الصباغ تكتب عن لغز اعتذار المعارض الأردني نايف الطورة 

الرابط المختصر

فوجئ متابعو المعارض الأردني نايف الطورة لدى سماعهم نبرة الاعتذار الذي قدمه شخصياً للملك عبدالله الثاني بعد سماحه له بدخول الأردن من دون ملاحقته قضائياً على إطلالاته الفضائحية لسنوات، عبر “يوتيوب” و”فايسبوك” وأخيراً “كلوب هاوس”، التي لطالما طاولت الملك وحاشيته وزوجته الملكة رانيا وولي العهد الأمير الحسين ومؤسسات الدولة العميقة.

العودة المفاجئة ولهجة الإشادة بالملك تبدو غير منسجمة مع الرجل، وما كان يقوله على مدى السنوات الماضية. وهو في تصريحاته بعد عودته لم يتوان عن ابتلاع الكثير مما كان يقوله من انتقادات وهجوم لاذع، فالطورة في بثه الثاني المباشر من عمان بعد عودته رفع منسوب لغة “العشيرة” والذكورة ومفاهيمها في خطابه، حيث قال إنه لا يعيب “الرجل” أن تعتذر. وأضاف أن مبادرة الملك بالسماح له بدخول الأردن “حراً طليقاً موقف طوق به الملك عنقه وعنق أهله وهو ما لم ولن ينساه. 

وتابع أنه تم توقيفه في المطار بعد وصوله المفاجئ يوم الجمعة من أميركا حيث لجأ قبل ربع قرن. ووجهت إليه بعض الأسئلة التي لم يذكر طبيعتها قبل أن يتدخل الملك ويسمح للجهة التي تكلمت من المطار مع القصر بأن تقدم للطورة كل التسهيلات للقاء اهله في الليلة ذاتها، وبضمانات من الأجهزة التي رحبت به وقالت له إنه في بلده. وعرض عليه أيضاً توفير العلاج الطبي له ولوالدته المسنة. وشدد على أنه لن يرد على صولات التشكيك التي طاولته عقب عودته لأنه تاريخياً لا يقبل أن ينزل الى مثل هذه “السفاهات”.

وأصر  الطورة على أنه لم يشارك يوماًً بالدعوة إلى إسقاط النظام “الذي هو ضمانة لكل الأردنيين”. لكن إشارة الطورة هذه لم تقم وزناً لحقيقة أن فيديواته المثيرة ما زالت على صفحته الرقمية يستطيع كائن من كان أن يعيد الاستماع إليها والتحقق من طلقاته الإعلامية التي خرقت كل الخطوط الحمر.

وأضاف الطورة أن “الملك سيبقى كبيراً” في نظره. وختم أن “الدولة ليست لها ذراع تلوى… الدولة لها أنياب إن أرادت… اعتقد ان هذا التسامح الكبير يقتضي مني أن أقدم الشكر أولاً وأخيراً للملك عبدالله الثاني عندما سمح لي أن أدخل إلى الأردن بهذه الطريقة متجاوزاً كل ما قلت دون أن يراجعني أحد”.

الطورة كان هاجر إلى الولايات المتحدة في منتصف التسعينات حيث منح لجوء سياسياً بعد خلافات مع المخابرات الاردنية بسبب كتابات أدت إلى اعتقاله ومن ثم اطلاق سراحه. وإلى جانب مقالاته الحادة، كانت للطورة قصة خلاف شهيرة مع وزير الدفاع والتصنيع الحربي حسين كامل زوج رغد ابنة صدام حسين. حينها وقع خلاف بين الرجلين وصل الى حد تهديد كامل بقتل الطورة وتحول الأمر إلى المحاكم. هذه القصة وتفاصيل أخرى وردت في عمل تلفزيوني هو “هاوس اوف صدام”، والذي شارك الطورة في كتابته.

عودة الطورة سببت انقساماً بين آلاف المتابعين له فهو اسم بارز في أوساط المنتقدين والمعارضين الأردنيين، الذين تباينت مواقفهم وآراؤهم بين متفهم لموقفه بسبب مرضه ورغبته في أن يكون بين أهله، ومنتقد لانتهازيته ومصدوم حائر من ازدواجية التعامل مع المعارضين واللعب بالقانون.

البعض تفهم دوافع عودته المفاجئة والمحسوبة إلى عمان بعدما خضع لعملية تنظير  في الولايات المتحدة عقب إجراء عملية قبل ذلك. 

آخرون رأوا فيها استمراراً لسياسة هاشمية قائمة على احتواء المعارضة على نحو ما فعل الملك الراحل الحسين بن طلال، حين احتوى أشد الرموز المعارضة بما فيها التي وقفت في خمسينات القرن الماضي في خندق محاولات انقلابية بدلاً من قتلهم وسحلهم كما الحال عليه في سوريا وبعض دول الخليج. 

بعضهم توقع أن هذه الخطوة جاءت في سياق انفتاح سياسي تدريجي على المعارضين في الداخل والخارج تماشياً مع رغبة الملك بالإصلاح عبر لجنة ملكية شكلها قبل شهور لتحديث المنظومة السياسية في بلد وصلت فيه معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات مقلقة، تهدد السلم الأهلي في غياب موارد مالية إضافية قادرة على خلق فرص عمل تمتص الغالبية الشبابية المتعلمة.

آخرون انتقدوا انتهازية الطورة الذي قرر على ما يبدو التضحية بصدقيته كمعارض قبل أن ينخرط في “لعبة تسوية” سياسية لأسباب شخصية بعدما كشف في بثه الأخير أنه اكتشف بعد عودته أن جهات وشخصيات سياسية لم يسمها كانت تسرب له المعلومات والملفات “ظلماً” من باب المناكفات السياسية الدائرة في البلاد.

بحسب كثيرين ممن كانوا يتابعون عن كثب ما يقوله الطورة، فإن الرجل لن يستطيع بعد اليوم إعادة تسويق نفسه كمعارض، حتى إن أصر في مقابلته الأخيرة على أنه لن يغير موقفه حتى بعد عودته قريباً إلى الولايات المتحدة.

في المقابل، يتساءل قانونيون ومستقلون عما إذا بات القصر مستعداً لأن يخلي سبيل مئات الحراكيين والمحكومين والموقوفين على ذمة تهم تتراوح بين “إطالة اللسان” بحسب قانون الجرائم الإلكترونية أو بتهم تقويض نظام الحكم والتآمر على العرش بحسب قوانين العقوبات ومحاربة الإرهاب، إذا ما قاموا بتقديم اعتذارات علنية مماثلة للملك.

برأيهم، أيضاً، فإن بعض ما تفوه به الطورة خلال السنوات يندرج بالتأكيد في خانة هذه التهم التي استطاع أن يفلت منها مع أن السماح له بدخول البلاد لن يعفيه من متابعة قضايا أخرى سابقة مرفوعة ضده لم يذكر الطورة حيثياتها لأنه يرفض أن يكون فوق القانون.

وطالب آخرون بمحاكمته بتهمة إطالة اللسان والمس بكرامة العائلة الحاكمة أو الإعلان عن عفو ملكي لمعارضين رقميين آخرين مقيمين خارج البلاد، مثل الصحافي علاء الفزاع وحسام العطيات ومصطفى الشمايلة وغيرهم، في حال أبدوا رغبة في العودة إلى وطنهم.

في المقابل، تخوف البعض من أن قرار الملك بالسماح للطورة بالدخول إلى الأردن يمس صدقية خطاب الإصلاح وتحديداً رؤية الملك التي عبر عنها في الورقة النقاشية السادسة عام 2016، بعنوان “سيادة القانون أساس الدولة المدنية. علماً أن هذه المرة الثانية التي يرفع فيها الطورة راية الهدنة علنا، أمام السلطات الأردنية، منذ بدء حملاته الخارجية ضد الأردن، التي أقلقت المسؤولين ومنهم من اجتمع مع إعلاميين خلال شهر رمضان الفائت للتباحث حول كيفية الرد على الافتراءات الرقمية التي يطلقها أقطاب ما يسمى بالمعارضة الخارجية المتابعة محلياً. 

ففي مطلع عام 2019، أعلن الإعلامي المعارض وصوله في زيارة خاصة وعائلية بعد 15 عاماً على نيله لجوء سياسياً في الولايات المتحدة. على انه وفور عودته إلى أميركا استأنف نقده اللاذع للسياسات والمؤسسات والرموز الأردنية.

لم تظهر بعد الدوافع الخفية حول توقيت عودته ورغبته في وقف الهجمات الإعلامية على السلطة الأردن. هناك سيناريوات لا يمكن أن يجيب عليها أحد، بسبب شح المعلومات وغياب تفاصيل ثمن التسوية.

قبل رحلته الأخيرة إلى عمان غاب الطورة عن الفضاء الإلكتروني بالتزامن مع زيارة الملك عبدالله الثاني إلى واشنطن ليصبح أول زعيم عربي يقابل الرئيس الديمقراطي الجديد جو بايدن في البيت الأبيض. وغاب الطورة عن وقفة احتجاجية حاول المعارضون تنظيمها أمام البيت الأبيض لإحراج الملك والتشويش على زيارته التي لاقت ترحيباً استثنائياً في الأوساط السياسية والإعلامية. الوقفة كانت باهتة ويقول نشطاء إن تدخلات رسمية ساهمت في إضعافها.

وكان الطورة أيد الدعوة التي أطلقها معارضون آخرون لتنظيم “وقفة واشنطن”.

الأيام والشهور المقبلة ستجيب على أسئلة كثيرة، بما فيها إذا كانت هناك نية لمراجعة القرارات والإجراءات القانونية والإدارية التي تم فيها الاعتداء على حرية الرأي والتعبير وإطلاق سراح معارضي الداخل واستقبال معارضي الخارج وتسوية ملف نقابة المعلمين والتوقف عن ملاحقة الحراكيين وتكميم الأفواه. 

أو إذا صدقت رواية محامي الشيطان والتي تدعي في بعض جوانبها أن ما حصل، لا يتعدى كونه عملية استقواء على المعارضة ذات السقف المرتفع التي تلاقي قبولاً في الأوساط الشعبية وفي بعض الغرف المغلقة باستخدام أحد رموزها البارزين.