"الثقافة" بين الحداثة وما بعد الحداثة

"الثقافة" بين الحداثة وما بعد الحداثة
الرابط المختصر

لم يعد ممكنا استمرار الفهم الذي قدمته الحداثة الغربية لمفردة "الثقافة" بعد الجهد الفكري الكبير لفلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية. فقد أدى انتشار مفاهيم مثل الخطاب وتشكيلات المعرفة / السلطة والسرديات الكبرى والسرديات الصغرى والمحاكاة والواقعية الفائقة إلى تحولات جذرية في المعاني والدلالات وطرائق المقاربة النقدية للثقافة. ويرى هيربرت غريبز أن التحول في مقاربة مفهوم الثقافة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة تمثل في الانتقال من البحث في المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع إلى مجال اللغة والنصوص الأدبية وغير الأدبية. يقول غريبز "لأن اللغة هي أكثر الأنظمة تعقيدا من الناحية الدلالية، فإن الخبرة المكتسبة من التعامل مع اللغة والنصوص اللغوية والأدب أبدت تأهيلا عاليا خاصة فيما يتعلق بالمقاربة الدلالية للثقافة. انتشرت هذه المقاربة، التعامل مع الثقافة بوصفها "أداء موحدا للنصوص" وشركا للنظام الدلالي، على نطاق واسع في السبعينات على يد كليفورد غريتز والأنثروبولوجيا الأمريكية الجديدة. وفجأة ظهر أولئك الذين كانوا خبراء في تأويل النصوص بوصفهم مؤهلين ليس لتأويل الأدب فحسب وإنما الثقافة أيضاً".

 

يمكن تحديد لفظة "ثقافة" قبل مرحلة ما بعد الحداثة من حيث كونها بنية ابستمولوجية ذات طابع جدلي تمثل وعياً معرفياً ينزع نحو إدراك الواقعي والحقيقي وتمثيله رمزيا ودلاليا وذلك من خلال توظيف الآليات الإجرائية للمنطق الفلسفي بمفهومة السببي والعقل العلمي التحليلي. وتعتمد الثقافة ضمن هذا المفهوم على عمليات التراكم المعرفي واستيعاب الإنجازات والإكتشافات العلمية والإسهامات النظرية والفلسفية، وتسعى مدفوعة بنوازع إنسانية نحو الارتقاء بالظروف البيئية والاجتماعية والعلمية والسياسية والمعيشية للإنسان على وجه الكرة الأرضية.

 

وتؤشر لفظة "ثقافة" ضمن ذلك المفهوم إلى حالة من "الانفصال العلمي لمجموعة من النشاطات المعنوية والعقلية عن قوة الدفع المنطلقة في مجتمع من نوع جديد". أي أنها تشكل نمطا من أنماط وعي الحقيقة يمثل استجابة واعية على مستوى الواقع المعاش.ويقدم الباحث الثقافي الإنكليزي البارز ريموند وليامز ثلاث معانٍ عامة ارتبطت بمفهوم الثقافة في مرحلة الحداثة وهي أولا : "حالة أو عادة عقلية عامة" ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة الكمال الإنساني، وغدت تعني ثانيا: "الحالة العامة للتطور الفكري، في مجتمع بأسره". والمعنى الثالث هو: "الكيان العام للفنون". وفي أواخر القرن التاسع عشر أصبحت تعني معنا رابعا وهو "طريقة شاملة للحياة مادية، وعقلية، وروحية".

 

وبصورة عامة فإن التغيرات تحدث عادة على المستوى الاجتماعي أو السياسي نتيجة حركية التفاعل الاجتماعي، ثم يتشكل وعي بتلك المتغيرات من خلال تأمل وتحليل عقلي يتم على مستوى أعلى، ثم يتبلور موقف من تلك المتغيرات سواء بقبولها وتكريسها أو تغييرها. فهناك تجربة حياتية معاشة وهي تشمل كل أفراد المجتمع على الإطلاق، وهناك وعي بتلك التجربة المعاشة من خلال عمليات الرصد والدراسة والتحليل، وهي تقتصر على فئة أقل نسبيا تسمى عادة  (بالأنتلجنتسيا). وتقوم هذه الفئة داخل المجتمع بعقلنة مفردات الوعي الجمعي وإضفاء "معنى" عليه وثم التعبير عنه بمستوى أعلى من المستوى الحي المباشر. ومن محصلة تراكمات الكتابات والدراسات والنظريات يتشكل نسيج الثقافة داخل المجتمع من عدة خيوط وبعدة ألوان. ومن هذا المنطلق أكدت الحداثة على دور النخبة في صياغة ثقافة المجتمع وأهمية الثقافة العالية أو الراقية في صياغة هوية ذلك المجتمع.

 

وبالرغم من ذلك، فقد طرحت معظم النظريات النقدية التي شكلت تيار ما بعد الحداثة مفهوما مغايرا تماما للثقافة. فلم تعد الثقافة جزء من البنية الفوقية للمجتمع مكتفية بكونها استجابة لطرق ووسائل الإنتاج الجديدة في المجتمع الصناعي.كما أنها ليست بنية سكونية تمثل "طريقة شاملة للحياة مادية, وعقلية وروحية ". لقد اكتسبت الثقافة فاعلية أكبر ضمن الفاعلية الاجتماعية في نظرية ما بعد الحداثة.

 

ويؤكد نقاد الثقافة في مرحلة ما بعد الحداثة على المكانة المركزية المهمة التي تحتلها الثقافة في الحضارة الإنسانية. أصبحت الثقافة مجموعة من الخطابات التي تحافظ على ديمومتها من خلال سلطة الخطاب وقدرته على إقصاء وتهميش الخطابات المضادة له داخل المجتمع. ولذلك فإننا نستطيع أن نجد أنماطا من الثقافة لا تتناسب والشرط الإنتاجي أو المرحلة الاقتصادية لمجتمعاتها. مثل استمرارية هيمنة الفكر الغيبي الميثولوجي على مجتمعات مدنية وصناعية، أو العثور على جذور للفكر العقلاني في مجتمعات إقطاعية أرستقراطية. غير أن هذا لا يعني انقطاع تلك البنية الابستمولوجية عن الواقع المادي بصورة نهائية. فالعلاقة الجدلية قائمة بين الشرط الاجتماعي والثقافة، ولا يمكن فهم المظاهر الاجتماعية والسياسية والفنية إلا بالأخذ بعين الاعتبار طبيعة تلك العلاقة الجدلية. ولكن هذه العلاقة لا تقوم على أساس وجود طرفين أحدهما أعلى والأخر أدنى، بل تقوم بين قطبين متقابلين واقعين على مستوى خطي واحد وإن اختلفا في نمط وجودهما.

 

يًعد المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي من أوائل المفكرين الذين أكدوا على مركزية الثقافية وأثرها في المجتمع، ونقل الصراع بين الطبقات الاجتماعية من المستوى المادي الاقتصادي إلى مستوى ثقافي أعمق بعدا وأعظم أثرا. أوضح غرامشي أن الأزمات الحقيقية التي تتعرض لها المجتمعات ليست اقتصادية بالأساس، ولكنها محصلة هيمنة الخطاب الثقافي المعبر عن طبقة اجتماعية متسلطة داخل المجتمع. فسر غرامشي أزمة المجتمع الايطالي في الثلث الأول من القرن العشرين بأنها أزمة فكر متخلف ورجعي يطرح رؤية تبريرية متجاوزة التناقضات الداخلية للواقع الاجتماعي. ويرى غرامشي: "أن قوة طبقة اجتماعية ثقافياً لا تقوم على إنتاجها الثقافي المرتبط بها كطبقة، بل في قدرة انتشارها الثقافي اجتماعياً، وفي استطاعتها أن تتحول إلى ثقافة قومية، أي في تحقيق هيمنة ثقافية لطبقة محددة تساوي قوتها هيمنتها". وبذلك نجد، حسب غرامشي، أن قوة طبقة اجتماعية معينة داخل مجتمعها لا تقوم على قوتها المادية والاقتصادية ولا على طبيعة الثقافة التي تشجعها فحسب، ولكنـ وبشكل أساسي ـ على قدرتها على نشر ثقافتها وفرضها اجتماعياً. وترتبط درجة الدور القيادي الذي تتمتع به تلك الطبقة بمدى هيمنة خطابها الثقافي. وبذلك يكون "دور الثقافة تحقيق الهيمنة، أي المساهمة في فعل سياسي يعيد صياغة الثقافة في إعادة صياغته للعلاقة الاجتماعية كلها". ومن هذا المنطلق لا تعود الثقافة نمطا من أنماط وعي الحقيقية أو سبيلا من سبل الارتقاء بالمستوى الفكري والمعيشي للإنسان، ولكنها تصبح وسيلة من وسائل تحقيق الهيمنة وفرض القوة داخل المجتمع. وهنا نلاحظ التقارب الكبير فيما يتعلق بمفهوم الثقافة ودورها في المجتمع بين فكر غرامشي وفوكو، رغم أن فوكو لم يشر إلى تأثير غرامشي على دراساته قط. ويؤيد الناقد والمفكر الفلسطيني ادوارد سعيد آراء كل من غرامشي وفوكو. ويرى سعيد بأن الخطاب يرتبط بالصراع السياسي والاجتماعي، ويخضع الجميع لسلطة الخطاب، وليس لمنطق الخطاب العقلي.

 

هيمنت فكرة العمل على كشف الأنساق المضمرة وتعرية الخطابات المؤسساتية والتعرف على أساليبها في ترسيخ هيمنتها وفرض شروطها على الذائقة الحضارية للأمة، على النشاط النقدي والنظري في ما بعد الحداثة. والأنساق الثقافية هي مكونات ذهنية أولية لشخصيتنا الثقافية والسلوكية تترسب في أعماق اللاوعي الجمعي لتشكل مضمرات إيديولوجية وتصبح فاعلة عبر الزمن وموجهة لسلوكنا الشخصي وممارستنا الاجتماعية ونتاجاتنا الثقافية. وهذه المضمرات تكون ما يعرف بالأصل الذهني في الوعي الجمعي الذي يعمل بوصفه نموذجا للقياس عليه ويجري الالتزام به. ويكون النسق متعاليا على الفكر النقدي العقلاني ومنغرسا في عمق الثقافة القومية وبعيدا عن النقد والمساءلة. ويحافظ النسق أو المضمر الذهني على ديمومته وفاعليته من خلال عملية إعادة إنتاج ذاته بأشكال واليات متعددة ومتنوعة داخل الثقافة، ومن خلال تراكمات نصوصية ينوجد داخلها بوصفه دلالة مضمرة بعيدة عن مناطق الوعي العقلاني أو النقدي المباشر. ويعد هذا التصور لمعنى الثقافة الأساس النظري الذي قامت عليه مدارس نقدية وأدبية مهمة مثل النقد النسوي ونقد ما بعد الكولونيالية ونقد الأقليات السود في أمريكا.

 

يقابل مفهوم النسق الثقافي، وإن بصورة عامة, مفهوم السرديات في فكر ادوارد سعيد. ويختلف مفهوم السرديات عند سعيد عن تعريف ليوتار للسرديات الكبرى. كما يوظف سعيد مصطلح السرد توظيفا مغايرا تماما عن الدراسات البنيوية السردية. فقد ربطت الدراسات البنيوية السردية بين "القص" و"السرد"، وركزت على دراسة الأدب السردي المتخيل. وأنشأت عليه حقلا نظريا وتطبيقيا عرف "بالسرديات" وهو فرع من حقل نقدي أشمل وأعم يعرف "بالشعرية". انشغلت السرديات البنيوية بدراسة المستوى التركيبي للنص بوصفه بنية جمالية منقطعة عن السياق، وشملت تطبيقات النقد السردي الحديث للنصوص الروائية والقصصية الحديثة والتراثية على حد سواء. أما إدوارد سعيد فقد وظف مصطلح "السرد" بوصفه " تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه، كما يصوغها بقوة وفاعلية خاصيتان هما: فهم الحاضر للماضي، وانتهاج تأويله له. ومن هذا الخليط العجيب، تُنسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة، وتوجه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا ".

 

وقد نقل سعيد هذا المصطلح من حقل الدراسات البنيوية إلى النقد الثقافي وجعله مدخلا أساسيا لدراسة وتحليل السياق الثقافي. أصبحت السرديات تعني منظومة من المفاهيم تتداخل فيها مكونات " الدين واللغة والعرق والأساطير والخبرة الشعبية وكل ما تهتز له جوانب النفس المتخيلة. غير أن ما هو الآن حقيقة تاريخية يمثل الأمة وتاريخها في وعي الذات الجماعية، لا يخرج بهذا المعنى عن كونه متخيلا ". وبذلك تتحول الأمم نفسها إلى سرديات، ويتحول الصراع، ليس داخل المجتمع الواحد فقط، بل حتى بين الأمم، إلى "القوة على ممارسة السرد، أو على منع سرديات أخرى من أن تتكون وتبزغ... ويبلور سعيد وجها خطيرا للسرديات يتمثل في تشكل سرديات رسمية لتاريخ معين ثم سعيها الدائب إلى منع سرديات مغايرة من الظهور". والسرديات الرسمية عند ادوارد سعيد تقابل الخطاب المؤسساتي أو خطاب السلطة عند مشيل فوكو.

 

وهكذا ينهار المعنى التقليدي للثقافة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي ليحل محله معنى يقوم على نسبية الحقيقة وغياب الموضوعية التجريدية ورفض النزعة الإنسانية والمثالية. فالوعي الجمعي لجماعة بشرية أو مجتمع ما لا يمثل إدراكا موضوعياً لمفردات الواقع، بقدر ما هو تراكمات لمضمرات أيديولوجية وأنساق ذهنية تشكل بنية ثقافية تنتج تصورا خاصا لهذا الواقع. وغالبا ما يكون هذا التصور متحزبا أو منحازا وساعيا إلى فرض نفسه بالقوة والهيمنة. أي أن "الخطاب" داخل أي ثقافة يكاد يكون في أغلب الأحيان تلفيقيا وزائفا ينزع نحو ممارسة سلطة قوة تعمل لصالح الفئات المهيمنة اجتماعياً. ولعل من أبرز المظاهر السائدة في الثقافة المعاصرة للتعرف على طبيعة التوجه الثقافي أو السياسي في مجتمع معين، وضمن مدة زمنية محددة، هو ما عرف "باستطلاعاًت الرأي". وهي فعالية تتداخل فيها النشاطات الإعلامية والثقافية والسياسية والاجتماعية بشكل كبير. وتكتسب استطلاعاًت الرأي أهميتها في المجتمع الحديث من افتراضها المسبق وجود شبه إجماع ضمني على كونها أداة محايدة وناجحة للكشف عن حقيقة الموقف الجماهيري وبصورة ديمقراطية تجاه ظاهرة معينة. تصدى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعروف بيير بورديو لهذه الظاهرة بالدراسة والتحليل، وتوصل إلى أن ظاهرة "الرأي العام" هي ظاهرة مفتعلة ومصطنعة لخدمة أهداف سياسية، و" بالتحديد، لخدمة الفئات المهيمنة اجتماعياً. فمن خلالها، تحاول هذه الفئات تثبيت مواقعها أو تقويتها، أو إبعاد أي مخاوف أو مخاطر تهددها،أو التأكيد على سياسة معينة أو برنامج معين أو التأكيد على شرعيتها".

 

ويؤكد بورديو، في السياق نفسه، أن ظاهرة "الرأي العام" نفسها قد تصبح تعبيرا عن شكل للهيمنة الاجتماعية والثقافية بدلا من كونها أداة ديمقراطية.

 

ومحصلة لكل تلك المقولات النظرية لما بعد الحداثة أصبح من الطبيعي ترادف مفردات مثل "القوة" و"الهيمنة" و"الثقافة" و" المعرفة". ويشير الباحث وليم غراسي إلى أن مهمة الباحث ما بعد الحداثي أصبحت تقوم ـ وبشكل أساسي ـ على "إظهار كوكبات القوة- المعرفة المخفية بشكل مؤقت دون إنشاء تأويل تفسيري جديد يصبح ماديا بصيغة نظرية إجمالية جديدة ".

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني