التحركات العسكرية الأمريكية على حدود العراق وسوريا: حشد وقائي أم عملية عسكرية معقدة؟
تقدير موقف يتناول تعزيز الولايات المتحدة من وجودها العسكري في الشرق الأوسط، بإرسال المزيد من المعدات العسكرية والجنود، فضلاً عن التحركات العسكرية للتشكيلات الأمريكية في العراق وسوريا، وهو ما يطرح التساؤلات حول "عقيدة بايدن" خاصة مع الترجيحات بوجود مخطط أمريكي لإطلاق عملية عسكرية في وقت قريب.
بعد عامين على الانسحاب الأمريكي من أفغانستان آواخر أغسطس 2021، وإشارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن ذلك الانسحاب يُنهي حقبة طويلة من عمليات التدخل العسكري الأمريكي الهادفة لتغيير الأنظمة وبناء أخرى على أنقاضها، والسير على نهج جديد في السياسة الخارجية الأمريكية تستند على استبعاد التدخلات العسكرية، وتفضيل التعاون الدولي والجهود المشتركة لمواجهة التحديات، فيما أطلق عليها "عقيدة بايدن". إلا أن الشهور القليلة الماضية شهدت على عكس ذلك، إذ عززت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في الشرق الأوسط، بإرسال المزيد من المعدات العسكرية والجنود، فضلاً عن تحركات عسكرية للتشكيلات الأمريكية في العراق وسوريا. وهو ما أعاد طرح التساؤلات حول "عقيدة بايدن" خاصة وأن مراقبين يرجحون تخطيط واشنطن لإطلاق عملية عسكرية في وقت قريب.
معطيات ومؤشرات
ظهرت العديد من المعطيات والمؤشرات المتعلقة بتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة خلال الأشهر الأخيرة، حيث يمكن تسليط الضوء على أهمها، والمتمثلة في:
أولاً: تعزيز الولايات المتحدة لوجودها في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، من خلال إعلان البنتاغون عن إرسال الطائرات المسلحة من طراز F-35 وF-16 وA-10، بالإضافة إلى إعلان الأسطول الخامس الأمريكي عن وصول أكثر من ثلاثة آلاف جندي أمريكي في إطار خطة أمريكية لتعزيز تواجدها في المنطقة.
ثانياً: زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي مارك ميلي، للأردن في 23 أغسطس 2023 ولقائه جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، وتصريحاته لقناة "المملكة" خلال مقابلة خاصة أشار فيها إلى أنّ "منطقة الشرق الأوسط مهمة جداً جداً للولايات المتحدة"، وأنه لا يتصور "أن تتخلى الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط أبداً"، بالإضافة الى إشارته للتهديد الذي يشكله "بعض إرهابيي تنظيم (داعش) الذين يجوبون صحراء سوريا ولحد ما العراق" على الأردن، وأهمية الوجود العسكري الأميركي في سوريا لتثبيت هزيمة ذلك التنظيم.
ثالثاً: تحشيد القوات الأمريكية لوجودها في منطقة الحدود السورية العراقية، وتحديداً في منطقة القائم العراقية والبوكمال السورية، وثمة أنباء عن حركة نشطة لطائرات الشحن العسكري الأمريكية في قاعدة عين الأسد العراقية، وعن نقل أرتال عسكرية وأسلحة وذخائر من العراق إلى الحسكة السورية وإلى قاعدة "التنف" الاستراتيجية.
رابعاً: إجراء القوات الأمريكية عدداً من التدريبات والمناورات خلال شهر أغسطس، ووفقاً لما تناقلته التقارير الإعلامية؛ نفذت القوات الأمريكية مناورات عسكرية مشتركة مع "وحدات كردية" في منطقة القامشلي في الفترة بين 15-17 أغسطس 2023، تم خلالها استخدام الأسلحة الثقيلة ومضادات الطيران والعربات المدرعة، وشهدت قاعدة الشدادي بريف الحسكة تدريباً أمريكياً آخراً في 14 أغسطس، كما أجرت تدريبات على الأسلحة الثقيلة والطيران الحربي والمروحي، ونفذت ضربات جوية على أهداف وهمية في ريف الحسكة في 3 أغسطس.
خامساً: تزايد الاحتكاكات الأمريكية الروسية في الأجواء السورية، والتي ترافقت مع زيادة روسيا طلعاتها الجوية في سوريا منذ الأزمة الأوكرانية في ربيع 2022، واستمرار الطائرات الأمريكية بالقيام في مهامها في أجواء الشرق الأوسط ولا سيما في سوريا، حيث يتبادل الطرفان الاتهامات بشأن التفاعلات العدوانية لطائراتها في الأجواء السورية، منها إعلان الولايات المتحدة عن "سلوك غير آمن وغير مهني" للطيران الروسي، وإعلان موسكو عن "اقتراب خطير" لمقاتلة أمريكية من طراز F-35، من مقاتلة روسية من طراز سوخوي-35.
أسباب ودلالات
تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا مرتبط بالعديد من الأسباب، ويحمل العديد من الدلالات، ومن ذلك:
أولاً: تطورات الأزمة الأوكرانية وتأثيراتها المتصاعدة على حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، وما تفرضه تلك الأزمة من إعادة التموضع ومحاولة فرض موازين جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه روسيا، وهو ما يعني التضييق على روسيا في مناطق نفوذها بالشرق الأوسط، من أجل رفع كلف الأولويات الاستراتيجية الروسية سواء في أوكرانيا أو سوريا.
ثانياً: تعزيز الرقابة على إيران في مضيق هرمز والمياه المحيطة من جهة، وردع إيران وحلفائها من تنفيذ هجمات مباشرة أو متسترة في سوريا ضد المصالح والقواعد العسكرية الأمريكية، إذ شهدت الشهور الماضية تصاعدا في التوتر بين القوات الأمريكية والإيرانية والروسية، بعد أن استهدفت جماعات مسلحة تابعة لطهران قواعد أمريكية من خلال هجمات صاروخية وأخرى بطائرات مسيرة، وتحليق مستمر لمقاتلات روسية فوق حامية عسكرية أمريكية في سوريا. وبذلك تجد واشنطن أن الدولتين (روسيا وإيران) تهدفان لإرساء نهج جديد من الاستفزازات، لدفع القوات الأمريكية إما إلى إخلاء قواعدها أو مواجهة مخاطر التصعيد.
ثالثاً: يرى مراقبون أن تكثيف القوات الأمريكية لوجودها في منطقة القائم الحدودية بين العراق وسوريا، يهدف إلى قطع طرق الإمداد اللوجستي والعسكري الإيرانية، وتحديداً طريق طهران-بيروت، الذي يمر عبر العراق من مدن الفلوجة والرمادي وحديثة ثُم إلى معبر (البوكمال-القائم)، ومروراً بمدن الميادين ودير الزور وحلب في سوريا، ثم إلى لبنان.
رابعاً: تطورات العلاقات العربية-السورية والتي تتحفظ بشأنها الإدارة الأمريكية، خاصة بعد عودة دمشق لجامعة الدول العربية، وهو ما قد يقود واشنطن الى إعادة الزخم للسياسة الأمريكية في سوريا من خلال تفعيل قانون مكافحة الكبتاجون الذي وقّعه الرئيس الأمريكي ضمن موازنة الدفاع الأمريكية لعام 2023، وقد تعطي الاحتجاجات في محافظة السويداء زخماً لدعوات واشنطن بالتوصل إلى حل سياسي في سوريا، إذ تُعمق تلك الاحتجاجات من الأزمة السورية، وتمنح الولايات المتحدة مزيداً من الذرائع لتعزيز تدخلاتها في سوريا.
وأخيراً؛ لا يُستبعد أن تكون التعزيزات العسكرية الأمريكية من النواحي التكتيكية والعملياتية؛ إشارة إلى احتمالات تنفيذ عمل عسكري محدود في المناطق الحدودية للعراق وسوريا، أو الضغط على الجماعات المسلحة هناك من خلال تكثيف الوجود العسكري الأمريكي وتضييق هوامش الحركة والمناورة، وإرسال رسائل بجهوزية الجيش الأمريكي لردع أي مساعي استفزازية سواء من روسيا أو إيران وجماعاتها، خاصة في مناطق الحسكة وقاعدة "التنف". وحتى في حالة تحقق سيناريو العمل العسكري، فمن المرجح أن يبقى في إطار المحدود، دون توسيع نطاقه خارج مناطق العمليات الرئيسية التي قد تستهدف الانتشار العسكري الإيراني.