العنف المدرسي والمجتمعي أيضا

الرابط المختصر

الحملة التي تستهدف العنف المدرسي جميلة ومهمة، عنف المعلمين ضد التلاميذ سواء البدني أو اللفظي أو النفسي، وعنف الطلاب ضد بعضهم بعضا، والعنف الذي يتعرض له المعلمون أيضا، فلا يجوز بأي حال عند التعامل مع الظاهرة غض الطرف عن الضغوط الكبيرة جدا التي يتعرض لها المعلمون في المدارس، وسيكون لنجاح الحملة أثر مستقبلي في التخفيف من العنف المجتمعي، والواقع أن العنف المدرسي هو جزء من حالة عامة وشاملة، فلدينا عنف مجتمعي هائل وشامل، ومخيف أيضا، ويدعو إلى القلق والرعب، وربما (أنا شخصيا متأكد) يفسر ذلك ظواهر وحالات العنف والتطرف الديني والفكري والأيديولوجي والسلوكي،


سواء في التدين أو في الحياة اليومية والعمل والشارع وقيادة المركبات والعلاقات الاجتماعية والمهنية وفي الأسر والبيوت وأماكن العمل والندوات الفكرية والتلفزيونية، وأظن أن الناس يحبون مشاهدة برنامج "الاتجاه المعاكس" للتسلية والاستمتاع بالعنف كما لو يشاهدون مصارعة الديكة، نحن نعيش حربا شاملة وهائلة في الأفكار والممارسات والأحلام والتصورات والطعام والشراب والسواقة والصلاة والحج والصيام والعمرة.


سيكون منطقيا أن نبدأ بمواجهة العنف المدرسي لأن ذلك ربما يؤسس لحالة سلام اجتماعي شامل في المستقبل على الأقل، ولكن من المناسب ومن الممكن أيضا أن تكون هناك حملات شاملة للسلام الاجتماعي والتسامح ومواجهة العنف، عنف الشرطة ضد المواطنين، وعنف الموظفين ضد المراجعين، وعنف أصحاب المحلات التجارية والباصات ووسائل النقل ضد الزبائن والعملاء، وعنف شركات الاتصالات والكهرباء ضد العملاء القادمين إلى مكاتبها ليدفعوا لها أرباحها، وعنف الآباء ضد الأبناء، وعنف الإخوة الكبار ضد الصغار، وعنف الأبناء والأهل ضد كبار السن، وعنف الرؤساء ضد المرؤوسين، وعنف الزملاء بين بعضهم بعضا، وليس من فراغ مجيء ذلك التقرير المرعب الذي نشر في الصحف مؤخرا عن مليون حالة أزمة نفسية في الأردن.


ربما يكون مناسبا أيضا أن نلتفت لما لدينا من رصيد إيجابي يمكن تعزيزه وتوظيفه في "تنمية التسامح والسلم الاجتماعي" فالتعليم المتقدم وجذور القيم والثقافة الاجتماعية لدينا تشجع على التسامح، بل هي الأصل، وهذا يجعلنا نعتقد أن المشكلة عارضة ويمكن حلها وليست متجذرة في الثقافة والقيم، ولكنها بفعل توالي الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، وتاريخ طويل من الإدارات الاستعلائية والتي كانت قائمة على طبقة من المتعلمين والعسكريين في مواجهة أغلبية كبرى من الفلاحين والبدو غير المتعلمين والمتمردين، وذكريات عميقة عن الأتراك، ولكن في المقابل فإن تراثنا الشعبي والاجتماعي وثقافتنا السائدة في جذورها وبنيتها قائمة على المروءة والتسامح والكرم والتواضع والمعاملة الطيبة ورد الإساءة بالإحسان وخدمة الناس والسعي في حاجاتهم ومصالحهم.


الجديد اليوم في عصر المعرفة أن هذه القيم تمثل رأسمال وموارد يجب تعظيمها وتفعيلها، ففي مصالحنا وعلاقاتنا وأعمالنا اليوم تنظم "الثقة" والتي هي محصلة جميع عناصر الثقافة الإيجابية ومدخلاتها جميع المصالح والأعمال، البنوك والتسهيلات والاستهلاك والأمن والعدل والمعاملات عبر الإنترنت والبطاقات الائتمانية والتعليم عن بعد والتعلم الذاتي والتطوير والعمل من بعيد خارج المكاتب وخارج الدول أيضا التي تقع فيها المؤسسات والاعمال والمقاولات والعطاءات والخدمات، فلنتخيل على سبيل المثال إذا فقد المستهلك الثقة بالغذاء والدواء المتداول، أو فقد الثقة بالمطاعيم والعلاجات التي يتلقاها الأطفال، أو كان غير مطمئن للبنوك أو المعاملات الإدارية والتحويلات المالية عبر الإنترنت، وهكذا فإنه من دون منظومة متقدمة من التسامح والثقة فإن معظم إن لم تكن جميع المصالح والأعمال المؤداة أو الممكن تأديتها سوف تتعطل وتتوقف، وستحتاج المجتمعات والدول إلى تكاليف هائلة ومضاعفة للتعامل على أساس غياب الثقة والتسامح.