التعثر المالي: عقاب جماعي يطال استقرار عائلات

"في صبيحة السابع من آذار عام 2017، دق جرس هاتفه، جاء صوت محاميه متذبذباً برسالة مختصرة أخبره فيها أن كل أملاكه قد حجز عليها وقريباً سيكون مطلوباً للقضاء". هكذا تستذكر أم تيسير (44 عاماً) ذلك الاتصال الذي انقلبت حياة عائلتها بعده رأساً على عقب، إذ تسببت خسارة زوجها في تجارته بعجزه عن سداد قرضه البنكي، فاضطر إلى الهرب خارج البلاد عندما بات مطلوباً للتنفيذ القضائي.

 

"المصائب لا تأتي فرادى"، تقول أم تيسير التي وجدت نفسها أمام مسؤولية كبيرة لتسيير حياة ستة أطفال لوحدها بعد سفر والدهم، إذ يعيشون حياة قاسية دون وجود دخل لسدّ احتياجات الأسرة، معتمدين على مساعدات من أهل الخير.

 

الأم التي أصبحت تعيش في قلق دائم بعد أن مضت سنتان على سفر زوجها، ترى أن "لا حلول في الأفق"، ما يزيد خوفها على مستقبل أطفالها يوماً بعد آخر.

 

ويجيز قانون التنفيذ الأردني رقم (25) لعام 2007 للدائن أن يطلب حبس مدينه إن لم يسدد الأخير الدين، ويعرّف المدين أنه " من انشغلت ذمته المالية بطرق تعاقد شرعية، وبحسن نية تعثر في السداد، ولا يكون ذلك إلا بإثبات حقيقي لعدم قدرته على سداد الدين".

وبموجب الفقرة (أ) من المادة (22) من القانون ذاته "يجوز للدائن أن يطلب حبس مدينه إذا لم يسدد الدين أو يعرض تسوية تتناسب ومقدرته المالية خلال مدة الإخطار، على أن لا تقل الدفعة الأولى بموجب التسوية عن (25%) من المبلغ المحكوم به، فإذا لم يوافق المحكوم له على هذه التسوية، فللرئيس أن يأمر بدعوة الطرفين لسماع أقوالهما ويقوم بالتحقيق مع المدين حول اقتداره على دفع المبلغ، وله سماع أقوال الدائن وبيناته على اقتدار المحكوم عليه وإصدار القرار المناسب"، لذلك يلجأ كثير من المدينين الذين تنعدم قدرتهم على السداد إلى السفر هرباً من الحبس.

 

ووفقاً للتقرير السنوي لجمعية البنوك الأردنية لعام 2017، وصل عدد المقترضين الأفراد من البنوك العاملة في الأردن إلى (871753) مقترض ومقترضة، فيما كان عددهم عام 2016 (788951)، ليسجل ارتفاعاً بنسبة 10.5%، وبلغت نسبة النساء المقترضات من العدد الكليّ (20.2) %.

 

س

 

ويقدر عدد المطلوبين للتنفيذ القضائي على ذمم قضايا مالية داخل وخارج الأردن بنحو (250) ألف شخص، وذلك استنادا لتقديرات دائرة التنفيذ القضائي، إذ لجأ آلاف المتعثرين إلى مغادرة البلاد هرباً من العقوبة، تاركين خلفهم أسرهم في مواجهة عقبات مادية واجتماعية.

 

عقاب جماعي

لا يقتصر أثر الخسارة في العمل والتعثر في سداد الديون على الشخص المعني، بل يمتد ليطال أسرته بأكملها، وتتضاعف المعاناة على المدين المتزوج الذي يعيل زوجة وأطفالاً، عندما يضطر لتركهم إن تخلف عن السداد وأصبح مطلوباً للقضاء واختار الفرار.

 

الاستشاري النفسي والتربوي والأسري د. موسى المطارنة، يؤكد أن ترك هذه العائلات في "مهب الريح" بعد أن كانوا في وضع مالي واقتصادي جيد، يشكل صدمة نفسية لهم، وبالتالي لا بد من الانتباه لهذه الأسر وتقديم المساندة المادية والمعنوية لهم، لأن إهمالهم يشكل تهديداً للحياة الأسرية والاستقرار المجتمعي، ومساساً بحق إنساني أصيل بالعيش الآمن.

 

هذه المعاناة، التي تقيد المدينين وتحدّ من قدرتهم على الاستمرار في العمل وإعالة أنفسهم وعائلاتهم، أصبحت مدخلاً لمشاكل نفسية واجتماعية كبيرة، بحسب المطارنة، معتبراً أن على الدولة دراسة أحوالهم الأسريّة تجنباً لأزمات اجتماعية وإنسانية. 

تعديل قانون التنفيذ

 

يطالب نواب بتعديل قانون التنفيذ الأردني وشطب المادة (22) من القانون، لإلغاء حبس المدين إن لم يسدد دينه، إذ رفع (118) نائباً في شهر تموز الماضي، مذكرة إلى رئيس المجلس يطالبون فيها بتعديل القانون، بناء على تقديرات بأن "ثلث المساجين في الأردن من المتعثرين مالياً"، بحسب النائب معتز أبو رمان.

 

وتهدف المذكرة إلى إيجاد توازن بين الدائن والمدين، وإيجاد بدائل عن حبس المتعثرين الذين يثبت حصولهم على الأموال بطرق شرعية دون احتيال، بما يحفظ حقّ الدائنين، ودون الإضرار بالمدينين الذين تزايدت أعدادهم، ما يستدعي وضع خطة لاستبدال حبس المدين، وفقاً لـ "أبو رمّان".

وجاء في المذكرة النيابية وجوب التفريق بين قضايا النصب والاحتيال وقضايا تهريب الأموال، والتشدد في عقوبتها عن التعاملات المالية حسنة النية التي نتج عنها التعثر، على اعتبار أن انشغال الذمة المالية ليس جريمة حتى يعاقب عليها القانون بالحبس الجزائي، ولا يجوز حبس حرية شخص مقابل مال إلا إذا كان قد حصل على المال بطريقة احتيالية.

ويرى رئيس لجنة الحريات العامة وحقوق الإنسان في نقابة المحامين المحامي وليد العدوان ضرورة دراسة الآثار الاجتماعية والاقتصادية لمقترح إلغاء حبس المدين، لضمان تحقيق التوازن بين الدائن والمدين، "حق الدائن بتحصيل حقوقه، وحق المدين يتحقق بعدم التعسف باستخدام التدرج القانوني وعدم التجاوز على حقوقه"، معتبراً أن هذه مسؤولية الحكومات المتعاقبة في حفظ الأمن المجتمعي وتحقيق التوازن الاقتصادي، ومحاربة الفساد، وتخفيض الضرائب.

 

مركز العدل للمساعدة القانونية، كان أصدر في شهر (آذار) الماضي، مذكرة طالب فيها وضع حد أدنى لمبلغ المطالبة المالية التي تجيز حبس المدين، ومراجعة النصوص المتعلقة بتجريم الشيكات جزائياً، للحد من مشكلة الغارمات والغارمين.

وحسب المذكرة، فإن "من الضروري التوسع في حملات توعية للمجتمع حول الآثار المترتبة على الاقتراض، وتوقيع الكفالات، والكمبيالات، والشيكات التي لا يقابلها رصيد".

 

وأًصبحت الحاجة اليوم للتفكير في وسائل تساعد المتعثرين مالياً على الخروج من أزمتهم، ترسيخا للاستقرار المجتمعي وحفاظاً على التماسك الأسري، وفق مصدر حكومي فضّل عدم ذكر اسمه، مشيراً إلى ضرورة إيجاد بدائل للحبس، من شأنها أن تعالج الإخلال، وتخفف المعاناة الإنسانية الكبيرة التي لا تقف عند الشخص المحكوم فقط، بل وتمتد لأسرته وأطفاله.

 

أما الحبس، عدا عن آثاره السلبية، فهو يكلف الدولة مبالغ طائلة، وبحسب تصريحات رسمية، فإن التكلفة المالية لنزيل مراكز الإصلاح تصل إلى 750 دينارا شهريا، وبالتالي فإن التوسع بأحكام الحبس، سيؤدي لزيادة أعداد النزلاء، وإضافة أعباء جديدة على خزينة الدولة ذات المديونية المرتفعة.

 

ويرى الناشط في حقوق الإنسان المحامي رياض الصبح، أن حبس المدين ذكراً كان أم أنثى يخالف نص المادة (11) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي صادق عليه الأردن عام 2006، وجرى نشره في الجريدة الرسمية، وتنص على أنه "لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي".

 

وذلك لأن التعثر في السداد ليس جناية، وإنما "ذمة مالية" على شخص غير قادر على سدادها، كما يوضح الصبح، مؤكداً أن العجز عن الدفع في الحالات المقصودة يرتبط بعدم الاستطاعة المالية للشخص.

 

ويعدّ احتجاز حرية مواطن بسبب عجزه عن تسديد دين انتهاك لحقوقه، وحرمانه من إيجاد عمل يغطي به ديْنه، وفي الوقت ذاته حرمان له ولعائلته سيخلف آثاراً سلبية تضرب في أساس استقرار المجتمع، بحسب الصبح.

 

وخلال الفترة الماضية، ارتفعت النداءات الشعبية والنيابية المطالبة بمنع حبس المدين، وناشد متعثرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مجلس النواب بالتدخل الفوري، للدفع باتجاه تطبيق قانون لا يحبس المدين فيه، والعمل على إخلاء سبيل جميع الغارمين والغارمات، بهدف إعادة إدماجهم في المجتمع ليجدوا فرص عمل يسددون من خلالها ديونهم. 

 

سش



*بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR

أضف تعليقك