الذكاء الإصطناعي وسياسات منصات التواصل: كيف تتأثر الصحفيات ومحتواهنّ؟

الرابط المختصر

حاولت الصحفية غادة الشيخ، 39 عامًا، قبل أشهر النشر عبر حسابها على منصة إكس دون جدوى، قبل أن تكتشف أن المنصة قد قيدت حسابها لمدة أربعة أيام إثر منشور تضمّن إحدى موادها الصحفية التي تناولت قضية فتاة تعرضت للتعنيف. خلال تلك الفترة، لم تكن غادة قادرة على نشر محتواها وتقاريرها الصحفية على المنصة التي تعد وسيلتها الأساسية للتفاعل والنشر، كما لم تتمكن من الاعتراض على قرار المنصة بسبب غياب آليات واضحة لذلك، فضلاً عن حالة من الرقابة الذاتية التي باتت تفرضها على نفسها خوفًا من تكرار تجربة تقييد حسابها. 

تشير التقارير العالمية إلى تزايد اعتماد منصة إكس على الذكاء الاصطناعي في إدارة الحسابات والمحتوى، وهو ما يسفر عن مزيد من القيود الرقمية خصوصًا في المنطقة العربية. ليست هذه مشكلة إكس وحدها، إذ أشارت التسريبات الصحفية إلى أن شركة ميتا أيضًا، والتي تدير تطبيقي فيسبوك وإنستغرام، ستصل قريبًا لنسبة 90% في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتقييم المحتوى، في محاولة للتحول الكامل إلى إدارة منصة تستند على الذكاء الاصطناعي، مما يؤثر سلبًا على حرية نشر المحتوى وقدرة الصحفيات في التعبير عن رأيهن رقميًا. 

قمع فوري للمحتوى 

غادة الشيخ، صحفية تعمل في جريدة الغد، 39 عامًا، متخصصة في صحافة حقوق الإنسان (4 حزيران 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

تلجأ غادة لوسائل التواصل الاجتماعي كجزء أصيل من عملها الصحفي الذي يركز على قضايا حقوق الإنسان والشأنيْن السياسي والاجتماعي بدءًا من إيجاد مواضيع للكتابة حولها، تقول غادة "أحيانًا بقرأ التعليقات، بتخطر لي تغطيات صحفية مهمة، وهذا اشي مهم لأن انتاج الافكار هي أكبر تحدي للصحفي". كما تستخدم هذه المنصات للتواصل مع الناس ورصد القصص والبحث عن شخصيات محددة، وهي طريقة تجدها مفيدة خصوصًا بعد أن بنت ثقة وخطوط تواصل مع جمهورها وقاعدة جيدة من القرّاء والمتابعين. 

من ناحية أخرى، تعتمد غادة بنسبة تتجاوز 90% على هذه المنصات الرقمية لنشر محتواها الصحفي وتعزيز وصوله، في وقت تعتبر فيه أن قدرة الناس على قراءة المواد الطويلة أو مشاهدة الفيديوهات المطولة باتت تتراجع. ولذلك، فإن معدل قراءات تقاريرها الصحفية، وكذلك مشاهدات البودكاست المصوّر الذي تنتجه، تتراجع بشكل حاد عندما يتعرض حسابها لقيود رقمية تفرضها منصات التواصل الاجتماعي وسياساتها.

تضيف غادة أن اعتماد منصات التواصل الاجتماعي على الذكاء الاصطناعي في إدارة المحتوى وتصنيفه جعل قدرتها على تقييد المحتوى وفرض الرقابة عليه أسرع، خصوصًا منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر عام 2023، إذ تلتقط الخوارزميات المُعتمدة على الذكاء الاصطناعي في دقائق كلمات محددة تعتبرها المنصات مخالفةً لمعاييرها. وبالفعل، أشار تقرير لهيومن رايتس ووتش أن اعتماد شركة ميتا على الذكاء الاصطناعي في إدارة المحتوى يُعدّ عاملاً رئيسياً في التطبيق الخاطئ لسياساتها، بما في ذلك إزالة محتوى لا ينتهك المعايير لمجرد دعمه لفلسطين على إنستغرام وفيسبوك. 

على الصعيد الشخصي، جرى تقييد عشرات المنشورات التي قامت غادة بمشاركتها حول الحرب على غزة على منصة إنستغرام. "انا مش موجودة في غزة وما بقدر اغطي الاحداث بشكل ميداني، فكان اقل شي اعمله اني اشارك عمل المنصات الفلسطينية والصحفيين في غزة"، توضح غادة التي تعرّضت منشوراتها حول مستشفى الشفاء وجرائم الإبادة في غزة لتحذيرات بتعطيل الحساب، مؤكدةً أن حساب صحيفة الغد - حيث تعمل- على الفيسبوك تعرّض لتقييد في النشر مرتين، إحداهما امتدت لشهر كامل لم تتمكن فيه الجريدة من مشاركة أي مستجدات إخبارية مع الجمهور. 

اليمين: غادة تتصفح واحدة من حلقات البودكاست التي تستضيف فيها ليلى خالد وقامت بمشاركتها عبر الإنستغرام (4 حزيران 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

اليسار: غادة تستخدم المنصات الرقمية كأداة أساسية لنشر محتواها الصحفي وتعزيز وصوله للجمهور (4 حزيران 2025)

تتفق الصحفية راما سبانخ، 27 عامًا، مع غادة حيال انحياز منصات التواصل الاجتماعي وتقييدها للمحتوى الفلسطيني، ورغم أن راما تستخدم منصات التواصل الاجتماعي بمعدل أقل ولغايات أبسط، مثل متابعة الأحداث من حولها وكذلك الحوارات التي يناقشها الناس من أجل إلهامها أفكارًا مختلفة للتغطيات الصحفية، إلا أنها لم تكن بعيدة عن القيود الرقمية التي تفرضها المنصات والتي أخذت أيضًا أشكالاً غير مباشرة.  

تلحظ راما بشكل مستمر كيف تتراجع مشاهدات "الستوريات" على حسابها على الإنستغرام بنسبة تزيد عن 40% خلال آخر عامين جراء تفاعلها مع أحداث الحرب على غزة في ظاهرة وصفت بالحظر الظلّي Shadow Banning؛ وهي آلية تعتمدها بعض المنصات لتقييد وصول المحتوى من دون إشعار المستخدم، عبر تقليل ظهور منشوراته في الخوارزميات أو منعها من الظهور للمتابعين، دون حذفه أو حظر الحساب بشكل مباشر. "مش ضروري الخوارزمية تحذف محتواك او تسكر حسابك عشان تقيدك، بتقدر تخليك غير مرئي ببساطة"، تقول راما التي تشعر بأن هذه المنصات فرضت رقابة ذاتية مفرطة على المحتوى الذي تقوم بنشره عبر محاولة استخدام كلمات أو رموز معينة قد لا ترصدها الخوارزميات المضللة.

 

راما سبانخ، صحفية تعمل في بودكاست صوت، 27 عامًا، متخصصة في الشأن السياسي والقضايا النسوية (29 أيار 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

بالنسبة لراما، تُضاف قيود منصات التواصل الاجتماعي لعشرات القيود التشريعية التي تضيّق الخناق على الصحفيين رقميًا وتحول دون نشر محتواهم وإيصال رسائلهم، فضلاً عن أن هذه المنصات قد لا تكون بالضرورة مفيدة في التفاعل مع الجمهور في ظل التغييرات المستمرة التي تجريها على سياساتها. وتقول راما: "احيانا المنصات بتعطيك شعور مزيف بالوصولية للجماهير"، مشيرة إلى أن هذه المنصات قد تُنتج فقاعات رقمية جديدة تتنبأ بسلوك الأفراد وتُظهر المحتوى المقبول بالنسبة لهم بما لا يتيح التفاعل مع القضايا ووجهات النظر المعاكسة. 

عملت راما لأسابيع على إنتاج حلقة بودكاست مع منصة "صوت" حول المشاركة الفاعلة للمرأة الفلسطينية في العمل الثوري، وإذ تعرف أن موضوعًا كهذا قد يجعلها عرضة للتقييد الرقمي، دأبت على التنبؤ بتصرفات الخوارزمية وعمدت مشاركة مقطع مصور من المقابلة يظهر الحوار بينها وبين الضيفة، بدلاً من مشاركة صورة أرشيفية تُظهر سيدة مُقاوِمة بشكل مباشر. في هذه الحادثة، ترى راما أن المحتوى الفلسطيني قد يكون الأبرز في التعرض للتقييد الرقمي حاليًا، لكن المحتوى النسوي أيضًا كثيرًا ما يتعرض لضغوط مماثلة، خصوصًا عندما يتناول مواضيع حساسة مثل العنف الأسري، أو التحرش، أو الحملات المطالِبة بالمساواة، أو حتى الدعوات لزيادة تمثيل النساء في الحياة السياسية والنقابية. ففي بعض الحالات، تُصنَّف هذه المنشورات على أنها "محتوى حساس"، ما يؤدي إلى تقليل انتشارها أو وضع تحذيرات عليها. 

اليمين: راما تتصفح واحدة من حلقات البودكاست التي تتناول قضايا النسوية وحقوق المرأة (29 أيار 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

اليسار: راما أمام شاشة تعرض تحذيرات منصة إنستغرام بشأن المحتوى المخالف لسياساتها (29 أيار 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

ترويج لخطاب الكراهية 

لا تتوقف القيود التي تفرضها سياسات منصات التواصل الاجتماعي، وخاصة تلك المدعومة بالذكاء الاصطناعي، على قمع المحتوى بأشكال مباشرة وغير مباشرة، بل قد تسهم أحيانًا في تعزيز الترويج لخطاب الكراهية ونشر الأخبار المضللة. تُنسّق الصحفية المتخصصة في قضايا العمال وحقوق المرأة، رانيا الصرايرة، 45 عامًا، شبكة لمناهضة العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن بدأت منذ عام 2022 برفقة مجموعة من الزميلات الصحفيات. وعبر هذه الشبكة، استقبلت رانيا عشرات الشكاوى المرتبطة بالعنف الرقمي، والتي جرى الاستفادة منها لاحقًا كمدخلات لمسح بحثي كشف أن نحو 54% من الصحفيات في الأردن تعرّضن لواحد أو أكثر من أشكال العنف الرقمي.

رانيا الصرايرة، 45 عامًا، صحفية متخصصة في قضايا العمال وحقوق المرأة تدير شبكة لمناهضة العنف الرقمي ضد الصحفيات (2 حزيران 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

"الناس بتتعامل بشكل مختلف مع المحتوى الصحفي لما تنتجه صحفية"، تقول رانيا، في إشارة إلى كيف تصبح الصحفيات أنفسهن محور النقاش على منصات التواصل الاجتماعي، بدلاً من التركيز على مضمون ما يقدّمنه. وتتوالى التعليقات التي تتناول شكلهن وأخلاقهن وعائلتهن وخصوصياتهن في نمط من الخطاب قد يصل إلى مستوى الكراهية. وهي تضييقات تحد بالضرورة من حريتهن الصحفية وقد تدفع بعضهن لتغيير مسارهن المهني. 

تعرضت رانيا بشكل شخصي للذم والقدح قبل سنوات على منصات التواصل الاجتماعي، عقب ظهورها في مقابلة تلفزيونية حول تعديلات قانون الضمان الاجتماعي في الأردن خصوصًا وأن كثير من هذه القنوات تعتمد على منصات التواصل الاجتماعي لتحقيق ذروة التفاعل. وعلى ذلك المقطع، تكررت عشرات التعليقات التي تسيء لها ولعائلتها وتشكك في أخلاقها وانتمائها وكفاءتها المهنية، "ولا تعليق كان اله علاقة بالكلام اللي حكيته، وهاي الاساءة كانت مزعجة جدا الي ولابني في المدرسة"، تقول رانيا. 

وتتفاقم الأزمة عندما تكرّس المنصات هذا النمط من التفاعل السيء، أولاً عبر الاستجابة المحدودة لحذف الحسابات والتعليقات المسيئة، وثانيًا من خلال تعزيز انتشار المحتوى، حتى لو كان هذا المحتوى ضارًا. تقول رانيا إن هذه المنصات تحاول إبقاء المستخدمين عليها لأطول فترة ممكنة، ما يجعلها تُروّج تلقائيًا للمحتوى الذي يحظى بتفاعل واسع، حتى وإن تضمن خطاب كراهية. وبهذا، تصبح الصحفيات أكثر عرضة للتهديد والخطر خصوصًا حين يُعاد تداول هذا المحتوى المسيء بشكل متكرر، بما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تحريفه وتضخيمه في الأوساط المسيئة. 

قبل عام، شاركت رانيا منشور على منصة إكس لمساندة زميلة حقوقية كانت قد تعرّضت لهجمة رقمية إثر موقفها النسوي. لكنها لا تعرف كيف قامت خوارزمية المنصة بنشر منشورها على نطاق واسع، وهو ما استقطب عشرات الحسابات، الحقيقية والمزيفة، للتفاعل العدائي على تغريداتها والبحث في تاريخها والتشهير بها وصولًا إلى الإساءة لحالتها الاجتماعية كامرأة أرملة وتلقيها رسائل تهديد مباشرة عبر الخاص.

تعتبر رانيا هذه الحادثة دليلًا على كيف تسهم هذه المنصات في توسيع نطاق الإساءة مدفوعةً برغبتها في تعزيز التفاعل على المحتوى، حتى وإن كان مؤذيًا. وتوضح أنها تتعامل مع هذه الانتهاكات عبر الإبلاغ عنها للمنصة أو الحصول على المساعدة الرقمية من مختصي السلامة الرقمية أو حتى اللجوء لوحدة الجرائم الالكترونية، وذلك بحسب الحالة وجديتها.

وبالنسبة لرانيا، تشكّل وسائل التواصل الاجتماعي مساحة مهمة للصحفيات لكنها في الوقت ذاته قد لا تكون مساحة آمنة. وتضيف أن تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في إدارة المحتوى تساهم بدورها في تفاقم هذه الانتهاكات، الأمر الذي يكرس ضرورة تطويره هذه التقنيات لتكون أكثر وعيًا وحساسية تجاه استهداف الصحفيات، ولتأخذ بعين الاعتبار السياقات الاجتماعية والنفسية المحيطة بهذا المحتوى. 

اليمين: رانيا تحاول مشاركة ستوري على صفحتها تتناول فيه أهمية الأمن الرقمي للصحفيات (2 حزيران 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

اليسار: رانيا تتحدث عن القيود الرقمية التي تواجهها الصحفيات وأثرها على حريتهن الصحفية وسلامتهن الجسدية والنفسية (2 حزيران 2025، حقوق الصورة: اليونيسكو)

تعكس تجارب الصحفيات هنا كيف أصبحت منصات التواصل الاجتماعي مساحة مزدوجة: تتيح النشر والتفاعل من جهة، وتكرّس الإقصاء الرقمي والتضييق من جهة أخرى. في ظل التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، تظهر الحاجة الماسة إلى تطوير سياسات تقنية أكثر عدالة، تأخذ في الاعتبار خصوصية السياق المحلي والجندري، وتضمن حماية الصحفيات ومحتواهنّ من الرقابة الجائرة والعنف الرقمي. 

أُعِدّ هذا المقال والصور المرفقة به بدعم من اليونسكو في الأردن، وإن الآراء ووجهات النظر المطروحة هنا تخص المؤلف والمصور ولا تمثل بالضرورة سياسات اليونسكو أو المواقف الرسمية لها.