السكرتيرة: بين مطرقة الاضطهاد وسندان الصورة النمطية

الرابط المختصر

إذا كان من حسنات الحراك الاجتماعي خروج المرأة للعمل وإقبالها
على التعليم، فالوضع يرتد الى الأسوأ عندما نتحدث عن ظروف عمل النساء والاضطهاد
المزدوج الممارس عليهن.

ومهنة السكرتارية، شبه المحصورة بالمرأة، قد تكون أفضل
نموذج لتمثل هذا الواقع.

تكاد مهنة السكرتارية ان تنقرض في المجتمعات المتقدمة،
بفعل التطور الكبير في وسائل العمل والتكنولوجيا والمتغير الثقافي. غير ان هذه
المهنة لا تزال تجد حيزا كبيرا لها في مجتمعنا المحلي، ويزداد الاقبال عليها بسبب
البطالة المتفشية، بخاصة بين النساء، وسيادة ثقافة "الوجاهة" في مجتمعنا
الذكوري.

"شقفة" سكرتيرة

تبدو مهنة السكرتارية، كما رسخ في ثقافة المجتمع المحلي،
مهنة من لا مهنة لهن، فكل مؤهلات السكرتيرة المطلوبة، بحسب مئات الإعلانات
المنشورة في الصحف: إجادة الطباعة واستخدام الكمبيوتر وحسن المظهر في غالب الأحيان.
ولأن الامر كذلك في نظر المجتمع واصحاب العمل، فان السكرتيرة مخلوق مستضعف لا
يستحق ان يحصل على أجر مكافئ لحجم العمل مهما كان، وساعاته مهما طالت.

تلخص مها، 25 سنة، سكرتيرة لدى طبيب، ظروف هذه المهنة
ببساطة، قائلة: "مهنة السكرتيرة عبارة عن مأساة. في الخارج تدرس هذه
المهنة بالجامعات، وهنا تعطى على شكل دورات عاليه. والمجتمع يقول: ما هي شقفة
سكرتيرة"!.

في العادة، لا يعترف رب العمل للسكرتيرة بما تبذله من
جهد في العمل ولا ينظر الى السنوات الطوال التي قضتها في التعلم، او ساعات العمل
الطويلة وظروفه الصعبة والخبرة والمؤهلات، فهو لا يقيس أجرها الا بالمقارنة مع نظيراتها،
او بالصورة النمطية الشائعة عن هذه المهنة بوصفها "فائضة عن الحاجة".
وهو بذلك يتعامل معها وكأنه "يمن عليها بجميل او معروف" لمجرد انه
استخدمها فقط، وكونه قادر على الاستغناء عنها تماما او استبدالها بمن تقبل بأجر
اقل وبجهود أكثر لإرضائه.

ومها، اذ تمثل دليلا على هذه المعاناة، تقول: "اعمل
في المكتب منذ 6 سنوات، وراتبي 130 دينارا. أول ما تسلمت العمل كان راتبي 90 دينارا،
هذا ليس عدلا، واحمل شهادة
توجيهي
ودورة من المعهد البريطاني. أنا دائما ملحوقه بالراتب، فهو لا يكفي، وبعد هذه
الخدمة يجب ان يكون راتبي 180 دينارا مقابل التعب الذي ابذله. افكر في ترك العمل، واحاول
البحث عن عمل اخر، ولا اجد، لكن في النهاية قررت أن اترك".

وتضيف مها: "طلبت زيادة، لكن المدير يقارن راتبي
برواتب السكرتيرات الاخريات في المجمع،
ويقول لي انظري الى غيرك انت مدللة، انت احسن وحده بالعمارة، وعلي الا افكر
في ترك العمل لان راتبي أحسن راتب في العمارة، المدير هكذا يحسبها وليس بناءا على
مجهودي".

وفايزة، امرأة في نهاية الثلاثينات وتعمل سكرتيرة لدى
شركة كبرى، تبدو قصتها اقرب الى الخيال، فتقول: "راتبي 200 دينار، ابتدأت
العمل براتب 80 دينارا، وقد تعينت في الشركة منذ 20 سنة".

وتضيف: "ساعات الدوام طويلة تبدأ من 7,45 الى
4,45 وهذا دوام طويل ومتعب".

وحال نهى ليس افضل، فتقول: "راتبي 120 دينارا،
تعينت منذ 7 شهور، اعمل 12 ساعة يوميا، يتخللهما ساعتين استراحة، وهذا الراتب لا
يكفيني، لذا استدين من اهلي لاني استهلك الراتب في المواصلات ناهيك عن الاكل
واللباس".


الاسم "سكرتيرة"!!

اذا كانت كلمة "سكرتيرة"، تعني أمينة المكتب،
فإن اصحاب العمل، واستغلالا لحاجة الناس الى العمل، "ابتذلوا" هذه
المهنة الى اقصى الحدود. فالسكرتيرة لم تعد فقط هي تلك الموظفة المعنية بحفظ
الملفات او بطباعة المراسلات والكتب وترتيب المواعيد واستقبال الزوار وما عدا ذلك
من مهام تدرسها المعاهد المتخصصة، بل اصبحت "السكرتيرة" في نظر اصحاب
العمل هي امينة المكتب وخادمة المدير ومكتبه وزواره، وعليها ان تتحمل تحرشاته، وفي
احيان اخرى تحرشات الزبائن.

تقول مها: "انا أحب عملي، لاني رأيت مواقف في
اماكن عمل اخرى يكون المدير فيها على غير خلق، وقد اخبرتني صديقة لي تعمل عند طبيب
انه دخل عليها في فترة الاستراحة وهي نائمة وحاول التحرش بها، وفتاة اخرى تعمل عند
طبيب اسنان يتحرش بها دائما باللمس، حتى الناس يعتقدون ان السكرتيرة مشاع للكل،
انا عندي ظرف خاص مضطرة للعمل لكن هذا لا يعني انني لست انسانه يجب ان اعمل ويجب
ان تحترموني".

أما سهى، 26 عاما، سكرتيرة لدى شركة فتقول: "من
خلال معرفتي ببعض السكرتيرات فانهن يتعرضن فعلا لمضايقات وبشكل مزعج، وبعضهن
يستقيل بسبب المضايقات والطلبات التي تطلب منهن، دائما هناك نظرة ان السكرتيرة اقل
شخص بالشركة على الرغم من أهميتها في العمل".

على الرغم ان السكرتيرة هي اقل الموظفين شأنا في مكان
العمل، كما تقول سهى، فان هذا لا يعني انها "ليست واجهته"، بحسب أرباب
العمل، فعليها يقع عبء استقبال الزوار وملاطفتهم، او الاعتذار منهم وتمرير كل
"اكاذيب" صاحب العمل، حتى بدا للناس ان السكرتيرة، وهي موظفة مأمورة،
صاحبة الامر والنهي، غير ان الحقيقة تبقى انها من يوضع في الواجهة وهي بذلك تصبح "حمال
الأسية". تقول مها: "مهامي هي الرد على الهاتف واستقبال المرضى ومساعدة
الطبيب في العمليات الصغيرة، وحينها يكون الضغط كبير علي، خصوصا عندما ياتي مريض
نكد، لانك حينها، يجب ان تستوعب كل الناس، لان الزبون على حق، كما يقال دائما، وقد
تعرضت لهذا الموقف اول عملي فقد وقف الطبيب الى جانب المريض باعتبار ان الزبون على
حق وقد انزعجت كثيرا وقتها".

ومهما يكن، فان النظرة السائدة في المجتمع عن السكرتيرة
تولد لدى الكثير من الذكور انطباعا نمطيا عن كونها "امرأة سهلة" في
متناول اليد. تقول مها بأسى بالغ: "قبل سنتين كنت مجازة وحلت صديقتي مكاني،
وكان يراجعنا مريض بشكل مستمر، وعندما شعر بغيابي، اعتقد اني تركت العمل فكانت اول
كلمة قالها للمدير ان السكرتيرة الجديدة احسن من القديمة لانها لا تضحك لرغيف
الخبز، قلت للمريض لك علي ان أعاملك باحترام إما ان اضحك بوجهك فهذا ليس عملي. لكن
هو لم يكن يريد هذا، بل كان يريد خدمات ثانية "تزبطي معه موعد، وتطلعي، لما
لا فانا سكرتيرة! هيك مجتمعنا".

اذا كان الزبون دائما على حق، فان الرجل، خاصة اذا كان
صاحب العمل، يكون مالك الحق والحقيقة والمنزه عن الباطل، لا يأتيه لا عن شماله ولا
عن يمينه، فهو وان تحرش بالسكرتيرة، فهي في نظر المجتمع الملامة دائما، فهي المرأة
المغوية وهي من راودته عن نفسه بكلامها او لباسها او حركاتها، والا لما تجرأ
على فعلته، تقول مها: "أينما تذهب البنت في مجتمعنا الشرقي هي مضطهده
ومدانه، حتى لو كانت مظلومة، فالمجتمع الذكوري يضع اللوم عليها، ويقول: لو ما
عملتي هيك .. لو ما لبستي هيك.. وهذا ليس حكرا على السكرتيرة فقط فهو على كل
مستويات المهن مثل الكوافيرة والمضيفة".

لا يهم ما اذا كانت "السكرتيرة" تحصل على راتب
بالكاد يكفيها خبزها كفاف يومها، فهي مطالبة ان تكون دائما بكامل أناقتها، حسنة
الملبس والمظهر، فهي "واجهة المكتب"، وهي ربما تقع موقعا حسنا في نظر
المدير. اما كيف تحصل على الملابس والمكياج والعطور لتبدو "باربي
المكتب"، براتبها الضئيل فهذا ليس مهما.

وحسن المظهر يعني لدى الكثيرين ان ليس للسكرتيرة الحق في
اختيار مظهرها او ملابسها بحسب ما يناسب ذوقها ومعتقداتها، ويعني ايضا ان
السكرتيرة يجب ان تكون "مغوية". ففي الغالب ترفض أكثر الشركات واصحاب
العمل توظيف فتاة محجبة، بحجة ان الحجاب لا يتناسب وحسن المظهر، تقول سلوى،
سكرتيرة لدى شركة: "تعرضت لمواقف عديدة بسبب حجابي، الكثير من الشركات
رفضت توظيفي بسبب الحجاب، كنت انجح بكل الاختبارات في الحاسوب واللغة الانجليزية
لكن لا انجح بسبب الحجاب".

والحال نفسه مع سهى، فهي وان كانت لم تواجه صعوبة في
العمل لدى الشركة الموظفة بها حاليا، الا ان الحجاب كان عائقا اما توظيفها في
شركات اخرى، فتقول: "في توظيفي الشكل لم يلعب دورا، لكن اهم شي كان هو ان
اجيد الطباعة، بالنسبة للحجاب واجهت صعوبة في شركات اخرى لم تكن تقبل توظيفي، ذهبت
لاكثر من شركة ورفضوا توظيفي بسبب الحجاب".

اما عايدة، 22 سنة، سكرتيرة لدى محامي، فتقول: "كان
للشكل دور في عملي، فيفضل ان تكوني جميلة ولبقة في التعامل، لم اواجه مشكلة في
الحجاب هنا، لكن في اماكن أخرى قدمت لها اشترط علي خلع الحجاب لكي اعمل على الأقل
في العمل واستطيع ارتداؤه حينما أغادر العمل".

على ان السكرتيرة ليست دائما على حق ايضا، فبعضهن وقد
امتلكن وعيا بكونهن نساء مرغوبات في مجتمع ذكوري، فقد عملن على استغلال هذا من
خلال امتلاك شخصيات استعراضية تحب لفت الأنظار للحصول على تقدير المدير وحيازة سلطات
بحيث تشكل المدخل الحقيقي له.

هذا الاستدراك الأخير، لا يلغي باي حال من الاحوال،
حقيقة ان النساء العاملات في هذا القطاع يتعرضن للاضطهاد أكثر من قطاعات اخرى.

واذا كانت "السكرتيرة" تحصل على النزر اليسير
من الأجر، فكيف والحال مع الحقوق الاخرى المنصوص عليها في قانون العمل مثل
الاجازات والمكافآت وساعات العمل الاضافية، وهي كلها حقوق مغيبة لا تمتلك
السكرتيرة أي حول او قوة للمطالبة بها، طالما هي تحت طائلة الفصل والاستبدال، وتحت
وطأة الحاجة وبدون أي مؤسسة او منظمة اهلية او نقابة تدافع عن حقوقها.

والسكرتيرة الى جانب ذلك، مخلوق مستضعف من المجتمع،
فالصورة النمطية عنها والشائعات والاكاذيب التي تنسج عنها، وهي في اغلب الاحيان
نتاج خيال مكبوت، تستحق ان تكون مادة لدراسة سلوك المجتمع حيال المرأة العاملة في
القطاعات المهمشة.

أضف تعليقك