تستمر الصيدلانية لجين بحجر نفسها في غرفتها بمجرد عودتها للمنزل، تجنباً لاختلاطها بأي فرد من أفراد أسرتها وخاصة الكبار منهم، إذ تفتقر للحياة الاجتماعيّة والعائليّة بسبب طبيعة عملها التي تتطلب منها التعامل مع عشرات الأشخاص في الساعة الواحدة داخل الصيدلية التي تعمل بها في ظل مخاوف من العدوى بفيروس كورونا، ونقص بأدوات الوقاية التي يُزود بها الصيادلة، قائلة: “هناك العديد من الضغوط، نتعامل في الساعة الواحدة مع 50 شخصًا، هناك صعوبة، والمرض ينتشر بسهولة، بالإضافة لتجاهل أصحاب العمل تزويدنا بأدوات الوقايّة”.
وتبدأ لجين عملها عند السابعة والنصف صباحًا يوميًا، وتستمر 8 ساعاتٍ متواصلة دون أي أدواتٍ للوقايَّة، باستثناءِ شريطٍ أحمر اللون يفصل بينها وبين المراجعين مسافة مترٍ واحد، ولجوئها لتعقيم أيديها باستمرار، ومحاولة منعها من الاختلاط ببعضهم.
تقول إن أعداد الناس ظلت بازدياد طوال فترة الأزمة، ما دفع بها وبزملاءِها للقلق من إصابتهم بالعدوى، فالعمل في هذا المجال يلزمها بالتعامل مع العامة دون معرفة المريض من غيره، ولم تجدِ محاولاتها المتكررة إرشاد المراجعين لطرق التعامل والوقايّة من الفيروس، إذ كانوا يسيؤون لها لفظيًّا، لكنها اعتادت بعد ذلك على ردود أفعالهم التي قد يتعرض لها كل الصيادلة، كما تقول.
وكما رصد التقرير، فإن الكوادر الطبيّة طوال الفترة الماضيّة ظلّت حاضرة، سواء بعد ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد “كوفيد -19” بداية آذار الحالي، وما تبع ذلك من تسجيل إصابات وتشديد الإجراءات الاحترازية وصولاً لحظر التجول في المملكة، إذ شكلت نقابة الصيادلة خلية أزمة لضمان توفير المستلزمات الدوائية، لذلك كان العاملون بمهنة الصيدلة بمثابة خط المواجهة الأول مع الفيروس، يختلطون مع أعداد كبيرةٍ من الناس، مكررين نفس نصائح الوقاية، ويبيعونهم الكمامات لحمايّة أنفسهم، في حين يفتقرون هم لامتلاكها، ويعملون لساعات طويلة بغية تطمين المواطنين.
ويستعرض هذا التقرير قصص عددٍ منهم خلال الأزمة الحاليّة، كيف عايشوها، وما تأثيرها على حياتهم، وكيف يحمون أنفسهم من خطر العدوى.
العمل تحت ضغط نفسيّ
“عملنا 7 أشخاص في نفس الفترة طوال 16 ساعةً متواصلة، وعانينا من الضغط”، هكذا يصف الصيدلاني سمير طبيعة عملهم في اليوم الذي سبق قرار حظر التجول لحصر انتشار فيروس كورونا، مستذكراً أن الحالة ذاتها واجهها بعد انتشار خبر الإعلان عن أول إصابة بالفيروس، إذ أخذ على عاتقه توعية الناس وإقناعهم بضرورة أخذ الحيطة والحذر بجديّة لوقايَّة أنفسهم، غير أن استهتارهم بذلك، دفعه للقول أنهم يسيرون بأقدامهم نحو الهاويّة، وهذا ضاعف من حجم الضغط النفسي الواقع عليه.
ويشير سمير إلى استهتار الناس بتعليمات الوقاية الذي ظهر في حديث أحد زبائن الصيدليّة الواقعةِ في مدينة الزرقاء، بأن ما يحدث الآن محض لعبةٍ سياسيَّةٍ وتجاريَّةٍ يبغي الصيادلة من خلالها كسب المزيد من المال ببيعهم للمواد المعقمة، ما جعله يرفض شراءها لأطفاله، لكن الحال تغير عقب الإعلان عن أول إصابة، وازداد عدد الذين يتعاملون مع الأمر بجدية أكبر وخاصة مع ظهور الإصابة الأولى، فتهافت الناس لشراء الكمامات والمعقمات والقفازات، كما يقول الصيدلانيّ الذي يبدي استغرابه من زيارة الناس للصيدليّة لشراء مستحضراتٍ مثل كريمات تجاعيد البشرة، وواقيات الشمس، وبعض الأقراص المنشطة الخاصة بالعلاقات الزوجيّة، رغم أنها غير ضرورية أو مستعجلةٍ في الوقت الحالي ولا تستدعي خروجهم وخرق الحجر المنزلي لأجلها.
سمير الذي لم يأخذ إجازةً طوال 8 أيام متواصلة، يؤمن بأن من واجبه المداومة على أداء وظيفته في مثل هذه الأوقات قائلاً: “لم يتم إجبارنا على العمل، ولا يمكننا النوم، الضغط النفسي يؤرقنا، يتملكنا الخوف على أهلنا، رغم أن أسرتي تفهمت عملي، ويطلبون مني الحفاظ على نفسي بشكل مستمر رغم وجود مواد الحماية من قفازات وكمامات ومستحضرات التعقيم من حولي”، مشيراً إلى أن شعوره بالإرهاق كان يدفعه لأخذ استراحةٍ لا تتجاوز عشرة دقائِق، ليعود بعدها للتعامل مع المرضى، ومرتادي الصيدلية.
“لسنا باعة كمامات”
تبدي الصيدلانية ملاك استياءها من وصف الناس لهم ببائعي الكمامات، وتناسيهم للدور الذي يقوم به الصيادلة، معبرة عن ذلك بقولها “نسوا أنهم يأتون لاستشارتنا بدل الأطباء”.
وبسبب نقص الكمامات في الصيدليات تمارس ملاك عملها دون أن تضع كمامةً لحمايَّةِ نفسها، حالها كحال غالبية الصيادلة الذين لا يجدون طرق وقايَّةٍ فعالةٍ لحماية أنفسهم أثناء تعاملهم المباشر مع المرضى والناس، في ظل استهتار البعض للالتزام بالأساسيات كالحفاظ على مسافة كافية بينه وبين الصيدلاني، وبينه وبين شخص آخر متواجد في نفس المكان، بالإضافة إلى احتمالية نقل العدوى عن طريق النقود التي يستلمونها من الناس، ما دفعها لوصف عملها أنه بيئة خصبة لاستقطاب المرض، مشيرة إلى أنها تلجأ لاستعمال الكحول بكثرة وقايَةً للنفسها، بقولها “استخدمت لترًا ونصف من الكحول خلال يومين”.
وينطبق الحال ذاته على لجين التي فضلت بيع الكمامة الوحيدة التي احتفظت بها لاستخدامها خلال عملها لإحدى مريضات غسيل الكِلى، كونها بحاجة ماسّة لها، بينما تمارس هي عملها بلا كمامة”.
ولا تنحصر مشاكل الصيادلة بضعف آليات الوقاية، فالعديد من المرضى يحملونهم ذنب عدم توفر الكمامات، وتشير ملاك إن العديد من سكان عمان، حيث تعمل، يستمرون بالتذمر من عدم توفر أدوات الوقايَّة ويوبخون العاملين في الصيدلية إن لم يجدوها.
ذات الأمر عانى منه الصيدلاني خالد الذي كان يطلب من مرتادي الصيدلية تفتيشها، للتأكد من عدم وجود كمامات أو معقمات، واتهامهم له بأنه يخفيها، معتبراً أن عملهم يتطلب منهم أن يكونوا بمواجهةٍ مباشرةٍ مع الفيروس، فالمراجعون يتعاملون معهم وجهًا لوجه من مسافات قريبة، والكمامات التي تم تأمينها للصيادلة منذ بداية الأزمة نفدت حين زاد الطلب عليها، علماً أنه يجب استبدالها بشكلٍ متكرر، ما يزيد حاجة الناس لشرائها، لافتاً إلى أنه حاول البحث مرارًا وتكرارًا عن كمامة ليستخدمها خلال عمله بصيدليته في إربد، دون جدوى، خاصةً بعد انتشار المرض بشكلٍ أوسع، ولم يكن أمامه سوى أن يستمر بتعقيم كمامته الوحيدة، التي يستخدمها منذ مطلع الشهر الحالي.
وتتخوف أسرة خالد من احتمالية التقاطه للعدوى ونقلها لهم، وخاصة أنه تعامل مع عددٍ من المراجعين الذين بدت عليهم أعراض الإصابة بفيروس كورونا، لكنهم كانوا يرفضون نصيحته بالاتصال بوزارة الصحة أو الدفاع المدني، وكانوا يغادرون الصيدليّة فور إعلامهم بالأمر، بحجة زيارة المشفى بأنفسهم.
في مواجهة الخطر
يؤكد نقيب صيادلة الأردن زيد الكيلاني أن طبيعة عمل الصيادلة تعرضهم وعائلاتهم لخطر التقاط الفيروس من خلال تعاملهم الواسع مع المرضى، ما دفعه لتوجيههم لأخذ الحيطة والحذر.
وحاولت النقابة تأمينهم بكماماتٍ كافيَّةٍ لهم من خلال إنتاجها في مصنعٍ محلي، لكن إعلان حظر التجوال حال دون الحصول على تصاريح خاصةٍ بِذَلك.
وتؤمن وزارة الصحة حاجة طواقمها من الكمامات، بينما يزاول 15 ألف صيدليٍّ المهنة، تشكل الإناث النسبة الأكبر منهم، أي نحو 60-65% من عددهم الكليّ، دون تأمين مواد الوقاية لهم، بحسب النقيب، في الوقت الذي يستمر فيه الصيادلة بالتطّلع لحلٍّ للأزمة في ظل تسخير أنفسهم لخدمة الناس، عبر إيصال الأدويَّةٍ لمنازلهم، ونشر أرقام هواتفهم الخاصة، للتواصل معهم وأخذ استشاراتهم فيما يتعلق بالأدويَّةِ والإرشادات، إيمانًا منهم برسالتهم وواجبهم لمساعدة الوطن للخروج من هذه المحنة، كما يصف سمير الحال.
*بدعم من منظمة صحافيون من أجل حقوق الإنسان JHR