول أسباب المرض النفسي والقوى الخفية التي يمكن أن تكون وراءه، فمن قائل إن مس الجن او دخول الشياطين الى جسد الإنسان هو الذى يصيبه بالخلل العقلي ويؤثر في اتزانه فيقلب كل موازينه رأسا على عقب، وكثيرا ما يخبرنا المرضى واهلهم عن واقعة ما بدأت بعدها علامات المرض النفسي بالظهور مثل السقوط في مكان مظلم او الفزع من موقف محدد، أو مشاهدة كلب أسود! 

كثيرا ما يرجع المريض وأهله كل ما أصابه الى عين الحسود بل قد يحدد مصدر هذه العين وصاحبها ويظل اسيرا لهذه الفكرة فلا يستجيب لأى علاج او يسيطر على الشخص أنه ضحية عمل من السحر ولن يشفى من مرضه النفسي حتى يتم فك العمل بواسطة مختصين وليس عن طريق الطب النفسي. كأطباء نفسيين، علينا الاستماع إلى كل ذلك وأن نحاول تصحيح المفاهيم والمعتقدات بالإقناع وبأسلوب هادئ.

مرة واحد مجنون.. !!
ثمة مشكلة اخرى، رغم طرافتها، تمثل احد الهموم التي تحيط بالطب النفسي وتشكل قضية تمس بعض الأطراف كالمرضي العقليين والأطباء النفسيين ايضا، وهي التي تنشأ عن التناول الاعلامي بالاذاعة والتلفزيون والصحافة لبعض الأمور التي تتعلق بالطب النفسي. إن استخدام المريض العقلي كمادة للكوميديا والضحك كثيرا ما يتجاوز الحد المعقول ويسبب ضرراً بالغا بمشاعره، ومن ذلك مثلا الفكاهة "مرة واحد مجنون.."، ثم تنتهي بمفارقة مضحكة، ويستغرق الجميع في الضحك.
هناك مثال يقول "مرة واحد مجنون كان يجلس مستغرقاً في الكتابة حين دخل عليه طبيبه، فسأله الطبيب: 
•    ماذا تكتب؟
- أكتب رسالة. 
•    سترسلها إلى من؟
- الى نفسي! 
•    وماذا كتبت بالرسالة؟
- لا اعرف.. فإنا لم اتسلمها بعد! 

لا يقتصر الأمر على ذلك، بل تمتد الفكاهة لتشمل الأطباء النفسيين فهناك مجموعة كبيرة من النكات بدايتها: "مرة واحد دكتور في مستشفي المجانين"، اما الذى زاد وغطى على ذلك، فهي الطريقة التي يظهر بها الأطباء النفسيون في الأفلام والمسلسلات المختلفة، والصورة الكاريكاتيرية لمظهر الطبيب وتصرفاته التي تثير ضحك المشاهدين، فيستقر بالأذهان صورة مشوهة يصعب الوصول الى تصويب لها في الواقع. إننا لسنا ضد احد فبدلا من ان نضحك على شخص ما من الأجدى أن نضحك معه، فالضحك قد يعقد المشكلة، وقد يكون الدواء السحرى لها إذا ما احسن استخدامه.

 
المرض النفسي ليس عيباً 
يجب أن تتغير نظرة الناس بصفة عامة الى الطب النفسي، وان يتبني الجميع مفاهيم واتجاهات ايجابية نحو المرضى النفسيين والمستشفيات ومراكز العلاج النفسي، والطب النفسي بعامة، وذلك يمكن ان يتحقق حين تتوفر الحقائق والمعلومات الصحيحة حول الموضوعات النفسية لتحل محل المعتقدات السائدة حالياً، وهذا هو دور الإعلام والجهود التي يمكن ان تبذل للتوعية النفسية الجيدة، فالمريض النفسي هو شخص طبيعي لا يختلف عني وعنك سوى في المعاناة التي تسببت في اضطراب حياته وعوامل لا دخل له بها، وعلى الجميع مساندته حتي يتمكن من تجاوز هذه الازمة، ومن الممكن ان يعود ليؤدى دوره في الحياة كاملاً نحو اسرته ونحو عمله ونحو المجتمع.

علينا جميعاً ان لا نتخلي عن مرضى النفس، فقبولهم ومساعدتهم يشكلان حجر الزاوية في عملية العلاج التي يشترك فيها الطبيب واسرة المريض وأصدقاؤه والمجتمع، والمبدأ الذى يتبناه الطبيب النفسي هو مساعدة المريض حتي لو لم نوافق على ما يفعله إذا كان مدمنا او منحرفا او خارجا علي التقاليد، فننصره ظالما او مظلوما حتى يتم علاجه ويعود الى الحياة بدلا من الاستمرار في الاضطراب الذى يؤدى الى الاعاقة الكاملة.

اما مسألة الوصمة فتحتاج لمزيد من الوقت والجهد ليتم حلها، لكن احد الاساليب البسيطة هي ادماج عيادات الخدمة النفسية بالمستشفيات العامة حتى لا يجد المرضى حرجاً في التردد عليها، كما أن الأطباء النفسيين، يتعين عليهم الخروج الى المجتمع والتواصل مع كل من يحتاج الى خدماتهم في اماكنهم، ويمثل ذلك الاتجاه الحديث في ممارسة الطب النفسي في المجتمع.

 
على الجميع ان يعلموا ان الانسان هوالجسد والنفس يتكاملان معاً، وإذا كان الانسان لا يجد حرجاً في علاج اى علة تلم به وتصيب اى جزء من جسده فيذهب دون تردد الى الاطباء المختصين بعلته، فإنه من باب اولى ان لا يجد اى حرج او أن يعتبر ذلك وصمة غير مقبولة بأن يطلب العلاج اذا شعر بأى اضطراب او خلل يصيب النفس لدى الأطباء والمعالجين النفسيين، فكما أن الأطباء من مختلف التخصصات يعملون في علاج الجسد، فهناك ايضا من يقوم بإصلاح العقل والنفس.. والله سبحانه هو الشافي من كل شئ.

*مدونات شومان

أضف تعليقك