القيد الأمني وصمة لا تمُحى من السجل العدلي لأصحابها

القيد الأمني وصمة لا تمُحى من السجل العدلي لأصحابها
الرابط المختصر

لـ”هبة” 30 عاما، 87 قيدا في سجلها الأمني، ما يزيد عن 50 منها “مقاومة رجال الأمن”، و”حيازة مخدرات وتعاطيها”.

تم توقيف هبة في مركز إصلاح وتأهيل “الجويدة” مرتين خلال الأعوام 2003-2008. تلك السيدة المدمنة على المخدرات كانت فرّت من أسرتها القاطنة في مأدبا، لتعيش مع رجل أحبته في عمان منذ 2002. وهي فقدت حياتها الطبيعية بسبب القيود الأمنية.

”مش فارقة معي حياتي أبدا”، تقول هبة ولا تتوانى عن شتم رجال الأمن العام إن اقتربوا منها، ذلك بسبب أنهم “يتعاملون معي كأني وضيعة وحثالة”.

في أحد بيوت الزقاق بوسط البلد، قرب المدرج الروماني، تعيش وزوجها الثلاثيني وسط أجواء لا تختلف كثيرا عن قصة الفيلم المصري “جعلوني مجرما”. عناصر الشرطة تقتحم منزلهما المطل على مركز أمن فيلادلفيا كلما بحثوا عن مشبوهين أو متاجرين بالمخدرات على اعتبار أن الزوجين على قائمة المشبوهين وأصحاب القيود.

حال هبة ليس استثناءً عن القاعدة. لكنه لا ينطبق بالضرورة على الحالات التي وردت في سياق التحقيق، ممن يحملون قيودا أمنية في سجلاتهم العدلية. وتتراكم هذه القيود الممنوحة صلاحيتها للمحافظين حيث يصعب الغاؤها من سجلاتهم العدلية مما يدفع بعضهم الى تعمد المخالفة طالما ان صلاح حاله لن يغير من الامر شيئا ولن يرد اليهم حياتهم الطبيعية.

أحمد (28 عاما)، يجد نفسه ضحية عشرة قيود أمنية تباعا منذ عام 2000. كانت كفيلة بتغيير حياته تدريجيا. “جرم شراء أجهزة مسروقة كان أول قيد لي، ومن ثم تكرر الحال في الشجار وإطالة اللسان والشتم”، يقول أحمد.

أصعب لحظة مرت على أحمد، كانت حين أوقفته شرطة سير على طريق المطار: “دققوا في هويتي. وبعد دقائق أخذ أحدهم يسخر مني أمام أصدقاء لي في السيارة، شو يا سارق وتقاوم الأمن العام”. لكنه يعتبر هذه “الإهانة” بالأمر البسيط أمام فقدانه عمله كسائق في إحدى الشركات الخاصة في آب 2008.

“تم توقيفي لأربعة أيام. وبعد خروجي وعلمهم بأنني على قيد سابق، طلبت إدارة الشركة مني تقديم استقالتي وحاليا أعمل بدوام جزئي على سيارة أجرة “سرفيس” على خط “دوار الداخلية- البلد”.

يطبق الأمن العام “القيد الأمني” كإجراء تمهيدي للتوقيف الإداري، بهدف حماية المجتمع ممن “يشكّلون خطرا عليه أو تهديدا لأمنه”، وفق الناطق الإعلامي باسم مديرية الأمن العام المقدم محمد الخطيب. وهم عادة ممن سبق أن ارتكبوا سلوكا مخالفا للقوانين.

ارتفاع أعداد الموقوفين إدارياً

لا توجد إحصائيات دقيقة عن أعداد حاملي القيود الأمنية في سجلاتهم العدلية، ولم نفلح مرارا في الوصول إلى أرقام “تقريبية” بسبب تكتم ادارة البحث الجنائي، رغم تقديمنا كتبا رسمية واجراء اتصالات كثيرة معها. لكن قد يتأثر منها ما لا يقل عن 100 ألف مواطن، وفق تقديرات “المنظمة العربية لحقوق الإنسان” والتي أطلقت في صيف العام 2009 حملة “قيود بلا شرعية” بهدف “عدم تثبيت القيود على شاشات وأجهزة الأمن العام إلا بعد صدور قرار قطعي مبرم ومصدق من المحكمة المختصة”.

شخص واحد من كل خمسة أشخاص في السجون الأردنية يخضع للاحتجاز الإداري، كنتيجة لتراكم القيود الأمنية، وفق منظمة “هيومان رايتس ووتش”.

يصل عدد نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل منذ بداية العام 2010 إلى 8 آلاف و200 نزيل إضافة إلى 16 ألف موقوفا إداريا عام، وفق “المركز الوطني لحقوق الإنسان”

لكن أعدادهم تبقى عرضة للزيادة أو النقصان تبعا لقرارات الحاكم الإداري.

وينذر ناشطون حقوقيون من ازدياد أعداد الموقوفين إداريا، طالما بقي قانون منع الجرائم نافذا، وهنا تقول الناشطة الحقوقية نسرين زريقات أن كل عام سيزيد من عدد الموقوفين إداريا طالما بقي القانون دون تعديل.

وبناء على القيد الأمني يحق للأمن العام استدعاء أي من أصحاب القيود لدى التحقيق في كل قضية تقع في المنطقة التي يقطن فيها.

ورغم وقف العمل بقانون الطوارئ (أحكام عرفية) منذ عام 1989 ظلت هذه التدابير قائمة. استعان المحافظون بأحكام قانون منع الجرائم لعام 1954 لتطبيق “القيد الأمني” بهدف”حماية المجتمع من الخطرين أمنيا”، وبالتالي كبّلت القيود الأمنية غير الناجمة عن أحكام قضائية حياة الناس وحولتها الى جحيم.

الأصل أن تسجل المحاكم القيود الأمنية عبر أحكام قضائية وليس من خلال مديرية الأمن العام، باعتبار استمرار تسجيلها على النحو القائم حاليا بحق المواطن يعد مصادرة لحقوق الإنسان، يقول المحامي عادل الطراونة.

من حق القاضي معرفة التاريخ

“الهدف من القيد الأمني الضبط والربط للخارجين عن القانون”، يقول لنا مدعي عام سابق في محكمة الشرطة رفض الإفصاح عن اسمه. “وفي قانون العقوبات نص المشرع على عقوبة مشددة في حال تكرار ضروب الاحتيال وإساءة الأمانة والسرقة. وتوضع القيود في صحيفة المشتبه به المقدمة للقاضي أو المدعي العام ليتعرف على سوابقه الأمنية. وهنا تكمن أهمية القيد بالنسبة للمدعي لمعرفة سيرة الشخص الذي أمامه”. تكملة

المحافظ والدور الوقائي

المحافظ هو صاحب الصلاحية في وضع القيود وينسّب بذلك إلى مدير المركز الأمني الذي يقرر بأن هذا الشخص يشكل خطورة على مجتمعه ولا بد من اتخاذ إجراء إداري بحقه. وتتراوح التوقيفات بين شهر إلى سنة كاملة تبعا لخطورة الشخص وتقدير الجرم الذي اقترفه.

بعد جهد دام أشهرا في محاولة للالتقاء بمحافظين، تمكنا من الحديث مع محافظ عجلون السابق أحمد الشياب، الذي قال: المحافظ هو “صمام أمان المجتمع بالتشارك مع مدير الشرطة ومدير المخابرات والفاعلين في المجتمع”.

من يحمل الاسبقيات الجرمية “عليه العين دائما ونضعه تحت المجهر” يضيف الشياب، “لكن كل جريمة لها أركانها وأسبابها”. ويرى أنه “لولا وجود المحافظين في المجتمع لانتشرت الجرائم وعمت الفوضى في المجتمع”.

“دورنا وقائي في المجتمع، وليست الغاية إصدار أحكام إدارية”، يؤكد الشياب. “نعم تلافينا العديد من الجرائم. كان الموقوف سيرتكب جرائم قتل ولدينا دور التصدي للجرائم سواء كان هناك دور للقاضي أم لا، وتحديدا فيما يتعلق بالقضايا التي تدخل فيها العشائرية”.

وصاحب القيود الأمنية، بنظر المحافظ يصبح معلوما لديهم، و”هذا ليس فقط من خلال سيرته العدلية إنما من خلال قراءتنا المهنية ومن خلال التشبيك مع الأمن العام عبر مدراء المراكز الأمنية”.

مراكز أمنية تأخذ دور المحافظ

تنظر وزارة الداخلية لقانون منع الجرائم على أنه “وقائي ومطلب ضروري للحفاظ على الأمن الوطني والاجتماعي” من خلاله يلجأ المحافظ لحماية امن المواطن في قضايا ذات خصوصية وسرية بتوقيف الخطيرين أمنيا”.

واعتبرت الوزارة في تصريحات لها عقب صدور تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان، في 27 كانون الأول 2010 أن استعمال المحافظ لصلاحياته في التوقيف الإداري إنما يكون “لحماية المواطنين والمحافظة على أمنهم في الكثير من القضايا”.

وتؤكد الداخلية بأن “صاحب الخطورة الأمنية” لا يرسل للمحافظ في كثير من الأحيان، ليقرر التوقيف أو العقوبة، بل “نعرفهم من سيرتهم الجرمية، فيتم اتخاذ الإجراء الأمني بحقهم، بتمديد التوقيف إلى حين يشعر مدير مركز الإصلاح بأنه تأدب”.

من هنا، تدعو رئيسة وحدة العدالة الجنائية في المركز الوطني لحقوق الإنسان نسرين زريقات، والمحامي عادل الطروانة إلى سحب دور القضاء من أيدي السلطة التنفيذية، معتبرة أن ذلك يقوض من صلاحيات القضاء الذي يعتبر هو صاحب الدور الوحيد في ذلك.

الصلاحيات القانونية!

يعطي قانون منع الجرائم 1954 صلاحيات للمحافظ بدءً بالتحقيق مع الأشخاص وتوقيف المشتبه بهم أو مثيري الشغب وفق تقدير المحافظ. أما المدعي العام، فوفق قانون أصول المحاكمات الجزائية، فله صلاحية التوقيف في الجنح من شهرين الى شهر، وفي الجنايات من ستة شهور الى ثلاث، على أن يخضع قرار تمديد هذه المدد لموافقة المحكمة المختصة. فيما تعطي صلاحيات لمدير المركز الأمني في مدة 24 ساعة في توقيف الأشخاص والتنسيب للمحافظ حسب ما يحمله الشخص من قيود أمنية، وذلك وفق قانون الأمن العام وتعليماته.

ضوابط على صلاحيات القضاة

الحكومة أدخلت جملة تعديلات أواسط عام 2009 على نظام التوقيف القضائي، وضعت عبرها ضوابط على الصلاحيات المعطاة للمدعي العام في التوقيف القضائي. لكنها لم تضع أي ضوابط على التوقيف الإداري، من خلال إعطاء صلاحيات فضفاضة لهم بموجب قانون منع الجرائم لسنة 1954 ما يفتح بابا واسعا أمام تجاوزات على حقوق الإنسان، على ما يرصده المركز الوطني لحقوق الإنسان في تقرير الحقوقي عن سنة 2009.

لكن يبقى “للأمن” صلاحية حق استدعاء أي من أصحاب القيود الامنية للتحقيق معه في كل قضية ترتكب في المنطقة التي يقطن فيها هذا الشخص. ويزوّد “الأمن” القاضي أو المدعي العام ب”السجل الشخصي” ليتعرف على سوابق الشخص الماثل أمامه، وهذه القيود المسجلة، في الغالب، لا تكون مستندة إلى أحكام قضائية مبرمة إنما بقرارات من المحافظ.

ويسمح قانون منع الجرائم لسنة 1954 للمحافظين باتخاذ إجراءات بحق الأشخاص الذين “على وشك ارتكاب أي جرم أو المساعدة على ارتكابه”، ومن “اعتاد” اللصوصية أو إيواء اللصوص أو المساعدة على إخفاء الأموال المسروقة، أو كل من كان في حالة تجعل وجوده طليقاً بلا كفالة “خطراً على الناس”. ربما يكون هذا مقبولا في بعض المجتمعات للوقاية من الجرائم لكن الآمر لا يقتصر على المجرمين الخطرين.

الخلافات العائلية مثلا، كانت سببا في أول قيد أمني بحق عدنان 40 عاما، بقيود تراكمية وصلت إلى ثمانية منذ عام 1999. يستذكر عدنان شجارات مع عموم عائلته واتهام أحدهم له بالسرقة، ويعتبرها كيدية. لكن وبعد مرور سنوات لم يدن خلالها أمام القضاء ظل قيد السرقة يلازمه أينما كان والمخطط لديه أن يسرق أكثر لكي يؤكد على صلاحية القيد غير المشطوب.

يتبين من أحكام للمحاكم ومقابلات أجرتها “منظمة هيومان رايتس ووتش” أن المحافظين يلجأون في أغلب الأحيان إلى التذرع بهذه الفقرة الأخيرة من القانون.

قيد بالشبهة

ثائر الشواهين 37 عاما، يحمل قيدا أمنيا منذ آب 2004، كان يعمل بائعا في إحدى البسطات قبل أن ينتقل إلى محل صغير بسقف السيل. ولقيام أحد النشالين بسرقة زبون كان يقف بالقرب من بسطته، خضع للتحقيق في مركز أمن فيلادلفيا، غير أنهم سجلوا بحقه قيدا أمنيا خاصا بالنشل.

ورغم تبرئة المحكمة له في تشرين أول من العام 2004 لعدم ثبوت الأدلة، ما زال القيد يرافقه حتى الآن. ولا يزال ثائر متأخرا في المضي بإجراءات منح زوجته الجنسية الأردنية، فواحدة من العقبات التي يواجهها هي “إدارة المعلومات الجنائية” التي لم تسقط القيد رغم البراءة أمام المحكمة.

اتصلنا بالمكتب الإعلامي في “الأمن العام” لتبيان ملف ثائر لكنهم رفضوا تزويدنا به، معتبرين أن “الشخص هو الأعلم بأموره الشخصية، ومن هنا عليه الالتزام بالأمن لكي لا تتضرر أسرته بعد ذلك والأمن غير مسؤول عنه وعليه”.

ويؤكد الناشط الحقوقي المحامي عادل الطراونة أن “الأمن العام” مقصر، فليس من واجب الشخص الذي اتهم ولم يدن أوصدر بحقه حكم براءة أن يذهب إلى الدوائر الأمنية ويعلن براءته ليشطب القيد إذ ينبغي أن يحدث ذلك آليا بمجرد ورود الحكم.

ولا يجوز أن يحاكم المرء على الجرم الواحد مرتين، ينطلق المحامي الطراونة من أبسط قواعد العدالة الجنائية، ويقول: الأساس ألا تظهر المعلومات كلما استدعى الأمر على قيود أمنية قديمة.

ويقول الطراونة إن القاضي المدني هو السلطة القضائية الوحيدة وغير ذلك هو تجاوز على الأصل، والمحافظ موظف حكومة يطبق قانون منع الجرائم الذي يعطيه صلاحيات عريضة متجاوزا فيها صلاحيات القضاء.

 

الخوف يتملّك أحمد فيما لو فكر يوما في التقدم بخطبة فتاة. ويتوقع  “أن يقوم أهلها بالتدقيق على اسمي ويظهر بأني صاحب قيود ويرفضوني فوراً، بل وقد يشيعوا خبرا حول عدم آهليتي للزواج”.

 

شراء أجهزة مسروقة في 13 نيسان 1999، كانت قيدا أدخل شادي 35 عاما، دبلوم إلكترونيات، في جولات بين المراكز الأمنية، حاصدا حتى اللحظة سبعة قيود أمنية.

 

“تسجيل القيد دون ادانة من المحكمة يشعل الثورة والعصيان في صدور الذين دخلت سجلاتهم القيود الامنية”، كما يقول شادي الذي اشترى أجهزة تسجيل “مسروقة دون أن أعلم”. تم توقيفه إداريا لمدة 21 يوماً في مركز إصلاح وتأهيل “جويدة”. انتهت القضية ببراءته غير أن وضعه تغير منذ تلك الأحداث. ترك شادي منطقة سكنه في الزرقاء، مقيما في مدينة فحيص، مبتعدا عن أي فرصة توقيف  قد تتكرر.

 

“إذا أوقفوني بالشارع، يشرع الشرطي بمساءلتي عن قيد العام 1999، ولا انكر أني فقدت فرصة الاستمرار في خطبتي بعد معرفة والدها بسجلي الأمني”. ويتابع “لا أريد التقدم بطلب تأشيرة من السفارة الأميركية رغم وجود الدعوة التي وجهها الى احد اقاربي للسفر، وهذا كله لتأكدي من أني مرفوض بناء على قيودي، وأصلا لم أقدم طلبا لإصدار جواز سفري”.

 

 حال شادي هو حال عبود ابن الثامنة والعشرين الذي يحمل خمسة عشر قيدا أمنيا في سجله. ويقول: “أنا نصاب وحرامي وأزعر.. سمّني ما شئت لكن تعامل معي باحترام. فالشرطة تجعلني دائما أضحوكة”، وهذا الشعور بالدونية يجعله يزيد من حجم أي مخالفة قد ترتكب. زوجة عبود، باتت دائمة الزيارة له وتكفيله مع عائلتها في المراكز الأمنية. يقول: “زيارة زوجتي مع أحد أبنائي الثلاثة تزيد من حقدي على المجتمع. لا أشعر بإنسانيتي في الأردن من وراء القيود والمشكلات التي باتت مثل السبحة وفرطت”.

 

تتأجج مشاعر الغضب في صدر وسام (31 عاما وعشرة قيود أمنية بين شجارات وشجار مقرون بالشغب) عند جلبه الى المركز الامني وقت حدوث أي سرقة أو سطو. يخضعونه للتحقيق ثم الاحتجاز. “أغضب عندما اشعر بالدونية من وراء الأمن. يعتبروني دائما مذنب، وكأني مسؤول عن كل سرقة تقع في وسط البلد”.

 

 يخضع صاحب القيد الأمني إلى التوقيف الإداري في حال ثبت تورطه في قضية ما، وعندها يقرر توقيفه لمدة تقل عن الشهر، وإضافة قيد أمني جديد، وفق ما يراه المحافظ، بحسب تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان

لا توظيف لأصحاب القيود الأمنية

تسجيل القيود تراكميا وعدم شطبها إثر تبرئة الشخص دمر أيضا نيات التوبة لدى المذنبين وغيرهم على حد سواء. فإذا كان أحمد يحمل في سجله 10 قيود أمنية، فأمين أبو خالد 44 عاما، يحمل قيدا واحدا منذ 1999 وهو صاحب محل بيع للتحف في وسط البلد. قدم طلبا للمشاركة في رواق معرض لإحدى السفارات الأجنبية في آب 2006، ضمن دعوتها لمعرض للحرفيين الأردنيين في باحتها الخارجية. بعد قبول مشاركته، عادوا واتصلوا به معتذرين “لأسباب أمنية” كما قالوا له بالهاتف، جازما أن “قيدا أمنيا في سجله وهو التعدي على مواطنين قبل 10 سنوات”، كان كافيا لعدم مشاركته. يعتقد أن هذه الحادثة أضرت باسمه كثيرا على حدث سابق مع جيرانه وهم أنفسهم نسوه.  

 

مهند شعباني 35 عاما يحمل ستة قيود أمنية متعلقة بشرب الكحوليات في الطريق، فقد فرصة عمل في مجال البناء في حزيران 2007، بعد أن فرض “الأمن” عليه الإقامةً الجبرية مما يحول دون تنقله بين منطقة سكنه “الجوفة” ومكان عمله “بيادر وادي السير”.

 

“كيف لي أن أحافظ على عملي، هل يوجد صاحب عمل يقبل بمغادرتي العمل مرتين، في كل مرة لأكثر من ساعة بانتظار دوري لأسجل حضوري في مركز الأمن”، يقول مهند.

 

وسام، يحاول الالتزام بالعمل وكسب المال بشكل قانوني، غير أنه يعتبر أن توقيفه المستمر بين فترة وأخرى تدفعه للتفكير في السرقة مجددا.

 

هل يصبح “القيد الأمني” ملازما لصاحبه أينما يذهب؟ سؤال جلنا به على 30 رب عمل، في مناطق “وسط البلد، جبل الحسين، وادي صقرة”، فأجاب 28 منهم بأنهم لا يشغلون من يحمل في سيرته قيودا أمنية.  

 

أمين شعبان 60 عاما، صاحب محل أحذية في وسط البلد، يرفض تشغيل من يحمل قيدا أمنيا “قد يجلب لي المشاكل والشبهة، أو ربما يأتي بزبائن يشابهونه بالحال ويقوم بالاعتداء علي والسرقة. لا أريد محلي للقذرين. لا أريد الشبهة من أصله”.

 

محمد أبو شيخة 44 عاما، مدير قسم الموارد البشرية في إحدى الشركات الخاصة،  يوضح لنا أن معايير التوظيف لديهم غير الكفاءة، هو “تقييم السلوك” وإذ اعترف أحدهم أن لديه قيدا أمنيا، فيكون مؤشرا سلبيا على توظيفه، لأن الشركة معنية بسلوكيات الموظفين، “حفاظا على أمن الشركة حتى لو تاب من الجرم الذي اقترفه تظل موجودة لديه مشاعر العدوانية ربما أو ما قام به من سلوك يخل بالأمن”.

 

رد الاعتبار

على أن العشرات ممن يحملون قيودا أمنية، لا يقدمون إلى المدعي العام طلبا ليتم إزالة القيود الأمنية ضمن ما تنص عليه تعليمات “رد الاعتبار”. ويفيدنا الشاب مهند الشعباني أنه لا يدرك أن ثمة قوانين قد تساعده في شطب قيوده الأمنية.  

 

“رد الاعتبار” إما أن يكون قانونيا أو قضائيا؛ القانوني تكون العقوبة المحكوم بها عن الجنحة بالحبس او الغرامة وعدم صدور حكم جديد بالحبس أو بعقوبة اشد خلال “5″ سنوات من تاريخ انتهاء تنفيذ عقوبة الحبس وثلاث سنوات من تنفيذ عقوبة  الغرامة.

 

أما رد الاعتبار القضائي فيشترط فيه تنفيذ العقوبة أو العفو عنها أو انقضائها بالتقادم ومضي مدة معينة من تاريخ تنفيذ العقوبة أو العفو عنها أو انقضاؤها بالتقادم.

 

وهكذا يفترض أن يستفيد الشخص من أحكام قانون اصول المحاكمات الجزائية، لكن المركز الوطني لحقوق الإنسان، يقول إن أحدا لا يستفيد.

 

تكلفة الطعن الباهظة

وتقف تكلفة الطعن التي تصل إلى 500 دينار عائقا أمام شطب تلك القيود.

 

تسجل رئيسة وحدة العدالة الجنائية في المركز الوطني لحقوق الإنسان، نسرين زريقات، انتهاكا حقوقيا، “قانون منع الجرائم يخول المحافظ صلاحيات قضائية تتمثل بالقرارات الإدارية، وأي مواطن أراد الطعن لدى محكمة العدل العليا سيتحمل الرسوم المرتفعة التي تصل قيمتها إلى 500 دينار، وهذا يشكل عائقا حقوقيا أمام الطعن”.

 

يوصي تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان، 2009 بحصر صلاحيات التوقيف بالجرائم الخطيرة (الجنايات) تحت إشراف السلطة القضائية بما يتوافق وقانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية، (لا بد وضع حد أعلى للكفالة المالية وعدم المبالغة بقيمة الكفالة المطلوبة لأنها تشكل عبئاً على الموقوفين وذويهم).

 

شكوى خجولة

مدير مكتب ديوان المظالم التابع لمديرية الأمن العام، العقيد ماهر الشيشاني، يكشف لنا عن تعاملهم مع عدة شكاوى تتعلق بمواطنين يشكون رجال أمن عام يستغلون قيودهم الأمنية. غير أنه  يتحفظ عن ذكر الحالات، لكنه كشف لنا عن رجل أمن واحد أحيل إلى محكمة الشرطة وذلك لإضراره بمواطن أواسط العام 2010، مستغلا موقعه، ومخالفا قانون الأمن العام في مادته السابعة والثلاثين بنص “الانضباط” وفي بند “ممارسة السلطة غير قانونية والتي نشأ عنها ضرر لشخص”. العقوبة التي أنزلت برجل الأمن كانت “حسم الراتب لمدة لا تزيد على شهرين”. يسجل الشيشاني، خطوات انتهجها الأمن العام، تمثلت بتشكيل لجنة لحل بعض المشاكل المتعلقة بالقيود الأمنية.

وإلى المحافظ، ينتقد الناشط الطراونة اختصاصه في إصدار العقوبات، فهو يقوم بربط الشخص بكفالة عدلية وهذه عقوبة، إذا خالف شروطها سيدفع بالمقابل وهناك قضايا يتم ارساله للمحافظ ويرسل وقد يتم توقيفه.

 

“القضاء أقدر في اعتماد السجل العدلي للأشخاص، فالقاضي لديه صلاحيات للحكم المتدرج”، يقول الطراونة.

 

وكانت وزارة العدل أعلنت منذ بداية 2010 عن إعدادها سجلا عدليا إلكترونيا مبنيا على أحكام قضائية مبرمة بدلا من الاعتماد على السوابق لدى الجهات الأمنية، من اجل التنفيذ السليم لأحكام القانون، غير أنه لم يطبق فعليا حتى هذه اللحظة.

 

القيد للتوثيق.. “ألا يحتاج الواحد منا أرشيفا له”

يستقبل المركز الأمني الشكوى بحق أي شخص ويحيلها إلى القضاء وبعد صدور الحكم ينقل على جهاز الحاسب في المركز الأمني ومن ثم يتم تعميمه على إدارة المعلومات الجنائية وإدارة التنفيذ القضائي، وهو الإجراء الذي يتم في أي قضية.

 

الشيشاني، يرى أن “الأرشيف” حق للأمن العام لطالما كان سريا ولا يمكن لأحد الاطلاع عليه؛ عدا القضاء والأمن العام.  يوضح لنا أنه يمكن أن يقدم صاحب القيد الجنائي بعد 6 سنوات وصاحب القيد في الجنح 3 سنوات، إلى المحكمة ليرد اعتباره.

 

الأمن العام ينفذ الأحكام القضائية ولا يسجل قيدا على مواطن راجع المحكمة، فالقيود الأمنية تسجل على الأشخاص الذين صدرت بحقهم أحكام قضائية سواء كانت بالبراءة أو عدم المسؤولية أو بالعقوبة، على ما قاله لنا المقدم الخطيب.

 

“الأشخاص المطلوبين بالجلب هم من يسجلون ضمن القيود الأمنية”، يقول الخطيب، مدافعا عن سجل القيود الأمنية. ويقول إن “إدارة المعلومات الجنائية توثق أي جرم، من خلال جهاز سيطرة، بغية علم الشرطي بأن لديه قيد آخر بذات التهمة مثلاً ولا يكون متاحا للآخرين”.

 

مديرية الأمن العام، توثق الجرائم التي يرتكبها الأشخاص، عن طريق القيود الأمنية، هي بعرفه لغايات التوثيق فقط. لكن ذلك لا يجده المحامي عادل الطراونة، بالأمر التوثيقي.

 

التوثيق، لا يمكن المساس به إلا بما نص عليه قانون الأمن العام بالسوابق الجرمية. فلا يوجد في القانون اعتماد مفهوم السجل العدلي الذي يرفق مع الشخص في قضايا الجنائية والإجرام التي يتعرض لها الناس، وفق الرؤية الأمنية.

 

حتى يتم ذلك هناك تعديلات يتم من خلالها اللجوء إلى “السجل العدلي” وترافق الأشخاص المكررين للإجرام والسرقات وارتكاب جرائم تدخل تحت باب ضروب الغش والاحتيال ولا يدخل في باب مفهوم الجرائم التي لها طبيعة تتعلق بالرأي والحرية والمعتقد لأنها لا تعد من قبيل السوابق لأنها جرائم لها صفة سياسية وتتعلق بحرية الرأي وهي مصونة أصلا مهما كانت نتيجة الحكم.

 

تطلب المحكمة من الأشخاص كتاب شهادة “عدم محكومية” وهذه إجراءات المحكمة  حتى إذا كرر الشخص الجرائم تصبح تراكمية ويتخذ الأمن العام إجراءات إدارية بحقه في منطقة سكنه، فيتم فرض إقامة جبرية عليه للحد من نشاطه.

 

ويضيف الخطيب أن ليس كل شخص سجل بحقه قيد معناه أنه مجرم، ما يسجل في إدارة المعلومات هو للتوثيق ليس أكثر، “فقط أشخاص محددين مخولين للتدقيق على الشخص في حال تكرر سلوكه الخاطئ في المجتمع”.

 

قانون منع الجرائم يعطي الأمن صلاحيات كما يعطيها للمحافظ، ويدافع الخطيب عن القانون ساري المفعول منذ العام 1954، ويقول: “لابد من تعديل بعض مواد في قانون العقوبات حتى نغلظ عقوبات معينة تردع الناس عن ارتكاب جرائم ونستطيع أن نحد بعد فترة من استخدام قانون منع الجرائم، لو كان هناك شخص قام بجرم مكرر كثيرا فلا يوجد رادع له ومن هنا تأتي أهمية قانون منع الجرائم، وهذا كله للمصلحة العامة”.

 

“نجلب الأشخاص المشتبه بهم ليس بناءً على تراكم قيودهم إنما على أدلة في كيفية ما قام به أحدهم من سرقة بأسلوب ما، وبناء عليه نبحث عن مشتبه به قام باللصوصية المشابهة للواقعة التي نبحث من خلالها على الفاعل”، وفق الخطيب.

 

وتطالب “هيومان رايتس” الحكومة الأردنية في تقريرها قبل الأخير الصادر عام 2009 عن العام 2008 بضرورة إلغاء كامل لقانون منع الجرائم لسنة 1954 معتبرة أنه انتهاك باسم القانون وفيه صودرت حرية الآلاف من المواطنين.

 

سبق المنظمة الدولية، مطالبة المركز الوطني لحقوق الإنسان في تقريره الخامس عن العام 2008 بإلغاء قانون منع الجرائم لما يشكله من انتهاك لحقوق الإنسان.

 

تعدد القضايا والقيود واحدة

قام معد التحقيق، بتوزيع استبيان على 100 محامي في مقر نقابة المحامين، لقياس تعداد قضايا “القيود الأمنية” التي يتعامل معها المحامي في القضاء. بينت العينة العشوائية، أن نسبة المحامين المتعاملين بقضايا “القيود الأمنية” وصلت إلى 85 %.

 

هذا الاستبيان، حدد للمحامين الفترة التي تعاملوا فيها مع القضايا ما بين (1-1-2010 حتى 1-10-2010 ) وتفاوت أصحاب القيود في جنسهم، ذكر/أنثى، في القضايا، غير أن نسبة الرجال شكلت  90% من العينة التي شملها الاستبيان، فيما تراوحت أعداد القضايا التي تعامل معها المحامي الواحد بين 3-15 قضية.

 

وتنوعت القضايا التي يتعامل معها المحامي؛ بين مخالفات سير ومشاجرات، فرار من وجه العدالة والأخطاء الناتجة عن جهات امنية نتيجة تشابه أسماء، مخالفة أنظمة وقضايا تنفيذية وشرب كحول. أطلع على الاستبيان  

 ووفق نتائج الاستبيان، فقد بلغ عدد قضايا القيود الأمنية 340 قضية، تعامل معها المحامون في العينة. وقد بلغ عدد الذكور من أصحاب القيود الأمنية في العينة (61) ذكرا أما الايناث فقد بلغ عددهن (35) أنثى.

 

وعن الجهات التي لجأ لها المحامون في العينة العشوائية، فقد جاءت على النحو التالي: الأمن العام (39)، وزارة الداخلية (36)، وزارة العدل (19)، فيما لم يجب على العينة (6) محامين. 

 

ليس بالعقاب يصلح الجاني

المحلل النفسي، باسل الحمد، يجد أن “العقاب” لا يدلل في علم النفس على أنه يخفف من السلوك الإجرامي. بل وفي حالة القيود الأمنية فقد تصبح “وصمة” ما يعني تعزيزا لتكرار السلوك، مدفوعا بتحقير الشخص أمام نفسه والمجتمع الذي يستمد صورته من أمامه.

 

الحمد، يجد في إجراء القيد الأمني “امتهان” لكرامة الإنسان؛ فالقيد الأمني هو “تعزيز مبالغ به من قبل الأمن ما يدلل على حاجتهم نحو تدريبات على مفهوم حقوق الإنسان”.

 

“إسقاط القيد الأمني عن الشخص بالضرورة سيخرج صاحبه من عقدة الذنب وشعوره بكونه شخص سيء في مجتمعه، إذ ينبغي مراعاة الأشخاص في مجتمعهم، ببساطة يجب أن يحظى الشخص بالاحترام”، يقول الأخصائي الاجتماعي موسى الشتيوي.

 

يتفق الشتيوي مع الأخصائي حمد، في إشكالية “الأحكام المسبقة” التي يواجهها صاحب القيد الأمني، “الشخص يتحول تلقائيا من شيء إلى لا شيء”.

 

جمعية تأهيل وحيدة

الشتيوي، يرأس المركز الأردني للبحوث الاجتماعية، ينتقد غياب دور الجمعيات الخاصة في تأهيل المفرج عنهم في مراكز الإصلاح والتأهيل وكل من يحمل القيود الأمنية.

 

وبعد بحث مضن، تبين وجود جمعية واحدة لتأهيل المفرج عنهم من مراكز الإصلاح والتأهيل، وهي “جمعية تأهيل نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل”، ويقول أحد المسؤولين فيها، بأن غيابهم الفاعل بسبب “عقبة المال”؛ ما يضطرهم إلى العمل مع “الأمن العام” في تنفيذ برامجهم التأهيلية داخل المراكز فقط وبشروط الأمن.   

 

المطلوب دور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني التي تعنى بحقوق الإنسان، “غير مفهوم أبدا غيابها والذي يؤدي إلى ترك الناس يواجهون مصيرهم بشكل منفرد ويزج بهم بالجريمة مرة ثانية”، يقول الشتيوي.

*هذا التحقيق بدعم من شبكة الصحافة الاستقصائية “أريج” والمركز الدولي للصحفيين

للاستماع للتحقيق والاطلاع على : وثائقيات حقوق الإنسان