التقدم الملموس في وسائل النقل العام وتأثيرها في القضاء على التحرش

الرابط المختصر

هل سبق لكِ أن ترددتِ في ركوب سيارة أجرةٍ في الليل؟       

هل سبق لكِ أن انتظرتِ مطولاً في حافلة انتظاراً لوصول بقيّة الرُكاب؟

وهل سبق لكِ أن اتخذتِ تدابير أمنية تحسباً لأسوأ السيناريوهات؟

 

إذا كانت إجابتكِ نعم، فأنتِ لست وحدك! 

اعتماد وسائل النقل العام في التنقل للنساء يجلبُ عادةً مخاوف من التحرش اللفظي أو الجسدي.، فهذه السيناريوهات والتصورات متأصلةٌ في مخيّلة النساء بطبيعة الحال، ضمن رحلة بحثهنّ عن فرص تعليمٍ وعملٍ لِمستقبل أفضل، بل وحتى ضمن ممارسة أنشطتهنّ اليومية الاعتيادية.

في هذا المقال نُلقي نظرةً فاحصةً حول هذا الموضوع في محاولة تفكيك هذه التصورات عبر قصصٍ وشهاداتٍ لِنساءٍ أردنيات خلال فتراتٍ زمنيةٍ مختلفة.

 

ماضٍ ليس ببعيد...

تحدثنا إلى مجموعةٍ من النساء الأردنيات اللواتي يعملن في مناحٍ مختلفة، حول تجاربهن لنظام النقل العام في الأردن قبل عشرين عاماً.   أبلغتنا شادية، والتي تبلغ 42 من العمر، أنّ البلاد كانت في ذلك الوقت في حاجةٍ ماسةٍ إلى شبكة مواصلاتٍ عامةٍ موثوقة، إذْ كان يُعرف عنها بأنها تفتقر إلى التنظيم والإشراف المؤسسي. 

"أتذكر أنني في يومٍ من الأيام بالكاد استطعت اللحاق بالحافلة للذهاب إلى الجامعة، أخذت المقعد الذي بجوار النافذة وبدأت في مراجعة امتحاني. أُخِذتُ على حين غرة عندما شعرت بيدٍ تتحسس خاصرتي، نظرت حولي ولم يكن هناك أحدٌ يلمسني، فاستأنفتُ دراستي، حينها شعرتُ بِمزيدٍ من الضغط ورأيت أن تلك اليد كانت للرجل الجالس بجانبي. نزلت من الحافلة على الفور!

أعتقد أنني تصرفت على هذا النحو لأنني كنت مصدومةً للغاية من أن هذا يمكن أن يحدث لي، وكنت أكثر صدمةً من جرأته التي لم أعهدها من قبل". 

وأضافت شادية أن هذه التجربة لم تكن الأخيرة، فقد تعرضتْ لمحاولات مُضايقةٍ متكررة بعد ذلك بسنواتٍ قليلة عندما كانت تذهب إلى عملها. "بِحلول الوقت الذي أصل فيه إلى عملي أكون قد استُنزِفت، وكل رغباتي بالنجاح تبخرت واحدةً تلو الأخرى؛ وعند النظر عن قرب، وجدتُ طموحي ذاهباً أدراج الرياح".  

الأمل في حاضرٍ أفضل...

هذه امرأةٌ أخرى، هند، ذاتُ الثلاثة والعشرين عاماً. هند تعتبر نفسها محظوظةً للغاية لأنها نادراً ما تواجه أي شيءٍ يتعدى الصفير أو بعض الكلمات المزعجة. "لقد تخرجتُ للتو من الجامعة وقضيت خلال خمسةَ أعوامٍ خلال تجربتي الجامعية أتنقّلُ يومياً من محافظةٍ إلى أخرى عبر الحافلات العامة. لن أقول إنها كانت الطريقة الأسهل والأكثر ملاءمة، لكنني تمكنتُ من ركوب الحافلات في وقتٍ متأخرٍ بعد الانتهاء من المختبرات أو الامتحانات".

 

 

تماماً مثل جميع التجارب المشتركة للنساء، قصص هند وشادية قابلةٌ للخضوع والمقارنة؛ فبينما أمضت شادية سنوات دراستها الجامعية تراقب الطرقات وتنظر من خلفها، لم تواجه هند انعدام الأمان المؤرِّق ذاته. كما أننا تحدثنا إلى غدير، ذات الخمسة وثلاثين عاماً، والتي قضت زمناً أطول من هند وأكثر انتظاماً من شادية باستخدام المواصلات العامة للتنقل اليومي.

"أتذكر عندما كنت أستقلُّ حافلةً أو سيارة أجرة حين أتأخر عن عملي، كانت مشكلتي الأكبر مع سائقي سيارات الأجرة، إذْ أنني كنت أجلس مرتاحةً نوعاً ما في الحافلات، لأنني نادراً ما كنت وحدي، وكان من السهل عليّ أن أقوم بِردة الفعل الصحيحة إن حدث شيء. أصبحت تجربتي مريحة وملائمة مع تطور التكنولوجيا وبدء استخدام خدمات النقل عبر التطبيقات الذكية، ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه التطبيقات  جزءاً معتمداً من قطاع النقل في مجتمعاتنا، لِكونها أكثر أماناً وتخضعُ لرقابةٍ إضافية، وأنها مقبولةٌ اجتماعياً للتنقل في المساء للفتيات والنساء". 

تفسر شهادة غدير مثل هذا التغيير المجتمعي الكبير الذي يحدث في وقتٍ قصيرٍ كأنه انتقالٌ بين عقدين من الزمن، فَتطبيقات مثل كريم وأوبر تخضع لِمُراقبةٍ شديدة، مع فرصٍ لتقييم وتقديم ردود الفعل، كما أنها توظف سائقاتٍ نساء ما يمكّن لمثيلاتهنّ التنقل دون خوف.

ولا يتوقف التطور الملحوظ في هذا القطاع عند هذا الحد، فإطلاق حافلة عمان للنقل السريع التابعة لشركة "باص عمان"، بِتصميمها الواسع الذي يمنع الاكتظاظ، وبنظام المراقبة عبر الكاميرات الموجود فيها، إلى جانب اتصالها بتطبيقات الهاتف المحمول وجدولتها، جعل المواصلات العامة ذات طبيعةٍ أكثر أماناً مما أثر على جعل التنقل اليومي أكثر سهولة.

 قالت لي زميلةٌ في العمل عند نقاشنا عن الوضع الحالي للنقل في الأردن: "تقع محطة الحافلة على بعد خمسِ دقائق سيراً على الأقدام من مكان عملي. قبل إطلاق التطبيق، لم أكن أعرف متى ستصل الحافلة، كنت أنتظر في طوابير طويلة تحدث فيها المضايقات على الدوام.  الآن، أراقب الحافلة عبر الخريطة وأترك المكتب فقط عند اقترابه".

تباين جودة النقل بين المحافظات

تتباين جودة ونوعية خدمات النقل بين المحافظات، فَعلى الرغم من أنّ العاصمة عمان وغيرها من المدن المركزية يمكن ملاحظة التطور الحاصل على نظام النقل فيها، إلا أن بعض العيوب لا تزال قائمةً في المحافظات الأخرى. لمعرفة المزيد عن هذا التباين، تحدثنا مع مجموعةٍ من الشابات من محافظات مختلفة.  البلقاء والكرك.

أمل، البالغة من العمر 16 عاماً وتسكن في منطقة المزار في الكرك، تقضي وقتها بعد المدرسة في نادٍ يقدم أنشطة غير منهجية يبعُد 40 دقيقة عن منزلها. وللوصول إلى النادي يتعيّن عليها أن تستقل الحافلة أو أن تستخدم تطبيق الهاتف المحمول الوحيد العامل في الكرك. تقول أمل "في بعض الأحيان لا مفر من التحرش اللفظي. كنت أعتقد أن السبب هو عدم ارتدائي الحجاب، لكن ذات يوم كنت قد ارتديت الحجاب للذهاب إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وعلى الرغم منه تم التحرش بي، فاتضح لي أن مظهري وما أرتديه ليس لهما أي تأثيرٍ على الموقف."

وأضافت "منحتْ سيارات تطبيق الهاتف المحمول والديّ راحة البال، إذْ يمكنني إرسال موقعٍ مباشرٍ لهم، إلى جانب معلومات السائق، ولكن في مجتمعنا العشائري إذا كنت سأعود إلى المنزل ليلاً، فمن غير المريح العودة إلى المنزل في سيارةٍ خاصة بدلاً من النزول من الحافلة العامة".

من ناحيةٍ أخرى، فإن مشكلة سلمى الرئيسية ليست التنقل داخل الكرك بل التنقل بين الكرك وعمان. "أقوم بالتنسيق والحجز المسبق مع إحدى سيارات النقل العام من الكرك إلى عمان، ولكن عندما يحين وقت العودة، لا تظهر السيارة التي نسقت معها، ويرسلون لي سيارةً خاصة مع سائقٍ مختلفٍ لاصطحابي؛ ومع عدم وجود بديلٍ متاح، أغامر بالركوب. الاضطرار إلى التنقل بين المحافظات في سيارةٍ مع أربعة غرباء يجعلني غير مرتاحة، بينما في داخل الكرك، أستخدم تطبيق الهاتف المحمول، رغم أنه غير مرخص، إلا أنه يبسط حياتي. أعتبر نفسي محظوظةً للغاية، فَمُعظم تجاربي في قطاع النقل إيجابية ونادراً ما أتعرض للتحرش الصريح".

بالنسبة لِشابةٍ أخرى، آية، تمتد تجاربها في النقل في الكرك على مراحل مختلفة من حياتها. "عندما كنت أدرس في الجامعة وخاصةً في أيام الامتحان، إذا استغرق الباص وقتاً طويلاً للانطلاق وكنا أنا وزميلاتي قلقاتٍ بشأن عدم اللحاق بامتحاناتنا، كنا ننزل من الباص ونركب تكسي أصفر، المشكلة أن سائق وكونترول الباص يسيئون لمن تغادر لفظيًا، وينتقدون ملابسنا، وفي حالات متعددة، يمنعوننا من ركوب الباص في الأيام التالية".

بعد تخرجها وانتشار جائحة كوفيد-19، ومع حظر التجول الحاصل آنذاك، أصبح التنقل من الكرك شبهَ مستحيل، ما دفع مجموعةً من الشباب الحاصلين على تصاريح النقل بترتيب خطةِ عبورٍ تسهّل على النساء اللواتي يعملن في عمان التنقل بين المحافظتين. تقول آية: "إن الشباب الذين أطلقوا الفكرة كانوا جديرين بالثقة، ولكن مع انضمام المزيد من السائقين، تحول الأمر إلى نوعٍ من السمسرة، وفي النهاية توقفت السيدات عن تمييز ما إذا كان السائق موثوقاً بما فيه الكفاية.

وتابعت قائلةً: "بدأتُ في استخدام تطبيق الهاتف المحمول بعد إطلاقه، ومع ذلك، نظراً لأنه كان غير مرخص، طلب مني السائقون عدة مرات الجلوس في المقعد الأمامي حتى لا ينتبه رجالُ الشرطة أنهم  يعملون بشكلٍ غير مشروع، مما يعرضهم للمخالفة. وبما أننا نعيش في مجتمعٍ تقليديٍ للغاية تعرف فيه جميع العائلات بعضها البعض، فقد يكون أمراً معيباً أن تجلس فتاة في المقعد الأمامي لسيارةٍ خاصة مع رجلٍ لا تعرفه، وذلك لسببين اثنين: أولاً، قد يفترض السائق أنها بحسب المصطلح المتعارف عليه "سهلة" وقد تمتثل لأي طلبات أخرى قد يقدمها. وثانياً، أنّها قد تُتهم زوراً بأنها على علاقةٍ به أو أنها تعود إلى المنزل كل يوم في سيارةٍ مختلفة. وبالرغم من ذلك، لا يمكن الإنكار أن التطبيق جعل النقل أسهل ويمكن مراقبته، فضلاً عن أنه قابلٌ للتتبع".

تخبرنا آية أن سيارات الأجرة الصفراء في الكرك متوفرةٌ فقط في المناطق المركزية. لذلك، في حالة الحاجة إلى مغادرة المنزل، سيتعين عليك الاتصال بمركز التاكسي لترتيب سيارةٍ لاصطحابك. نتيجةً لذلك، يفتح السائقون العداد بمجرد انطلاقهم من المركز، مما يعني أن المبلغ الذي تدفعه هو ضعف ما تنفقه عادةً. "أيضاً، أشعر بعدم الارتياح الشديد عندما يحفظ السائقون نقاط الركوب والوصول الخاصة بي، أو عندما يحفظون اسمي ورقمي، مما يدفعني إلى تغيير نقاط الالتقاء الخاصة بي في كل مرة".

في البلقاء الوضع لا يختلف كثيراً عن الكرك، فالحافلات العامة متاحةٌ في الصيف حتى الساعة السابعة مساءاً، وفي الشتاء حتى الرابعة والنصف. وفقاً لسارة التي تنتقل بانتظام من مدينة السلط إلى جامعتها ومساحة الشباب التي أسستها في عمان: "لا تلتزم حافلات السلط بخطوط النقل الخاصة بها، لذلك إذا كانت الحافلة هي السلط-عمان، فإنها ستعمل على مرحلتين، السلط صويلح ثم صويلح-عمان، وذلك لاستغلال الركاب ومضاعفة الرسوم. كما أنهم يقومون بتحميل ركابٍ بما يتجاوز حمولة الحافلة. علاوة على ذلك، وبدون أي اعتبار لمساحتنا الشخصية، فإنهم يضغطون علينا بالكلام و الذي قد يصل حد الإساءة، حتى نوافق على مشاركة مقاعدنا مع الركاب الآخرين. وفي حالاتٍ أخرى، عندما يقوم الكونترول بجمع النقود في الحافلة، يتقصد لمس أيدي الفتيات".

"التكاسي الصفراء ليست أفضل بكثير، فغالباً ما يقود السائقون بسرعةٍ كبيرة، ويقومون بتدخين السجائر وتشغيل الراديو بصوت عالٍ، وإذا قامت فتاةٌ بمطالبتهم بتخفيف السرعة أو فتح النوافذ، يتم الإساءة إليها بشكلٍ أو بآخر. كما أنهم يقومون بالسماح لِراكب آخر بالركوب دون أن يطلبوا الموافقة من الراكبة بحجة أن الوجهة في نفس الطريق".

أشارت سارة إلى أنه على الرغم من وجود تطبيقات هاتفية متعددة تعمل في السلط، إلا أنه عند محاولتها طلبَ سيارة، فإن التطبيق يعرض عدداً قليلاً من السيارات المتاحة في منطقتها، بالإضافة إلى توقف السائقين عن تلقّي طلبات الركوب بعد ساعات محددة. وتابعت سارة: "نضطر لحجز السيارات الخاصة التي تعمل كوسيلة نقلٍ غير رسمية، خاصةً يوم الجمعة عندما يكون هناك عددٌ قليلٌ جداً من الحافلات التي تعمل في الصباح الباكر فقط".

كيف يفيد القضاء على التحرش البيئة؟ 

إذا تم الحد من التحرش في وسائل النقل العام إلى الحد الأدنى، فذلك من شأنه أن يحفز الثقة من جديد بين الناس لتبنّي استخدامهم تلك الوسائل بشكلٍ أكبر؛ كما أن استخدام وسائل النقل الجماعي مثل الحافلات سَيحد من استخدام السيارات للتنقل، وبالتالي تقليل استهلاك الوقود وتخفيض البصمة الكربونية للأردن، وعليه ضمان إحداث تأثيرٍ إيجابيٍ واضحٍ على البيئة.

هذا ليس مجرد كلامٍ افتراضي، ففي أكتوبر عام 2023، تم الإعلان عن عمان أولَ عاصمةٍ بيئيةٍ في الشرق الأوسط. أعقب ذلك الإعلان عن شراكة البعثات الدبلوماسية في الأردن مع أمانة عمان الكبرى لتعزيز المبادرات التي تقلل من البصمة الكربونية للبلاد، لضمان عاصمةٍ أكثر خضرةً ونظافة. 

 

القضاء على التحرش يعزز المشاركة الاقتصادية للمرأة 

إن القضاء على ظاهرة التحرش في وسائل النقل يمكّن النساء من الانتقال بأمانٍ إلى أماكن عملهنّ بدون خوف من أنْ يجدن أنفسهنّ في مواقف قد يتعرضن فيها للخطر. فَلَكَ أن تتخيل أن تجربة شادية في تنقلها نحو العمل كانت سبباً مقنعاً لتركها وظيفتها!  

من خلال البحث الأولي الذي أجراه برنامج "هي تقود" سلّطت العديد من الشابات الأردنيات والسوريات الضوء على التحرش كَأحد الصعوبات التي تُعرقلهن في حياتهنّ اليومية. "يضاف نقص وسائل النقل في المساء، ولا سيما بالنسبة للنساء اللاتي يعملن في وقتٍ متأخر، إلى حقيقة الافتقار لوسائل نقل كافية للأشخاص الذين يعيشون في أماكن أو قرى بعيدة".

يقدم البحث توصياتٍ رئيسيةً لِمُختلف الجهات المسؤولة، بما في ذلك المنظمات الدولية غير الربحية، لِمُناصرة وتأييد نظام نقلٍ آمنٍ  للنساء من وإلى أماكن عملهن، مع تمويل ودعم مشاريع البنية التحتية. ومن بين التوصيات الأخرى التي  تم تقديمها: وضع سياساتٍ فعّالة، تنظيم التشريعات، زيادة القدرة التنافسية للقطاع وتشديد الرقابة على حافلات "الكوستر". 

وفي أحدث تقريرٍ للاستعراض الدوري الشامل لممثّلي الأردن في الأمم المتحدة، تمت التوصية بأن توفر الحكومة الأردنية بيئة عملٍ مواتية للمرأة، بما في ذلك نظاماً مناسباً للنقل العام.

في نهاية المطاف، ستُساعد الجهود المكّرسة للقضاء على التحرش في وسائل النقل العام، دولة الأردن على تحقيق أهداف التنمية المستدامة – الرابعة، الخامسة، الثامنة، الثانية عشرة والثالثة عشرة- والتي سيكون لها تأثير طويل الأجل على الناتج المحلي الإجمالي للأردن.

 

إخلاء المسؤولية: تم تغيير جميع الأسماء وتفاصيل الهوية لحماية خصوصية الأفراد.