"العز لم يكن يوماً للرز "
مشروع دراسة التراث الغذائي في الاردن مؤسسة أهلنا للعمل الاجتماعي والثقافي
البنك الاهلي الاردني
نتابع في هذه الحلقة جانباً من نشاط فريق بحث منطقة الجنوب العامل ضمن مشروع مسح انماط الغذاء في الأردن وفريق الجنوب مكون من أربعة باحثين ميدانيين: حسن النعيمات ونجوى النعيمات ومها السعادنة وزكريا النعيمات, وقد قاموا بجهد كبير لتسجيل وقائع الحياة الزراعية وما يتصل بها من أنماط غذاء في منطقة واسعة نسبياً تشمل معان والبادية الجنوبية والكرك والطفيلة ووادي عربة ووادي رم والعقبة.
جمع الباحثون مادة غزيرة لا يمكن الإحاطة بها هنا, وسنكتفي في هذه الحلقة بتغطية التقارير التي تم جمعها فقط من قرية حمود الواقعة شمال شرق مدينة الكرك, وبالطبع فإن اختيار مواقع البحث في مختلف مناطق الأردن تم بناء على توصيات مختصين, بهدف شمول غنى وتنوع الأنماط والظواهر.
ما يميز قرية حمود هو استمرار وجود القرية القديمة الى جانب البناء الحديث وهو ما يمكّن الباحثين من تتبع مدى دقة المعلومات المقدمة, فضلاً عن أن القرية القديمة توفر مادة جيدة للتوثيق. وليسمح لنا القارئ بالتذكير بأن البحث من الناحية الزمنية يغطي الفترة بين مطلع القرن العشرين وحتى ستيناته.
أحد المضيفين الرئيسيين هو حابس الكعود الهلسة المولود عام 1928 في قرية حمود ولا يزال يقيم فيها, ولحابس منزل في القرية القديمة لا يزال محتفظاً الكثير من عناصره لغاية اليوم, وقد اصطَحَبَنا الى منزله القديم الذي ولد وعاش فيه حتى ستينيات القرن الماضي. وبمجرد الدخول الى المنزل فإن المتبقيات تشهد على ما رواه حابس للباحثين.
يوم من طفولة مضيفنا
عندما طلبنا من محدثنا أن يروي لنا التفاصيل الغذائية ليوم من أيام طفولته الأولى في الثلاثينيات أخبرَنا بأن أهل حْمود وكما هي حال أغلب الفلاحين كانت لديهم وجبة رئيسية واحدة هي العشاء حيث يتوفر فيها الطعام المطبوخ الذي عادة ما كان يتكون من جريش القمح واللبن لكنه يتخذ تسميات مختلفة بحسب طريقة الطبخ وبحسب الاضافات.
ومن الوجبات التي يتذكرها مضيفنا: العيش وهو جريشة القمح تطبخ مع الماء ويضاف اليه السمن واللبن, والشوربة التي تسمى في مواقع أخرى الرشوف, وهي عبارة عن فتة خبز مع القمح والعدس ولبن المريس, وهناك الفطيرة وهي فتة خبز غير خامر فطير مع اللبن والسمن. وتوجد كذلك أكلة الرقاقة وتتكون من قطع عجين جامدة على شكل شرائح طويلة توضع في السدر من اجل أن تجف, ويغلى اللبن أو الحليب حسب الرغبة ويضاف العدس المسلوق مسبقا, ثم تضاف شرائح العجين والملح, ويقدح فوقها السمن.
أما المنسف فهو الوجبة الأشهر, وأكلة المناسبات المختلفة, يشترك في اعداده الرجال الذين يكلفون بطبخ اللحم, فيما تعد النساء الجريش واللبن وخبز الشْراك, والمنسف يقدم لكبار الضيوف, حيث يقسم الضيوف هنا الى صنفين: ضيوف لحم وضيوف فطيرة, وذلك بحسب مقام الضيف ومركزه في عشيرته, فضيف اللحم هو الذي يُذبح له وتُقام له المناسف, أما ضيف الفطيرة فهو الضيف العادي. وتتحدد وضعية الضيف الرجل من خلال وضعه المادي والشخصي وفيما إذا كان يقضي مصالح للناس وبيته مِقْعد لهم اوان يكون ممن يطعمون الناس, وكل عشيرة فيها ضيوف لحم وضيوف فطيرة.
على أنه من اللافت أن الجريش حافظ على أولويته حتى بعد التعرف على الرز, وبحسب محدثنا فإن الناس كانوا يلجأون للرز في سنوات المحل, ولهذا كان الفلاح في سنوات الخصب يغني عند شعوره بالتعب:
لا يا ظهيري لا تخز
ما تذكر ليالي الرز
وهو ما يجعلنا نستنتج أن العز لم يكن يوماً للرز كما أن الجريش هناك لم يشنق نفسه غيرة.
قرية حْمود كانت مكتفية الى درجة كبيرة, فهناك الماء الذي يخزن في آبار رومانية كبيرة, وإذا احتاجوا للمزيد هناك بعض السيول القريبة وخاصة سيل اللجّون.
كان الناس فقراء عموماً الى الأربعينيات لكنهم بعد ذلك وبعد حصول بعض التمايز بينهم, استمروا يتناولون نفس الغذاء, ففي كل بيت هناك فرن لخبز الطابون للطعام اليومي, أما خبز الشْراك فهو للمناسبات حيث يوضع تحت الجريش في المناسف.
أهل حْمود في ذلك الزمن كانوا يعتمدون النمط الفلاحي الرعوي, فهم يزرعون القمح والعدس ويربون الماشية, لكن الأمور في هذا النمط لا تجري ببساطة. إن لكل مرحلة من مراحل العمل الزراعية تسميتها الخاصة, ونشير فيما يلي إلى المراحل الرئيسية فقط من العملية الزراعية من خلال التسميات التي كانت تتخذها:
الكراب وهو الحراثة في شهر نيسان وأيار بهدف إزالة الاعشاب والشجيرات غير المفيدة, والأرض التي تُكرب في هذا الوقت تجهز للموسم المقبل. اما الحراث العفير فيكون ابتداء من منتصف أيلول بعد الانتهاء من بيادر الموسم السابق, ويسمى عفيراً نظراً لجفاف التربة في هذه الفترة, ويسمى الزرع على حراثة العفير بدري, ويطلق على المطر قبل منتصف شهر تشرين أول ثرياوي أو ثروي بينما يسمى المطر بعد ذلك الوسم.
عملية تنظيف الأرض من الأعشاب والشجيرات تسمى الكساح ويقوم بها أفراد العائلة مالكة الأرض والمرابعي الذي يعمل عندها. والحصيد يكون باصطفاف الرجال وتسمى كل جولة وجهاً وعرض الوجه يكون بحسب عدد الحصادين, ويسمى الحصاد الذي يحدد عرض الوجه شاقوق.
تستمر بعد ذلك باقي مراحل العمل الزراعي من رجيد أي نقل المحصول الى البيادر حيث يقوم الدراسون بدراستها بواسطة الدواب وباستخدام ألواح درْس متنوعة, ثم تبدأ عملية الذراية أي فصل الحبوب عن التبن, بوساطة المذراة وتستخدم ادوات للتنقية في مراحل لاحقة مثل الكربال والغربال بالتسلسل لأن للأول فتحات كبيرة وللثاني فتحات أصغر. وأخيراً يتم تخزين الحبوب في الروايا وهي قطع داخلي من المنزل يشبه الغرفة الصغيرة تبنى من الحجر, والى جانبها توجد الكواير وهي أدوات تخزين أصغر مصنوعة من طين خاص يتم جلبه من المطينة وهي منطقة تقع شمال قرية حمود. وتزين الكواير بزخارف منوعة لأنها تعتبر جزءا من مشهد البيت من الداخل.
الحليب ومشتقاته
يبدأ أهل حمود الحلب في فصل الربيع بعد فطم المواليد منذ بداية شهر آذار, بواقع مرتين في اليوم, في الصباح قبل أن تسرح الماشية أي قبل أن تخرج للمراعي, والثانية وقت الغروب عندما تْوَجّه أي تعود من المرعى, وكانت المرأة تحلب في سطل من نحاس أو من حديد أو في الروري وهو إناء من الخشب.
وتُحلب الماعز منفردة, أما الضأن فتحلب عن طريق الرّبَق وهو حبل من صوف تصنعه النساء, ويكون بحيث مكان لرأس الشاة يربطها الرجل فيه, أما البقر تحلبها المرأة بحيث تكون جالسة بجانب البقرة, ثم يفرغ الحليب في السقى أو السعن وتوضع فوق الحليب روبة وتكون من لبن رائب سابقاً الغبيب, والسعن أو السقى تصنع من جلد الماعز, ينظف من الشعر بالسكين أو الشبرية, وثم يغسل بالماء والملح وبعد ذلك يدبغ بدباغ من جذور البلوط التي كانت تُجلب من الطفيلة واربد وعجلون.
يوضع الحليب في السقى, وبعدما يروب يعلق ب¯الركابة وهي من ثلاثة أعمدة خشبية على شكل هرم يُربط ويُثبّت بحبل متين ويجري تعليق السقى في اعلاه, وتقوم المرأة بنفخه واغلاقه بحبل وتقوم بعملية المخيض, ويسمى السقى احيانا المخاضة, حسب كبر حجمه, وإذا كانت كمية الحليب كبيرة, تضع في القرقعة وهي عبارة عن سقى بحجم كبير تتكون من ثلاثة جلود ماعز, وتُنظف من الشعر وتُدبغ وثم تُغزل مع بعضها عن طريق المسلة وهي إبرة كبيرة يستخدم فيها حبل صوف قوي أو حبل مصيص من الخيش, وتنفخ من الأمام وتربط وتتعاون النساء وهي تغني:
يا بنت وجهك يشع النور
عقبه ترى البيت ينعافي
ربي دخيلك ما العثور
زين الحلا والأوصاف
وتستمر عملية المخيض حتى تنضج الزبدة, ثم تخرج من السقى أو القرقعة, وتوضع في المزْبَد المكون من جلد الماعز غير المدبوغ بعد تنظيفه من الشعر وغسله بالماء والملح, ويضاف الى الزبدة العصفر والحلبة من اجل الرائحة الزكية, ثم تُحفر حفرة في الأرض ويبسط في الحفرة نبات الشيح ويوضع المزيد فيها للمحافظة على جودة وجمود الزبدة.
الجميد: بعد الانتهاء من المخيض, تأخذ المرأة اللبن لأهل البيت, والباقي تضعه في قدر النحاسي على النار, حتى يبقى اللبن صافيا في الأسفل ويسمى الجبجب, وفي الأعلى يتجمع السائل الأصفر وهو المصل, ثم يفرغ اللبن في كيس ابيض كبير تصنعه المرأة من قطعة قماش, ثم تربط الكيس بعد وضع الملح عليه لحمايته, وبعد تصفيته من المصل وفي حالة كانت هذه العملية تتم في بيوت الشعر, يجري وضعه فوق الحجارة بجانب بيت الشعر وتسمى الرّصَف, ويغطى بقطعة قماش وذلك لتحميه من الغبار ومن أشعة الشمس المباشرة, وبعد أن يصفى كاملا من المصل ويصبح جامداً, يخرج ويعجن في صحن كبير ويضاف اليه الملح بكميات كبيرة, وبعد ذلك يُزَعْمط أي يعمل على شكل كرات, والقطعة الواحدة تسمى زعموط, وتنشر فوق بيت الشعر مباشرة ثم تخزن مدة ستة أيام في أكياس, وأخيرا توضع في كواير اللبن من دون كيس في بيت الحجر.
أما إذا كانت العملية تتم أصلاً في بيت الحجر, فإن اللبن يجفف ويزعمط لكنه ينشر في غربال أو طبق مصنوع من قَصَل القمح, أي سيقان القمح الجافة, ثم يخزن اللبن بالكوارة. والكوارة عبارة عن مكان لتخزين الحبوب واللبن داخل بيت الحجر, مصنوعة من الطين والتبن يعجن ويعمل لها قاعدة ترفعها عن الأرض, ولها قطعة حديد تغطي الفتحة العلوية.
السمن: بعد تجميع كميات كبيرة من الزبدة, تخرج وتوضع في القدر على النار, ويحرك ب¯المثوار وهو أداة تحريك تتكون من الخشب الناعم, ويستمر التحريك حتى الرغوة المتبقية من اللبن, وتبقى الزبدة الصافية في الأسفل بعد أن تُخطف الرغوة التي إن بقيت فإنها تسبب حموضة السمن فيما بعد. بعد ذلك توضع الحْواجة على الزبدة, وتتكون الحواجة من الكركم والحلبة ونبات الحندقوق الذي يعطي السمن لوناً اخضر, ثم تضاف الجريشة وتحرك حتى تنضج الجريشة وبهذا يتم نضوج السمن. وتسمى الحواجة مع الجريشة قشدة. وبعد أن يبرد السمن يصفى ويوضع في المرو في حالة كمية السمن القليلة وفي المدهنة في حالة السمن الكثير وكلاهما مصنوع من جلد الماعز.
التعاون
عرف أهل حمود مستوى من التعاون في العملية الانتاجية, فقد مارسوا نظام العدولة حيث يعطي مالك الأعداد الكبيرة من الماشية عدداً يتراوح بين 70-100 رأس لشخص آخر يقوم برعايتها وله حق الاستفادة من لبنها ومن مواليدها الذكور, على أن تكون المواليد الاناث من حق المالك الأصلي, ويمكن ان يطول أمد العدولة مع نفس الشخص حتى عشر سنوات. كما عرفوا المنايح حيث يعطى المحتاج 3 الى 5 من الضأن أو الماعز وتسمة منوحة وله أن يستقيد من الحلبيب ومشتقاته على أن تعاد الماشية الى صاحبها مع نهاية الموسم.0











































