الصحافة والبابا والإسلام: وصاية على عقل القارئ

الرابط المختصر

في الثاني عشر من شهر أيلول الماضي ألقى بابا الفاتيكان بندكيت السادس عشرة محاضرة فلسفية في جامعة ألمانية تناولت علاقة "العقل بالإيمان"، وفي نص محاضرته اقتبس البابا مقطعا يتناول رؤية الإسلام للجهاد. وفي الرابع عشر، أي بعد تأخر يومان على المحاضرة، نقل موقع "الجزيرة نت" خبرا مجزوءا عن المحاضرة ورد فعل رجل دين باكستاني على ما ورد فيها. وفي اليوم التالي تنبه العاملون في قناة "الجزيرة" الفضائية لخبر الموقع فكان أن أفردت القناة مساحة واسعة من بثها الإخباري يوم السادس عشر لمحاضرة البابا، وبدأت حملة "استدراج" ردود الفعل.
وفي اليوم السابع عشر استيقظت الصحف المحلية على تصريحات البابا واندفعت في تغطية أخبار المحاضرة وردود الفعل عليها بطريقة أشبه ما تكون إلى الـ"حملة الدعائية التعبوية"، منها الى دورها كوسيلة اعلام مهنية مهمتها الاساسية نقل المعلومة بدقة وموضوعية وترك الحكم وتكوين الرأي للقارئ اولا واخيرا.
إن تأخر الصحف المحلية في نقل خبر محاضرة البابا لأكثر من ثلاثة ايام يعني اولا: ان الخبر فقد راهنيته وبالتالي قيمته الخبرية، وبالتالي ثانيا: اتضاح القصدية والانجرار وراء وسائل اعلامية اخرى ذات توجهات إيديولوجية معروفة، او محاولة لاسترضاء وتلبية غرائز الجمهور المعبأ اصلا من خلال الواقع المر واحداث سابقة مماثلة، على نظرية التأمر على العرب والمسلمين، وثالثا: في احسن الاحوال عدم تقدير المحررين لاهمية الخبر وتوابعه، هذا بافتراض ان يكون له توابع فيما لو نقلته وسائل الاعلام العربية او بعضها على الاقل بحرفية تخلو من الاثارة والتحريض.
لا يكفي ان الصحف المحلية لحقت "الزفة"، بل واندفعت فيها فبدت وكأنها تخوض حملة ضد البابا. فكان ان قامت كل صحيفة من الصحف اليومية الاربع (الرأي، الدستور، العرب اليوم والغد) بتغطية المحاضرة وردود الفعل عليها بما لا يقل عن ستين خبرا خلال اقل من نصف شهر، وما زالت على حالها حتى اليوم ليتجاوز مجموع الاخبار اكثر من مائة وخبرين عند صحيفة "الغد" مثلا.
واذا كان الكم الخبري لا يفسر بالنسبة للبعض مفهوم الحملة فإن التغطية النوعية المنتقاة تؤكد على هذا، فالصحف المحلية لم تغفل أي رد فعل مناوئ للبابا الا وذكرته، وقد عمدت في اغلب الاحيان لوضعه كخبر منفصل حتى لو كان خبرا ليس ذو شأن مطلقا مثل خبر المغني يوسف اسلام ينتقد تصريحات البابا (الغد 27/9) او اسقف سيدني يؤيد تصريحات البابا، وغيرها الكثير من الامثلة التي يمكن ان تدلل على قصدية انتقاء الاخبار، لا على مدى اهميتها كخبر نافع او يهم الجمهور. وهي بذلك اعطت ردود الفعل بما فيها ردود الفعل التحريضية مثل ما ورد على لسان الشيخ يوسف القرضاوي (18/9) مساحة اكبر بكثير، سواء لتوضيحات البابا والكنيسة او حتى الرأي المختلف او المعتدل الذي لم يرد ذكره إطلاقا في الصحف المحلية.
ما لم تستطع تغطيته الصحافة المحلية خبرا منقولا عن الوكالات وشتى المصادر، فقد نقلته عبارة عن تقارير ومقالات عن الصحف العربية والعالمية، متعمدة تغليب الرأي المعارض او المحرض ضد البابا متغافلة تماما عن الرأي المتفق او المعتدل او حتى من دعا الى الحوار العقلاني. فقد عمدت الصحف المحلية الى نقل تقارير ومقالات عن صحف اجنبية تصب الزيت على النار من مثل مقال مجلة "الايكونمست" البريطانية المحافظة الذي اعادت نشره "الغد" (3/10) بعنوان "الاقتباس الذي أسيء تقديره عن الاسلام يخفي في طياته رسالة أكثر جدية"، او المقال الذي نشرته بتاريخ (20/9) للمفكر الاسلامي محمد جابر الانصاري عن صحيفة "الحياة" بعنوان "لمصلحة من يحيي البابا ثقافة الصراع بين المسلمين والفاتيكان؟"، او المقال الذي نقلته "الرأي" (19/9) عن صحيفة "الخليج" لكاتبه سعيد محيو بعنوان "من أوربان الثاني إلى بينيديكت الـ 16"، ومقالات عبد الوهاب بدرخان (20/9) في "الرأي"، او مقال عبد الاله بلقزيز (25/9) في "الرأي"، او مقال عبدالرحمن الراشد "غلطة البابا بألف" (الرأي 19/9) أيضا، وغيرها من المقالات.
هل تستحق محاضرة البابا كل هذا الكم من الأخبار والتقارير والمقالات المنقولة. من يحدد أهمية الخبر ومدى حاجة القارئ له؟ ام ان الصحف باتت تعمل وفقا لنظرية "الجمهور عايز كده". وبالمناسبة فإن تصريحات البابا تزامنت مع بدء شهر رمضان الذي تتسابق الصحف على استغلاله لترويج نفسها من خلال تخصيص ملاحق عن الطبخ والفتاوى والعبادات وملاحق أين تسهر في خيم رمضان وملاحق تراث المسحراتي وغيرها، واخر الصرعات الدعائية ما قامت به صحيفة "الغد" من توزيع لنسخ القرآن على اسطوانات مدمجة بصوت الشيخ السديس.
ان ما فعلته الصحف المحلية بالقارئ اضافة الى تحريضه والتلاعب بعواطفه، هي انها نصّبت نفسها وصيا على عقله، فهي اذ لم تكتف بتوجيه الاخبار من خلال الكم الكبير والعملية الانتقائية واستخدام اساليب التحرير في ابراز الخبر وطمسه. فان الصحف لم تنشر نص محاضرة البابا لتترك للقارئ حرية الحكم على ما ورد فيها رغم ان المحاضرة متوفرة على شبكة الانترنت بترجمتها العربية.
على ان الصحف لم تنقل الاخبار بحيادية فقد كانت صياغة الخبر موجهة دائما، فمنذ البدء اطلقت على كلمات البابا صفة "الإساءة" للإسلام. ففي كل خبر كانت ترد كلمة "التصريحات المسيئة للاسلام"، المحاضرة المسيئة للاسلام"، مع ان التغطية الموضوعية تتطلب نقل الخبر كما هو دون إطلاق الأوصاف.
التعليقات
لم تكن التغطية الاعلامية المضخمة والمتأخرة والمجتزأة لمحاضرة البابا كل ما قدمته الصحف المحلية في هذا الشأن، فالامر مع التعليقات يبدو اكثر تعقيدا ان لم نقل توصيفات اخرى.
منذ ان تنبهت الصحف المحلية لمحاضرة البابا لم تنقطع وحتى الان تعليقات كتابها على الامر. وبالامكان القول ان اغلب من كتب عن محاضرة البابا لم يقم بالاطلاع عليها فقد تعمد الكتاب التعليق على المحاضرة بناء على الاخبار الواردة في الصحف. وبالامكان القول ان احدا لم يكتب في ما ورد في المحاضرة نفسها.
في صحيفة "الدستور" وهي كانت اكثر الصحف المحلية تعليقا على المحاضرة حيث ورد فيها نحو 41 مقالا منذ 17/9 وحتى 8/10، انصبت اغلب التعليقات على انتقاد البابا نفسه اكثر مما كانت تهدف الى محاورة ما جاء في المحاضرة. ومن عناوين المقالات: "في خطاب البابا.. صفعة لجهود حوار الأديان والحضارات" * باتر محمد علي وردم. "بابا صاحب سوابق" * حلمي الاسمر. "البابا.. بين الجهل والإساءة" * د. كمال رشيد. "بنديكتس وباليولوغوس.. تاريخهما يشهد عليهما" * مازن حماد. "بابا الفاتيكان على خطى بوش ومحافظيه الجدد" * عريب الرنتاوي.
اما ما شذ عن القاعدة في الهجوم على البابا وشخصنة الموضوع بدون توخي الموضوعية في محاورة الاخر المختلف فقد كان مقال الاب حنا الكلداني بعنوان "قراءة واقعية في خطاب قداسة البابا في جامعة ريجنسبورغ الالمانية" ومقال كامل الشريف بعنوان "مناقشة هادئة لمحاضرة البابا بنديكت السادس عشر". ومقال باتر علي وردم بعنوان "محاضرة البابا والفلسفة العقلانية الاسلامية" ولكن باتر عاد في مقال اخر الى الانسياق وراء الهجوم على شخص البابا دون محاورته فقد كتب مقالا آخر بعنوان "خطاب البابا صفعة لجهود حوار الاديان والحضارات".
على ان الصحف الاخرى لم تكن افضل حالا من "الدستور" وكتابها، ففي "الرأي" كتبت عشرات المقالات كما نقلت الصحيفة عددا كبيرا من المقالات عن صحف عربية وعالمية تتناول محاضرة البابا واغلبها كانت في نقده والتعريض به. وفي "الغد" كتب نحو خمس عشرة مقالة انتقد فيها كتابها محاضرة البابا.
على أي حال، فقد كانت تغطية محاضرة البابا في شقيها الاخباري والتعليقات اقرب ما تكون الى حملة دعائية خلت تقريبا من الموضوعية، وهو امر ينطبق ايضا على الاخبار التي باتت شبه يومية عما تصفه الصحافة "بالإساءة للإسلام" الى درجة دفعت بكاتب عربي في صحيفة عربية الى حد القول اننا بتنا نضيق بالرأي والرأي الآخر فكل تصريح او كل حركة تبدر من أي انسان مخالف للاسلام مهما كانت صفته تحتل مساحة ربما تكون اكبر بكثير من حجمها الطبيعي واحيانا تكون على حساب الاخبار المهمة فعلا والمفيدة للقارئ. في الامس احالت الحكومة قضية فساد بملايين الدنانير الى مجلس النواب فهل ستهتم الصحافة بهذا الخبر اهتمامها بقيام مراهق بتصوير فيلم سخيف عن المسلمين، بما نعرفه من متابعتنا للصحف المحلية نستطيع القول لا، لن تفعل؟.

أضف تعليقك