الحكومة لا تعرف مصلحتها جيدا

الرابط المختصر

لم يتمكن وزير الداخلية من إخفاء امتعاضه الشديد من الإعلام، وبخاصة إعلام الصحف اليومية، حيث راح بحدة يكيل له اتهامات أقلها أنه تخلى عن بعض من واجباته الوطنية وأفرد لصوت المعارضة حيزا على صفحاته.
وكان لقاء رؤساء تحرير الصحف اليومية الأربع ( الدستور، الرأي، العرب اليوم، والغد) مع وزير الداخلية تم خلال لقاء رئيس الوزراء الأربعاء الماضي بحضور وزيرالدولة لشؤون الإعلام والاتصال، ووزير التنمية السياسية.
وبدا وزير الداخلية غاضبا ومحتقنا وهو يتحدث أمام رؤساء تحرير، كما لو كان يلقي موعظة فيها الكثير من العتب، وبخاصة أنه وجه كلاما ناقدا لصحيفة "الرأي" متهما إياها بالتقصير في نقل وجهة النظر الحكومية، خصوصا في قضايا إشكالية يعتبر الوزير أن على الإعلام أن يجند قواته المحمولة والراجلة للدفاع عنها.
وقبل أن أرد على الوزير، بعدما استأذنت زملائي رؤساء التحرير، كنت أتخيل أنه لا يقصد تماما ما قاله على وجه التحديد، ليثبت فيما بعد أن تخيلي لم يكن إلا محض أمنية بددتها الوقائع اللاحقة وأطاحت بها.
ورحت أسأل عما تريده الحكومة من الإعلام، ما دام وزير الداخلية يعتقد أنه حينما يصدر أوامره بـ"قمع" المحتجين من العمال المضربين هنا أو هناك، سوف تخرج الصحف في اليوم التالي بمانشيتات على ثمانية أعمدة تبارك خطوة الوزير وتهلل لها وترش عليها السكر والورود.
وربما يعتقد الوزير أن الصحافة، إن هي تصدت إلى مشكلة سحب الجنسية من مواطنين من دون وجه قانوني مقنع، فإنها تفعل ذلك خدمة لأجندة مشبوهة تديرها وتحركها إسرائيل، ولا يخطر في باله أن من واجب الصحافة أن تتبنى مشكلات الناس وآلامهم، وتحمل تطلعاتهم وأشواقهم، وتدافع عن حقوقهم، وتنافح عن كرامتهم.


فإذا كانت الحكومة تنظر إلى الإعلام من الزاوية التي ينظر إليها وزير الداخلية، فأعتقد أننا كإعلاميين في مأزق مبهم، حيث إن من شأن هذا الإبهام أن يعيدنا سنوات، بل عقودا إلى الوراء، وصولا إلى عتمة الحقبة الشمولية، حيث كانت حركية الإعلام مقتصرة على الإشادة بإنجازات الحكومة، حتى لو كانت الحكومة ترتكب أبشع الممارسات وتنتهك، كما هو الحال في الأنظمة التوليتارية، حقوق البلاد والعباد، وتسوم الناس شر العذاب والفقر والمهانة.


الدنيا اختلفت الآن، وعجلة التاريخ لا تعود أبدا إلى الوراء، ومحاولة السيطرة على شبكة الإعلام مآلها الإخفاق. فبأي حكمة تعتصم الحكومة وهي توزع الاتهامات على الإعلام، وبخاصة اليومي منه، وتدعوه إلى العودة إلى بيت الطاعة، أي أن يكون إعلاما مدجنا لا فضاء فيه للنقد، لا مساحة فيه للتنوير، ولا أفق يرتجيه من أجل إحداث اختراق معرفي.


وفي هكذا حال، فإن الإعلام يمسي بوقا للحكومة يسبح بآلائها، ويزين أخطاءها، وينخرط في حلقة دبكة تمجيدا للإنجازات الوطنية لأركان الحكومة، فهل هذا هو التصور الذي يبتغيه جلالة الملك، وهل هذه هي الممارسات الملائمة كي تزهو صورة بلدنا وتلمع في فضاء الحداثة والعصرنة؟


أعتقد أن الحكومة ضلت السبيل حينما توجهت للصحافة اليومية باللوم والعتاب والاتهام مدججة بهكذا خطاب يرنو إلى إعلام تعبوي هدفه عسكرة المجتمع وإخفاء معالمه المدنية، وهو أمر يتصادم مع قيم التعددية والتسامح والاختلاف الذي يفخر الأردن بأنها جزء أساسي من تقاليده وركن لا غنى عنه في مدماكه الحضاري.


الحكومة لا تعرف مصلحتها جيدا، هكذا كنت أردد وأنا أخرج من دار رئاسة الوزراء متوجها إلى دار الغد، متحسسا رأسي، خشية من هراوة غاضبة، أو من رصاصة طائشة تجعلني أثرا بعد عين.