"الجندي المجهول" في الإصلاح!
ثمة مقاربات متعددة في الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر لعملية الإصلاح السياسي، بعضها يتخذ من المدخل السياسي طريقاً (العمل الحزبي، السياسي، البرلماني، النقابي..)، وبعضها الآخر يرى أنّ الإصلاح السياسي مرحلة ثانوية، لا يمثل أوّلية أمام التحدي الرئيس وهو مواجهة مشروع الهيمنة والاحتلال في الخارج، ويجعل هذا الاتجاه من المشروع المقاوم الوحدوي العابر للقطريات مدخلاً رئيساً يضع المعركة في مواقعها الحقيقية.
في المقابل؛ هنالك المدرسة الإصلاحية التي تقلل من شأن المدخل السياسي وتمنح الأولية والأفضلية للمسألة الثقافية وتعتبرها بيت الداء والدواء، وترى أنّ السلطة والسياسة امتداد للمجتمع وآفاته.
برزت الإصلاحية الإسلامية الأولى مع بدايات القرن العشرين، بصورة واضحة مع مدرسة الإمام محمد عبده ورشيد رضا، وابن باديس وعلال الفاسي والطاهر بن عاشور وغيرهم، وجعلت ركيزتها الإصلاح الديني والتربية، ووجدت صدى لها مع مالك بن نبي الذي تحدث عن شروط النهضة واعتبر الإصلاح السياسي محصلة للإصلاح الاجتماعي- الحضاري، ثم لاحقاً جودت سعيد الذي سار على نهج ابن نبي مركزاً على أهمية الابتعاد عن العنف والعمل المسلح وعلى ضرورة توليد الفعالية والإنتاجية لدى الفرد والمجتمع المسلم.
إلاّ أنّ زخم المدرسة الإصلاحية انحسر وتراجع في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مع بروز أسئلة الهوية والاستقلال القطري والصراع الأيديولوجي، وتغلب المدخل السياسي على الحالة الإسلامية الحركية الصاعدة في المنطقة.
مع إرهاصات الثمانينيات من القرن المنصرم بدأت رؤية جديدة بالتشكل من خلال عدد من الأكاديميين العرب والمسلمين في الغرب، تحديداً الولايات المتحدة الأميركية. تقوم رؤية هذه المجموعة على خطورة القصور المعرفي والفكري الإسلامي المعاصر في مواجهة الثقافة والمعرفة الغربية، وعلى ضرورة ملء الفراغ من خلال جهد مؤسسي في مجال المعرفة والفكر الإسلامي يركز على "أسلمة العلوم والمعارف"، بخاصة في المجالات الإنسانية والاجتماعية، وتطوير مناهج الفكر الإسلامي. ولتحقيق ذلك الهدف تأسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
المفارقة أنّ المعهد لا يعتبر أن الطريق الاستراتيجية للإصلاح عبر الأحزاب أو النقابات والطلائع المقاتلة، كما هي حال الحركات والرؤى الإصلاحية الإسلامية الأخرى، وإن كان لا يرى نفسه بديلاً لها، بقدر ما يحاول سد الفراغ في المجال الفكري والمعرفي.
إنّما الطريق المعبدة نحو الإصلاح، وفقاً لرؤية المعهد، تتمثل بالمعاهد العلمية والفكرية والجامعات والمدارس ومصانع الفكر التي تعيد صوغ الإنسان المسلم وتأهيله ليكون قادراً على مواجهة العصر واستحقاقاته، فكرياً من خلال إدراك ديني عصري، ووجدانياً من خلال بناء المناعة الذاتية ضد الاستلاب والتبعية ووجود الدافعية للعطاء والعمل.
المشكلة هي فكرية بامتياز، كما يرى المعهد الإسلامي ومفكروه، والحل في ميدان الفكر والمعرفة والإنتاج الثقافي. وإذا كان المعهد قد ركز، وما يزال، على الجامعات وطلاب الدراسات العليا، والأساتذة والباحثين والمفكرين، فإنّ مدير المعهد، وأحد أبرز مؤسسيه، د. عبد الحميد أبو سليمان نقل حيز الاهتمام (في كتابه "أزمة الإرادة والوجدان..") إلى مرحلة مبكرة من العمر، وهي مرحلة الطفولة، التي تمتد في العقدين الأولين من عمر الإنسان.
يرى أبو سليمان أنّ "الطفل" هو الحلقة المفرغة في جهود الإصلاح الإسلامي السابقة، وأنّه الجندي المجهول الذي يجب التعويل عليه في الإصلاح المنشود، نظراً لأنّ الجيل الحاضر والسابق قد استغرقته الأمراض الفكرية والنفسية، بينما الأطفال هم الجيل المستقبلي القادم.
الأمة، كما يرى أبو سليمان، مبتلاة بنفسية العبيد، مسلوبة الإرادة والوجدان، وهي الحال التي يقاربها مع حالة بني إسرائيل عندما عجز الجيل المعاصر لموسى عليه السلام من تلبية استحقاقات الرسالة، فأمرهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة، حتى يخرج من أصلابهم جيل جديد يتخلّص من أعباء المرحلة السابقة وأمراضها، التي تحول دون قدرته على حمل الرسالة.
أمّا في واقعنا المعاصر؛ فإنّ الأسرة هي "سيناء هذا العصر" وهي التي يُعوّلُ عليها إنتاج جيل جديد يكون قادراً على القيام بعملية الإصلاح. ما يقتضي التركيز أولاً على الأطفال، ثانياً الاهتمام بالأسر وبالتربية وبتنمية وتطوير وازع الأباء والأمهات لإنتاج جيل جديد مختلف بالكلية، وثالثاً الاهتمام بالمدارس والمعلمين وتطوير المناهج بما يتلاءم مع الهدف الكبير بإنتاج جيل مستقبلي قادم.
بلا شك؛ لا تروق للكثيرين هذه المقاربة، وربما يراها البعض مثالية، إذ لا يمكن تناسي أو تجاهل الدور السياسي السلطوي في إفساد الجيل الحالي أو القادم. لكنها، أي هذه المقاربة، تبدو وجيهة وإيجابية في ظل حالة الانسداد السياسي الحاصل والاستعصاء السلطوي وضعف إمكانيات المجتمع العربي على المواجهة السياسية. عندها فإنّ الأولية تتجه إلى إعداد وتأهيل الإنسان والمجتمع، وهو ما يعيدنا إلى مرحلة الطفولة، المهمة والخطرة والمؤثرة من التشكل الفكري والوجداني، لكنها تضيع في زحمة الجعجعات السياسية التي تسرقنا منذ عقود بلا أي نتيجة حقيقية!
* نقلا عن الغد