التعديل الوزاري وأفق 2009
بعد أن اجتاز سنته الأولى كرئيس للوزراء في وضع شعبي وسياسي مريح , يستعد المهندس نادر الذهبي لاجراء تعديل واسع على حكومته أواخر الشهر القادم على أقل تقدير بعد أن حصل مؤخرا على الضوء الأخضر من الملك عبد الله الثاني, بحسب ساسة ومسؤولين.
وبرأي هؤلاء, فالرئيس بات على قناعة تامة بأنه بحاجة ماسة إلى فريق وزاري
أكثر تجانسا ولياقة, يعينه على التعامل مع جملة تحديات قادمة بما فيها
انخفاض الايرادات الضريبية والجمركية بسبب الانكماش المتوقع في قطاعات
اقتصادية أساسية بفعل الأزمة المالية العالمية.
لكن المفارقة الأهم هذه المرة تتمثل, حسبما يتردد, في رغبة الملك بالإذن
للذهبي باعادة هيكلة حكومته علما بأن الملك كان يتململ في حكومات سابقة من
كلمة "تعديل وزاري" لقناعته بأن طالبها يسعى لخدمة أجندته الشخصية وضمان
البقاء لفترة أطول في الحكم.
يقال بأن الملك هذه المرة بادر لمنح الذهبي إشارات للاستعجال بإجراء
التعديل لقناعته بالاسلوب المهني الذي يدير فيه الرئيس ملفات الحكومة
واسناده لضمان استمراره بنفس الزخم المنتج.
يساند هذا الموقف الملكي تيار نيابي وإعلامي وساسة, بوزن العين طاهر
المصري, رئيس الوزراء الأسبق, الذي قال في مقابلة مع "العرب اليوم" إن
تعديل الحكومة بات مطلبا متكررا "نابعا من احترام الناس للرئيس الذهبي
ورغبتهم في ضمان استمراره لفترة أطول من خلال ادخال وجوه سياسية لها
امتدادات شعبية إلى حكومته تساند وزراء التكنوقراط".
نجاح رئيس الوزراء في المحافظة على مسافة واحدة من أعضاء مجلس الوزراء
ساعدته على تقييم مقدرة وكفاءة كل وزير بموضوعية. وهو اليوم يعمل بصمت
وتكتم لإنجاز طبخة التعديل الوزاري وإعلانها بعد انتهاء البرلمان من اقرار
الموازنة العامة للدولة نهاية ,2008 بحسب أعوانه.
توصل رئيس الوزراء إلى خلاصة مفادها أنه بحاجة إلى استبدال أكثر من عشرة
وزراء ممن يحملون حقائب سيادية وخدمية, لرفع سوية أداء الطاقم الوزاري
بطريقة تواكب أداءه الشخصي وتعزز أجواء الثقة الشعبية التي راكمها خلال
العام الماضي, مستندا إلى إدارة ديناميكية وشخصية جادة ساعدته على استعادة
ولاية الحكومة العامة تدريجيا, بحسب الدستور.
عاد الرئيس لقيادة وفود رسمية في زيارات خارجية, والالتقاء بقادة دول
عربية واجنبية, سياسات ومشاريع قوانين لم تقر بعد مثل موازنة الدولة لعام
.2009 كما عاد للمشاركة أيضا في الجولات الملكية الخارجية والداخلية, بعد
شبه تهميش طال منصب الرئيس لأكثر من أربع سنوات خلت, ما كان يحيل منصب
رئيس الوزراء إلى وزير اول.
نجح الرئيس الذهبي , 62 عاما, عند تشكيل حكومته في حصد ثقة نيابية غير مسبوقة.
ثم أدار بكفاءة قرارات مصيرية غير شعبية مثل تحرير أسعار المحروقات وما
صاحبها من ارتفاع اسعار المواد الغذائية الأساسية والخدمات وتعرفة النقل.
بالروحية ذاتها تعامل الرجل مع سلسلة تخفيضات متلاحقة على أسعار المشتقات
النفطية ليعكس حجم انخفاضها في السوق العالمية. سرت التخفيضات المستهلكين
وأغضبت أصحاب محطات المحروقات بسبب آلية التسعير التي كانت متبعة والتي
اعتبروها مجحفة بحقهم. لكنها بدون شك عزّزت مصداقية الحكومة مع المواطنين.
رغم المحاذير السياسية, قرر الذهبي الإفراج عن الأسرى الأربعة, الذين
رحلوا الى عمان من اسرائيل عام 2007 لاكمال ما تبقى من مدة محكوميتهم. إذ
التزم بتطبيق القانون الأردني الذي يحسب كل سنة سجن بتسعة أشهر بدلا من
عام كامل.
كما نأى بحكومته إلى درجة كبيرة عن تداعيات معركة الشد بين مراكز محورية
تمثل مدرستين متناقضتين ألقت بظلالها على المشهد العام لشهور وانتهت بخروج
رئيس الديوان الملكي السابق, د. باسم عوض الله, الشخصية الأكثر اشكالية في
العهد الجديد, واستبداله بالمهندس التوافقي ناصر اللوزي قبل ثمانية
أسابيع.
ثمّة ملفات كثيرة أخرى ادارها الذهبي بنجاح بموازاة مهارته في التعامل مع ملف تسعير المحروقات, صعودا وهبوطا.
ويشهد له مسؤولون في الدولة والقطاع الخاص وسفراء لدول عربية وأجنبية ممن
التقوا به خلال العام الفائت بأنه ملّم بحيثيات المواضيع التي تطرح في كل
جلسة, وبأنه يصر على تدوين الملاحظات ومتابعتها بنفسه دون إبطاء. اثبت
الرئيس أيضا أنه مستمع جيد, وقادر على كسب ثقة غالبية محاوريه لوضوحه
وقدرته على التعامل مع بيروقراطية الدولة مسلحا بخبرته المهنية التراكمية
بدءا بقيادة سلاح الجو الملكي ثم رئاسة مجلس إدارة الملكية الأردنية,
وبعدها توليه وزارة النقل وأخيرا رئاسته لمفوضية سلطة العقبة الخاصة.
لكن يبقى السؤال; هل ما تم لغاية الآن يكفي للجزم بأن أمور البلد على خير
ما يرام وأن الفضل كله يعود لشخصية الذهبي, وطريقة إدارته للملفات
الأساسية في حكومته? الجواب هو بالتأكيد لا.
فأحد الاسباب الرئيسية لنجاح الذهبي وهدوء النخب السياسية هو غياب
المناكفات التقليدية بين مفاصل صناعة القرار العليا في كل من الدوار
الرابع, رئاسة الديوان الملكي ودائرة المخابرات العامة بعد خروج عوض الله
وتعيين اللوزي.
إذ باتت حلقات القرار العليا في الدولة, تعزف كل في إطار اختصاصه
وصلاحياته المحددة, لحنا متجانسا لدعم برنامج "العصرنة" الذي رسم ملامحه
الملك بعد توليه العرش عام ,1999 لكنه تذبذب كثيرا منذ إطلاقه. وأثر على
صدقية المشروع غياب توافق مجتمعي حول شكل الاردن الذي نريد.
هؤلاء المسؤولون الثلاثة جميعهم خرجوا من رحم مؤسسات الدولة ويتمتعون
بشخصيات تحديثية ملتزمة وتوافقية وأكثر تجانسا ومقدرة على ضبط إيقاع أدوات
تطبيق الرؤية الملكية على نحو تدريجي يتماشى مع تركيبة الدولة ووعائها
التشريعي دون أن يهدد العقد الاجتماعي الحساس, بحسب ساسة.
كما يمتلك هؤلاء مفاتيح التواصل بأريحية مع ملك شاب وطموح لا يحب الرتابة
والمماطلة و يريد تنفيذ القرارات اليوم وليس غدا, و كذلك مع ألوان الطيف
السياسي والاجتماعي والاقتصادي بما يساعد على تجسير فجوة الثقة المتنامية.
الملك كلف مدير المخابرات العامة الفريق محمد الذهبي, شقيق رئيس الوزراء,
مؤخرا بطي سياسة المحاور والانفتاح على سورية وحماس وقطر بهدف تنويع
خيارات الأردن السياسية بدلا من إلقاء جميع الأوراق في السلة
الأمريكية-الإسرائيلية.
تحسين علاقات الأردن مع محيطه العربي في ظل عودة النغمة المشروخة القديمة
المتجددة بالحديث عن خيار الوطن البديل في الاردن بعد فشل الرهان على قيام
دولة فلسطينية مستقلة بجانب إسرائيل, ساهم في بث روح ايجابية لدى رجل
الشارع. وتعززت أجواء الارتياح لاحقا مع تحسن العلاقات بين الدولة والتيار
الاسلامي واسع النفوذ في المملكة.
وجاء تعيين اللوزي في رئاسة الديوان الملكي لينفس الأجواء اكثر خصوصا وأنه
حداثي وابن مؤسسات الدولة ويتمتع بثقافة دستورية واسعة وحصافة سياسية
متزنة فضلا عن إجماع على كفاءته وخلقه. من شأن هذه الصفات ضمان عدم الزج
بمؤسسة المقر السامي في أتون العمل التنفيذي اليومي المفترض أن تباشره
الحكومة حصريا وفقا لولايتها الدستورية.
إذا, هذا التناغم قد يوفر للملك أخيرا الفرصة لتنفيذ رؤيته للتغيير وبدء تحويل الأردن الى دولة أحلامه عام .2009
الاهم ان اجواء التناغم ساهمت بايصال الرئيس الى قناعة بأنه غير قادر على
الاستمرار بأسلوبه في إدارة الحكومة معتمدا على نفسه وجهده وحده, وهو
بحاجة إلى قوّة أسناد مؤسسية, أو مطبخ قرار حكومي, يتولى معاونته في صناعة
القرار وتنفيذه, مدعوم بفريق من المستشارين القادرين على قراءة المشهد
المحلي وتوقع الازمات ووضع حلول لجميع السيناريوهات.
الرئيس يعرف أكثر من غيره أن الدولة ما زالت تخطو اولى خطواتها على طريق
تحقيق رؤية التحديث والتي سارت بوتيرة متسارعة في شقها الاقتصادي على حساب
الإصلاح السياسي الذي تجمد بسبب غياب الحل النهائي بين إسرائيل
والفلسطينيين.
لكن عام 2009 يتطلب بدء الالتفات الى الملف السياسي, بدءا بتفعيل اصلاح
تدريجي مبرمج يوسع من قاعدة المشاركة في صنع القرار دون المس بهوية الدولة
وتركيبتها قبل حل القضية الفلسطينية, ما يتطلب البدء بدراسة امكانية سن
قانون للانتخابات النيابية القادمة عام .2010 اضافة الى الانطلاق الجاد في
مكافحة الفساد وتفعيل مبدأ فصل السلطات, واحترام الدستور وتعزيز مفاهيم
المواطنة والانتماء ودولة القانون وتكافؤ الفرص - اساسيات الرؤية الملكية.
كما ان القطاع العام المترهل بات بحاجة لاصلاحات قائمة على اسس واضحة
قوامها الكفاءة والمقدرة والمؤهلات, وذلك من اجل رفع انتاجية الدولة.
على الذهبي في قادم الايام التعامل مع سلسلة اخرى من الملفات الضاغطة بدءا
بالفقر والبطالة وشح المياه ومصادر الطاقة البديلة وانتهاء ببحث اسرائيل
عن شركاء عرب لحل القضية الفلسطينية بعد اضمحلال فرصة قيام دولة فلسطينية
مستقلة الآن بفعل تواطؤ اسرائيلي امريكي, وعدم اكتراث عربي أدى الى إفشال
جهود الرئيس الفلسطيني محمود عباس السلمية وتكريس انقسام فلسطيني غير
مسبوق.
كل هذه الملفات الاقتصادية والسياسية المتداخلة تحمل في ثناياها تهديدا
مستمرا لأمن واستقرار المملكة الاجتماعي والسياسي وتتطلب المحافظة على
اعلى درجات الوئام بين مراكز القرار, حتى يتسنى للملك التركيز على الصورة
الاستراتيجية الأوسع والبحث عن مخارج نجاة.











































