الصحافة ما بعد تفجيرات عمان: تغطية مكثفة وجدل داخلي

الرابط المختصر

إذا كان الاعلام المعاصر يدفع بحدث ما الى واجهة الاهتمام لعدة ايام ليتبعه حدث آخر يقضي عليه، فإن الامر مع تغطية "غزوة عمان" الدامية بقي عند الصحافة المحلية، اليومية والاسبوعية، وعلى مدار الايام العشر الأخيرة محل تركيز شديد لم يدانيه حدث آخر تمثل...في التغييرات الكبيرة التي أجراها الملك او المتوقع ان يدخلها على هياكل الدولة.

التغطية الخبرية

من نافلة القول ان تفجيرات عمان احتلت على مدار الايام العشر الاخيرة الاولية الاولى في التغطية فالحدث كان محليا وكبيرا بكل المقياس، وقد احتل على مدار الايام العناوين البارزة للصحف ومنشيتاتها الاولى باستثناء يوم (17/11) حيث برزت التغييرات التي أجراها الملك على الديوان ومجلس الاعيان عناوين بعض الصحف مثل "الانباط" و"العرب اليوم". ولكنه عاد ليحتل المنشيتات يوم السبت (19/11) بعد تظاهرة عمان التي شارك بها اكثر من 250 ألف مواطن استنكارا للحادث.

وكان الحدث في ايامه الاولى قد طغى على كل الصفحة الاولى لجميع الصحف لا يشاركه بها أي تطور اخر.

وكان اللافت في عناوين الصحف الرئيسية ابتعادها عن الاثارة او الانجرار الى لغة الارهابيين من مثل "تفجيرات تهز عمان" او غيرها بل ركزت العناوين على ردود فعل الشارع الاردني وعلى تصريحات الملك.

وقد خرجت صحيفة "الانباط" وحدها عن الالتزام بعادة اليوميات المحلية في الاختيار "الرصين" للعنوان الرئيس وحاولت كعادتها ادخال الاثارة تأثرا بأساليب عمل الصحف الاسبوعية فجاءت عنوانيها من نمط "هل كان الموساد يعلم بتفجيرات عمان؟" (15/11)، او "القبض على المرأة المجهولة" ( 14/11).

بثت الصحف اليومية الكبرى "الرأي، الدستور الغد" حوالي 300 مادة اعلامية خبرية لكل منها تراوحت بين الخبر المحض والتقرير والتحقيق او استطلاع الرأي، فيما كانت صحف مثل "العرب اليوم" اقل قليلا بحكم عدد صفحاتها فيما كانت الانباط والديار اقل الصحف في كمية البث الاخباري.

طغت الاحداث على كل المادة الصحفية ولم يقتصر على الصفحات المخصصة للسياسة او المحليات فكان خلال الايام الثلاث الاولى عنوانا بارزا في كل الصفحات الاخرى والملاحق الاقتصادية والثقافية والرياضية.

رغم ان اغلب الصحف اليومية التزمت، سواء باتفاق او بدونه، بعدم بث اخبار تحمل طابع الاثارة او تحاول التشكيك بالاقوال الرسمية مثل خبر صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية (10/11) عن اجلاء سياح إسرائيليين، باستثناء "الانباط"، او تصريحات الملك لصحيفة فايننشال تايمز" (17/11) او كامل بيانات تنظيم القاعدة، يمكن القول ان كمية المادة الخبرية ونوعيتها اعطت القارئ صورة كاملة عن الحدث الدامي بحيث لم يتم التكتم على أي تطور، ولا يعود الفضل هنا للصحف وحدها بل للحكومة اساسا ووكالات الانباء التي لم تترك جانبا الا وطرقته.

تشابهت التغطية الخبرية الى حد كبير بين الصحف ولم تحقق أي صحيفة سبقا صحفيا مهما يكسر حدة رتابة التغطية، اما حديث صحيفة "الانباط" بانها حققت سبوقات صحفية خاصة فيما يتعلق بقضية "المرأة المجهولة" او الارهابية ساجدة الريشاوي فلم يكن في الامر أي سبق صحفي فهي لم تفعل اكثر من انها ابرزت بيان "القاعدة" الذي يتحدث عن اربعة مفجرين واعطت للبيان وزنا اكبر ما اعطته الصحف الاخرى التي فضلت التزام الرواية الرسمية التي بقيت خلال الايام الثلاث الاولى تنفي او لا تؤكد العثور على جثة امرأة مجهولة بين الانقاض.

من الممكن تخصيص فقرة بسيطة عن صحيفة "الانباط" فهذه الصحيفة ألقت حجرا في بركة اليوميات الهادئة الرصينة، واذا كانت حاولت خلال هذه الاحداث اتخاذ الجانب الاخر وعدم التقييد بالرواية الرسمية فهي ايضا حاولت إدخال أساليب الصحافة الاسبوعية في عمل اليوميات وذهبت بعيدا في اثارة الغرائز وتقديم تغطية اعلامية مستندة اساسا على ميل الجمهور في تصديق الإشاعات البسيطة على الحقائق المعقدة، وهي اذا اخذت من اخبار من نوع خبر "هآرتس" حول اجلاء الاسرائيليين، وهو خبر كذبته الصحيفة نفسها، او خبر كانت بثته وكالات الانباء (14/11) عن ان الجيش الاميركي كان القى القبض العام الماضي على عراقي يحمل اسم احد مفجري عمان واخلى سبيله فان "الانباط" حورت هذه الاخبار في تقاريرها خدمة لهدفها في اثارة المتلقي اكثر من تحري الدقة فهي تعاملت مع هذه الاخبار بانتقائية شديدة وخلطتها برأي المحرر بما يوجه المتلقي الى الوجهة التي ترغبها الصحيفة، وهي تحميل جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "موساد" مسؤولية العميلة وحرف النظر عن تنظيم "القاعدة" وتاليا التشكيك بالرواية الرسمية، باختصار فان الانباط لم تتعامل مع هذه الاخبار بمهنية ومصداقية. فاذا كان من حق الصحفي عدم التسليم بالرواية الرسمية ومساءلة الحكومة فليس من حقه التعامل الانتقائي مع الأخبار وخلطه بالرأي، اضافة الى ان الصحيفة لم تقم بأي جهد استقصائي يدعم وجهة نظرها بل استندت الى اخبار مشكوك بصحتها اصلا دون ان تقوم هي نفسها بإجراء تحقيقات تدعم وجهة نظرها.

جدل داخلي

أثارت الصحيفة بطريقتها هذه حفيظة جريدة "الرأي" التي خرجت على عادة الصحف اليومية في عدم التعليق على بعضها البعض. وخصصت "الرأي" افتتاحيتها يوم (16/11) لمهاجمة "الانباط" فكتبت تحت عنوان "لا .. للخوارج والغربان وخفافيش الليل" تتهم الانباط بالخروج عن الاجماع الوطني والكذب، كما كتب في "الرأي" في نفس اليوم كل من عبد الهادي راجي المجالي "الانباط وضميرها الغائب" وسامي الزبيدي "الصحافة الرثة" وقد وصل الامر بهؤلاء الكتاب حد "تخوين" او الطعن بـ"التوجهات الوطنية" للصحيفة والتحريض عليها، واذا كانت "الانباط" أخطأت في التعامل بمهنية مع الحدث فهذا بالطبع لا يبرر اللغة التي تعامل بها كتاب "الرأي" التي خرجت عن حد النقاش الى حد "التهديد". وهذه جديدة في الصحافة اليومية.

بقي ان نقول هنا ان الاقبال على الصحف اليومية خلال الايام الاولى زاد عن المتوقع وقد نفذت كل الصحف من منافذ البيع، وهذا امر مفهوم في حدث كهذا يجعل المواطن متعطشا لكل خبر، فهل تستطيع الصحافة اليومية كما التلفزيون الحفاظ على هذه "الجماهيرية" في الايام العادية، فهذا هو التحدي.

المقالات

من البسيط القول ايضا ان الحدث استحوذ على اهتمام كتاب الصحف اليومية، وهو كان كذلك، ولكن اللافت ان بعض الكتاب وابرزهم الكاتب موفق محادين في "العرب اليوم" وهو معني بالشؤون المحلية امتنع تماما عن الإدلاء برأيه في الحدث فيما اختار بعضهم عدم التركيز عليه والاكتفاء بمقال واحد وجداني دون ان يحمل أي موقف او تحليل.

في التعليقات كانت "الرأي" الاكثر من الناحية الكمية، فقد كتب فيها على مدار الايام العشر حوالي 200 مقال ولم يبق كاتبا فيها لم يعلق على الحدث، وقد غلب على تعليقات كتاب الصحيفة الاشادة بأداء اجهزة الدولة والدفاع عن الاجهزة الامنية امام بعض الشكوك، وقدرة الاقتصاد على امتصاص الحدث، وفيما فضل الكثير من الكتاب التعامل بطريقة وجدانية عاطفية مع الحدث كان اخرون مثل "رحيل الغرايبة و حسني عايش وزيد حمزة وصلاح جرار وغيرهم" مناقشة ظاهرة الارهاب وثقافة العنف".

خصص بعض كتاب الرأي بضعة مقالات للدفاع عن اداء التلفزيون خلال الاحداث الاخيرة ورفض أي نقد لهذا الاداء وقد جاءت هذه المقالات بمثابة رد على كتاب اخرين مثل زياد ابو غنيمة الذي كتب في الانباط (14/11) منتقدا انتقائية التلفزيون في التعامل مع ردود الفعل او مقال اخر لرلى الفرا (12/11) مقالا بعنوان "التلفزيون غايب فيلة"، انتقد فيه غياب التلفزيون عن الحدث في ساعاته الاولى. وقد كتب مدافعا عن اداء التلفزيون ايضا طاهر العدوان في "العرب اليوم" وسميح المعايطة في "الغد" واجمالا فان كل من دافع عن التلفزيون حمل الامكانات المادية مسؤولية بعض الخلل في الاداء وهذا امر يستحق التدقيق.

خرج الكاتب فخري قعوار في "الرأي" (16/11) عن سياق التعليقات في الصحيفة وكتب في مقال بعنوان "اجتهاد" محاولا الايحاء بمسؤولية الموساد الاسرائيلي والولايات المتحدة عن التفجيرات وهو الامر الذي رفضته "الرأي" عندما تناولته الانباط.

غابت عن تعليقات كتاب الرأي بشكل عام الاجتهادات والنقاشات حول التفريق بين الارهاب والمقاومة وهو امر ركز عليه كثيرا كتاب "العرب اليوم" خاصة ناهض حتر واحمد ابو خليل وفهد الخيطان، وبدا ان بعض كتاب "الرأي" مثل صالح القلاب يرفض تماما حتى مجرد نقاش اسباب وخلفيات الارهاب والتركيز عليه كفعل جرمي لا يستحق اكثر من الادانة والملاحقة الامنية.

في صحيفة "الغد" كتب نحو 30 مقالا في صفحة "آراء ومواقف" وركزت تعليقات الكتاب خاصة محمد ابو رمان وإبراهيم غرايبة على محاولة البحث في جذور العنف والإرهاب وكيفية مكافحة هذه الثقافة.

اما صحيفة "الدستور" فقد تناول جميع كتابها الحدث وتراوحت تعليقات هؤلاء، فمن ياسر زعاترة الذي رفض "الارهاب" محاولا التفريق بينه وبين "المقاومة" الى عريب الرنتاوي الذي كان في تعليقاته قريبا من وجهة نظر القلاب في رفض الفعل بالمطلق والدعوة الى محاربة ثقافة العنف دون الخوض في تحليله.

في صحيفة "الدستور" اختار باتر علي وردم (15/11) التعليق على تغطية قناة "الجزيرة" وصحيفة "القدس العربي" للاحداث بوصفها مثالا للتغطية "الحاقدة على الاردن"، وهذا رأي يحتاج الى تدقيق ايضا، فرغم ان هاتين الوسيلتين الاعلاميتين سقطتا في تغطية غير بريئة للحدث فهذا لا يعني انهما يقفان ضد الاردن بقدر ما هو توجه تحرير لديهما.

نسوق هذا الكلام لان الكثير من التغطية الاعلامية والتعليقات ذهبت باتجاه "شعبوي" جدا وتجنيد الرأي العام المحلي و"تجييشه، بما كاد يسقط التغطية في منطق غرائزي وامني من مثل تركيز الصحف على جنسية المفجرين وعلى عدم وجود أي اردني بينهم وعلى تجاهل ذكر اسم العائلة الاردنية التي التجأت اليها الارهابية ساجدة الريشاوي وعلى مقولة "كل مواطن غفير" و"كلنا بنادق"، بما يوحي ان الشعب الاردني كتلة واحدة ليس بينه من يؤيد القاعدة وهذا امر مخالف للمنطق الواقعي، حيث ابرزت آخر استطلاعات الرأي أن نحو 2.6% من المواطنين يبررون تفجيرات عمان واغلبهم من الفئة العمرية بين 18 و 24 عاما. وبدون اخذ هذه الامور على محمل الجد من الصعب مكافحة الارهاب وثقافة العنف التي كتب عنها الكثير في الصحافة المحلية.

تعاملت تعليقات الكتاب بعمومية شديدة مع الاطروحات الموجودة ونمت في اغلبها عن "مزاج سياسي" مدعوم ظاهريا باسانيد عقلانية وعليه فمن الصعب مثلا العثور على تعريف محدد للارهاب او المقاومة.

غلب على اكثر التحليلات طابع العمومية فبدا الارهاب كـ"كائن" او جسم هيولي غير معروف ومعزول عن أي جذر او سبب، فيما طغى مفهوم "قدسي" طوباوي على المقاومة واحادي الجانب لا يعترف بأي مقاومة ما لم تكن مقاومة مسلحة ويرفض النظر اليها بوصفها ظاهرة اجتماعية تاريخية سياسية متحولة من شكل الى آخر.


أضف تعليقك