اللاجىءأبو فارس..شاهد على جريمة النكبة ومعاناة اللجوء

من بعيد يراقب أبو فارس إحدى الفضائيات العربية وهي تبث خبرا يعرض تجمهر عدد من الفلسطينيين أمام أنقاض مدرسته التي أنشئت سنة 1888 أيام العثمانيين في قريته الصغيرة “أم الزينات” رافعين لافتات كتبت عليها أسماء قراهم التي هجّروا منها عام 1948 على يد عصابات القتل والإرهاب الصهيونية.

يجلس في صالون بيته بهندام وملابس أنيقة يتابع مسيرات إحياء ذكرى نكبة عام 1948

ا

النكبه التي عاش وما زال يعيش فصول معاناتها منذ أن طردت عصابات الإجرام الصهيونية عائلته من قرية “أم الزينات” قضاء مدينة حيفا في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948.

بعض الدمع يلمع في عينيه.. يقول وقد ظهر على صوته شيء من دمعه: يا ريتني أعيش لو يومين هناك.

حدثني جدي ابو فارس عن فصول نكبته الخاصة حيث انتقل من لجوء إلى لجوء، كان الرجل يتحدث عن قصة تتجسد فيها معاناة كل الشعب الفلسطيني.

رفيق عرابي فحماوي “أبو فارس” من مواليد عام 1938 عاش طفولته في حضن جبال الكرمل الذي تكثر فيه اشجار الزيتون واللوزيات والكروم التي انتشرت بكثرة في قريته “أم الزينات”.

كانت قريته كما يصفها “أبو فارس” قطعة من الجنة، هي قرية منتصبة بكل شموخ على جرف صخري في الجزء الجنوبي الشرقي من جبل الكرمل.

شموخ لطالما ورّثته لأبنائها الذين عرفوا بثوريتهم ونضالهم وبالوطن المغروس فيهم.

تعد أم الزينات التي تبعد حوالي 20.5 كم عن حيفا، على ارتفاع 325 مترا واحدة من القرى العشر الكبرى في القضاء من حيث عدد السكان (1470 نسمة) وكانت على طريق فرعية تصلها بالطريق العام الساحلي.

في بداية عقد الأربعينيات كان أبو فارس (الطفل) يمارس هوايته المفضلة مع أبناء قريته برشق قوات الانتداب البريطاني بالحجارة، تماما كما حدث مع أطفال الحجارة في انتفاضة 87.

يقول: “يعلم الأب أطفاله ألعابا كان يلعبها في صباه ونعلم أطفالنا رمي الحجارة على المحتلين”.

لم تكن هذه المواجهات البسيطة في مخيلة الطفل رفيق سوى لعبة مسلية، يرشقون بها الجنود بالحجارة، فيطاردونهم في جبال الكرمل في محاولة للامساك بهم لكن دون جدوى.

يقول رفيق: علمت أن هذه اللعبة أكثر جدية مما كنت اعتقد عندما حدث الانقلاب الأكبر في تفكيري ووعيي في عام 1948م.

ويضيف أبو فارس: “إن الغارة الأولى على أم الزينات كانت في منتصف إحدى ليالي الشتاء حيث نفذت وحدة صهيونية قوامها عشرة من رجال الميليشيا يرتدون بزات عسكرية هجوما على القرية متبعة تكتيكا استعمل كثيرا للتمكن من دخول القرى العربية ولكن تم صد الهجوم عن القرية بفضل شجاعة أهلها واستبسالهم في الدفاع عنها.

ويشير أبو فارس بفخر الى أن صحيفة “فلسطين” نشرت تقريرا يفيد أن الغارة وقعت ليل 19-20 كانون الثاني/ يناير 1948 وأنها صدت.

ويضيف أن الهجوم التالي كان إثر سقوط حيفا، عندما احتلت قوات الهاجاناه في سياق عملية بيعور خميتس (التطهير في الفصح) بعض القرى المجاورة. وفي 15أيار/ مايو احتلت الكتيبة الرابعة في لواء الغولاني أم الزينات، بعد مقاومة عنيفة من السكان أضطر خلالها رجال الكتيبة إلى احتلال القرية بيتا بيتا وشارعا شارعا.

يقول “أبو فارس”: كانت معارك السكان هناك مثالا على حب الأرض والتضحية الشجاعة في سبيلها.

ويستحضر أبو فارس من ذاكرته بعض الصور التي حملها في آخر لحظات له بقريته “أم الزينات” فيقول: استشهد الحاج عبد الغني بشر الذي رفض الخروج من بيته على أعتاب بيته، كما استشهد أيضا عدد كبير من شباب القرية الذين قاوموا الاحتلال بما لديهم من ذخائر.

وبعد أن ألتقط “أبو فارس” أنفاسه أكمل حديثه: “بعدها بدأت معاناتنا في الهجرة”.

يقول: بعد أن استشهد المقاومون ودخل اليهود القرية أجبروا أطفالها ونساءها وشيوخها على الخروج منها بما عليهم من ملابس رافضين السماح لهم بأخذ أي شيء من أغراضهم وحملوهم في حافلات نقلتهم إلى معسكر للجيش البريطاني بوادي الملح ومن ثم إلى منطقة “اللجون” في بلدة “أم الفحم” ويقول: مكثت مع والدتي - رحمة الله عليها - عند أقارب لنا لمدة سنتين.

ولكن العصابات الصهيونية لم تترك الطفل رفيق وشأنه فقد دخل اليهود إلى بلدة «أم الفحم» ليعود ويعيش التهجير مرة أخرى.

كانت هذه المرة أكثر بشاعة حيث قامت العصابات اليهودية بإطلاق النار عشوائيا فوق رؤوس السكان لإجبارهم على الخروج من البلدة.

ويضيف «أبو فارس» أنه هرب إلى دالية الدروز القريبة من أم الفحم ليجد نفسه وحيدا وتائها عن عائلته التي لا يعرف فيما إذا كانت قد نجت من القصف العشوائي أم لا؟!

وفي أثناء تجوال الطفل رفيق في دالية الدروز 

وجده فلسطيني مسيحي يدعى «شريف روحانا» تصادف انه صديق حميم لوالده، فتبناه.

يقول «أبو فارس» قضيت عنده 3 سنوات إلى حين اكتشف اليهود الصهاينة أمره وبأنه مسلم وليس ابن شريف فأخذوه وحبسوه أسبوعا مارسوا فيه أبشع أنواع التعذيب والقسوة.

انه الطفل الذي لم يجد حينها أي مواثيق دولية أو منظمات إنسانية تحميه من هول ما تعرض له من تعذيب.

يقول «أبو فارس» وقد ارتعش جسمه واغرورقت عيناه بالدموع «بعدها سلموني إلى الحدود الأردنية لتبدأ رحلتي في البحث عن عائلتي التي فقدتها».

ويضيف كل عام ومع حلول ذكرى النكبة أجدد وعدي للأرض التي روّيت بدماء الشهداء أنني لن أتخلى عنها أبدا ولن أنساها... وأننا عائدون ... عائدون .. مهما طال الزمن..

لقد وجد الطفل رفيق أسرته بعد سنوات من البحث.. ولكنه لم يجد وطنه بعد، على الرغم من مرور اكثر من سبع ستون عاما على ضياعه.

أضف تعليقك