التكليف بتشكيل حكومة تكنوقراط وبيان الفصائل الأربعة
جاءت استقالة حكومة د. محمد اشتية وتكليف د. محمد مصطفى على خلفية الحديث عن اليوم التالي للحرب على غزة، والدعوة من قبل جهات دولية على رأسها أمريكا إلى "تجديد" السلطة الفلسطينية، لكي تكون مؤهلة لتحمل المسؤولية في القطاع في اليوم التالي لوقف القتال، علماً أن تحمل المسؤولية في القطاع هو شأن فلسطيني، لا يخضع للإملاءات الخارجية، وأنه سواء انتهت الحرب بوقف لإطلاق النار وبقاء المقاومة أو انتهت بشكل أتاح لإسرائيل الادعاء بأنها هزمت المقاومة، فإن أحداً لا يستطيع تجاهل مكونات المقاومة بفصائلها المختلفة وعلى رأسها حماس، لأنها ستبقى متجذرة بين أبناء شعبها في القطاع، وتستطيع إنجاح أو افشال أية صيغة يمكن أن تفرض على القطاع طوعاً أو كرها، وبالتالي فإنه يجب أن يكون لها دور في أية توليفة للحكم كائنة ما كانت.
وقبل الخوض في ملابسات وفرص التغيير الوزاري، فإنه لا بد من التوقف عند ما يحدث في غزة، وهل نحن عشية توقف للحرب؟ وتمكين طرف فلسطيني من تحمل مسؤولية إزالة آثار العدوان وإعادة إعمار غزة؟ أم أن هناك احتمالا بأن لا تعود غزة ثانية للحضن الفلسطيني.
غزة بين استدامة الاحتلال والعودة للحضن الفلسطيني
الانطباع الذي يمكن أن يخرج به أي مراقب سياسي يتابع ما يجري في القطاع، هو أن إسرائيل تعمل بجد من أجل بقاء طويل الأمد في القطاع، تمهيدا لتغيير التوازن الديموغرافي فيه، بتهجير الفلسطينيين وإعادة الاستيطان الى قطاع غزة وبشكل مكثف لم يسبق له مثيلا، وتطبيق خطط ومشاريع استثمارية كالاستيلاء على حقول الغاز القريبة من شواطئ غزة وشق قناة تربط بين البحرين الأحمر والأبيض، تكون بديلاً لقناة السويس وإقامة مدن سياحية وغير ذلك.
وهذا المخطط الإسرائيلي واضح ومعروف للإدارة الأمريكية التي تمر الآن في مرحلة انتقالية عشية الانتخابات الرئاسية القادمة في تشرين الثاني هذا العام، ولذا فإن الإدارة الأمريكية الحالية يتنازعها أمران:
الأول، محاولة الظهور بمظهر الحريص على عدم تغيير الواقع في القطاع ومنع تهجير سكانه، ومنع إعادة الاستيطان اليه، والرغبة فقط في انهاء سيطرة حماس على القطاع وتسليمه لإدارة فلسطينية، قد تكون السلطة الفلسطينية، ولكن بعد ادخال إصلاحات جذرية عليها تثبت للعالم قدرتها على تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة وفق المعايير الأمريكية وتحظى بموافقة ودعم بعض الجهات المتنفذة في الإقليم بما في ذلك اسرائيل.
والثاني، تيار آخر في الإدارة الأمريكية يطمح الى إعادة سيناريو ما فعلته أمريكا في سوريا واستيلائها على حقول النفط في الشمال السوري واستغلالها. وهذا التيار يترقب ما بعد الانتخابات الامريكية، ويقيم حساباته على أساس الفوز المتوقع للرئيس السابق دونالد ترمب وعودته الى البيت الأبيض، وعندها تستطيع إسرائيل اللعب بأوراق مكشوفه لتطبيق خطتها آنفة الذكر، بمباركة إدارة ترمب وتواطؤ جهات إقليمية تطمح لأن ينالها نصيب من غاز غزة.
وبالأخذ بعين الاعتبار السيناريوهات آنفة الذكر، فإن احتمالات عودة الحكم الفلسطيني الى قطاع غزة تبدو في خطر، وأن هذا الخطر يستوجب على كافة الفصائل الفلسطينية أن تكف عن الحوارات العبثية ورفع الشعارات والمزايدة على بعضها البعض، وأن تتحمل مسؤولية افشال ما يحاك من خطط لاستدامة احتلال إسرائيل للقطاع وتهويده وتحويله الى مستعمرة استثمارية إسرائيلية أمريكية، لكي يبقى جزءاً لا يتجزأ من أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية.
إفشال مخطط استدامة احتلال القطاع
وافشال المخطط الاستيطاني التوسعي الإسرائيلي وانتزاع القطاع من بين أنياب الاحتلال وشركائه المحتملين هو الذي يجب أن يتمحور حوله العمل الوطني الفلسطيني، وليس الاقتتال حول من سيحكم غزة، فتح أو حماس، أو حتى كل الفصائل الفلسطينية، لأن أمر حكم غزة فلسطينياً من جديد هو أمر موضع تساؤل كبير وتحفه المخاطر الجدية، ولا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل الوطني المشترك وعلى كل الأصعدة.
لقد اطلعت قبل يومين على بيان أصدرته أربعة فصائل فلسطينية رئيسية على الساحة، وهي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية جاء فيه:
" تشكيل حكومة جديدة دون توافق وطني هي تعزيز لسياسة التفرد وتعميق الانقسام في لحظة تاريخية فارقة، أحوج ما يكون فيها شعبنا وقضيته الوطنية الى التوافق والوحدة وتشكيل قيادة وطنية موحدة، تحضر لإجراء انتخابات حرة ديمقراطية بمشاركة جميع مكونات الشعب الفلسطيني".
وأقول بأن أحداً لا يختلف حول حاجة شعبنا الماسة الى التوافق والوحدة وتشكيل قيادة وطنية موحدة، ولكن السؤال الكبير الذي يحب على كل الفصائل أن تجيب عليه هو: كم عدد المرات التي تمت فيها لقاءات لأمناء الفصائل أو ممثليها للتداول في هذه المطالب، وكم عدد عواصم العالم التي استضافت مثل هذه الحوارات الوطنية وفي فترات مختلفة على مدى السنوات الماضية، وكم هي المبالغ التي أنفقت على سفريات الوفود الى هذه العواصم، وكم بقي من عواصم العالم التي لم تذهب الوفود اليها في لقاءاتها الحوارية – السياحية، وكم نحتاج من اللقاءات القادمة لتحقيق ذلك، وكم من الوقت حتى نصل الى نتيجة ؟!
هل ننتظر جولات حوار وطني قادمة
اذا لم تكن الحرب على غزة ونتائجها المدمرة على الأرض حتى الساعة سبباً لاتفاق الفصائل فإن من المؤكد أن التوافق والاتفاق الذي يتحدث عنه بيان الفصائل الأربعة هو ترف، لا يستطيع شعبنا تحمل مخاطر الانتظار الى حين أن يتحقق. وأكثر من ذلك، هل قرار الحرب التي يدفع شعبنا ثمنها هذه الأيام اتخذ بالتوافق والوحدة، ومن قبل قيادة وطنية موحدة أم كان هو أيضا تفرداً في القرار وضع شعبنا أمام نتائج كارثية لم تتوقف نتائجها بعد عن التدحرج نحو المجهول.
وصحيح أيضاً وكما جاء في بيان الفصائل الأربعة بأن "الأولوية الوطنية القصوى الآن هي لمواجهة العدوان الصهيوني الهمجي وحرب الإبادة والتجويع التي يشنها الاحتلال ضد الشعب في قطاع غزة، والتصدي لجرائم مستوطنيه في الضفة الغربية والقدس المحتلة وخاصة المسجد الأقصى، وللمخاطر الكبيرة التي تواجه قضيتنا الوطنية وعلى رأسها خطر التهجير الذي لا يزال قائما." ولكن هذه المواجهة لا تملك ترف الانتظار لحين انتهاء جولات الحوار والتوصل الى اتفاق مسبق بين الفصائل التي اتفقت على ألا تتفق.
حكومة التكنوقراط وفن الممكن
نحن اليوم أمام تحد كبير، يتمثل أولاً في مواجهة حقيقة أن سوء الأداء الفلسطيني منذ الانقسام عام 2007 وتداعي الأسس الديمقراطية في جناحي الوطن بالضفة والقطاع على حد سواء، وتعطيل المجلس التشريعي والدمج بين السلطات، أدى الى تفشي الفوضى والفساد الإداري والمالي، وأعطى الفرصة لإسرائيل وأعوانها لتشويه صورة السلطة واغتيالها معنويا، مما يتطلب، ومن أجل مواجهة المستجدات التي أفرزتها الحرب على غزة، إعادة صياغة السلطة، وبشكل يدحض الصورة النمطية الموجودة الآن، وهي صورة سلطة متداعية هرمة فاسدة، أبعد ما تكون عن الحكم الرشيد وسيادة حكم القانون.
ولا شك بأن تشكيل حكومة تكنوقراط جديدة، هي خطوة في اتجاه تغيير رأي العالم في السلطة الفلسطينية، وإعادة المصداقية الدولية لها، ولكن إعادة المصداقية الدولية للسلطة وتغيير الانطباع الموجود لدى العالم بأنها سلطة فاسدة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال اتخاذ الحكومة الجديدة لخطوات جذرية وأساسية للإصلاح. وهذه الخطوات لن تكون ممكنة إلا اذا توفر لها الغطاء الوطني من الجميع.
ومن أجل ذلك فإن على كل الفصائل وبدون استثناء أن تضع جانباً كل الشعارات والكليشيهات التي جابت بها عواصم العالم من جوهانسبورغ الى موسكو مرورا بالعديد من العواصم الأخرى وأن تعمل بشكل براغماتي فيما يسمى فن الممكن. وفن الممكن هو فتح قنوات مع رئيس الوزراء المكلف الدكتور محمد مصطفى والمشاركة الإيجابية بالتوافق معه، وبدون ضجيج اعلامي، على اختيار الأشخاص الفنيين من ذوي الاختصاص والخبرة والسمعة الحسنة والمصداقية لكي يعملوا معه للقيام بعملية اصلاح جذري شامل من أجل إعادة الاحترام والمصداقية للسلطة الوطنية على الصعيدين المحلي والدولي، والتحضير بنفس الوقت لإجراء انتخابات حرة ديمقراطية بمشاركة جميع مكونات الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق الهدف الذي فشلت كل جولات الحوار في تحقيقه.