التاريخ مأكولا!
التاريخ صنيعة الجوع ، وكما قال الفيلسوف الفرنسي ابيلارد: فتش عن الخبز،. وكان نابليون يذكر جنرالاته بأن الجيش يزحف على معدته. والتاريخ حافل باحداث جسام ارتبطت بالجوع والفاقة والبحث عن الارض الموعودة وخيراتها من لبن وعسل. وحتى قصة البشرية ومأساة الطرد الاول من الفردوس تمحورت حول عصيان الأمر الالهي وتناول الفاكهة المحرمة.
ومؤخرا صدر كتاب بالانجليزية للصحفي توم ستاندج بعنوان: تاريخ صالح للأكل ، عرض فيه المؤلف رؤيته لدور الغذاء وتطور انواع الطعام في تشكيل ملامح التاريخ. فتحول الانسان الأول من الصيد وجمع الثمار البرية الى الزراعة واستئناس الحيوان شكل نقلة حيوية في التاريخ البشري ووضع اللبنة الاولى في صرح الحضارة. ولولا الجوع والبحث عن مصادر جديدة للطعام ما هجر الانسان وطنه ليغوص في المجهول ويكتشف بلادا واصقاعا جديدة.
وحتى الثورات التي اختطفتها ايديولوجيات وغيرت مسار شعوب وحضارات انطلقت شراراتها من جوف الجوع وجيوب الحرمان. ويذكر ستاندج ان عصر النهضة في اوروبا ما كان لينبلج فجره لولا وفرة الطعام وتحسن نوعية الغذاء في تلك الفترة الذهبية ما اطلق عنان العقل وفجر طاقاته ، ربما من منطلق القول المأثور أن العقل السليم في الجسم السليم.
ونعرف من دراستنا للتاريخ كيف دار فاسكو دا غاما البرتغالي حول رأس الرجاء الصالح بحثا عن الهند وتوابلها الاسطورية ليفجر شرارة الاستعمار الاوروبي في افريقيا وآسيا ، وكيف اقنع كولومبوس ملكة اسبانيا بتمويل حملته عبر الاطلسي بحثا عن طريق أقصر للهند فاكتشف اميركا. ونعرف ايضا أن مجاعة البطاطا في ايرلندة في القرن التاسع عشر قضت على نحو مليون من سكانها ما دفع بمليون ايرلندي آخر الى الهجرة نحو العالم الجديد.
ولا يمكن فصل السياسة عن الغذاء: ففي الخمسينات من القرن الماضي تحدى الرئيس كينيدي جدار برلين ودشن جسرا جويا لانقاذ المدينة من مجاعة محققة. وايام حصار العراق وافق صدام حسين على برنامج النفط مقابل الغذاء ، وكذلك رضخت كوريا الشمالية لمطالب الغرب في وقت ما فجمدت برنامجها النووي مقابل شحنات وفيرة من الطعام. وحتى اليوم فان واحدة من اساليب الضغط الاميركي على الدول هي من خلال شحنات القمح التي لولاها لتعرض الامن القومي في مصر وغيرها للخطر.
ونذكر كيف دمر مزارعون اوروبيون محاصيلهم حفاظا على اسعارها بينما كانت المجاعة تحصد ملايين الارواح في افريقيا. ونعرف ان دولا لجأت الى تخريب انماط زراعية تقليدية في دول مجاورة كي تغمر اسواقها بنتاجها الهجين.
ان احد مؤشرات استقلال القرار السياسي لأي من الدول يكون في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء وخاصة القمح ، واكثر ما تخشاه الانظمة الحاكمة والنخب الاقتصادية في أي دولة كانت هو ثورة الجياع سواء كان ذلك في اميركا أو بوركينا فاسو، وقلما نجا بلد ما من آفة الجوع وخطر المجاعة. فحتى اميركا كانت عرضة للمجاعة في ثلاثينيات القرن الماضي عندما انحبس المطر وتحول الوسط الاميركي وحقول القمح فيه الى "قصعة غبار". وكذلك الامر في انجلترة التي ضربتها المجاعة في القرن الرابع عشر وسنت حينها قوانين الفقر التي الزمت الاغنياء باعالة الفقراء.
وخطر المجاعة هو ما يهدد البشرية في المستقبل حيث تتحالف عوامل مثل زيادة السكان والتصحر والاحتباس الحراري وشح المياه لتشكل قنبلة موقوتة قد تنفجر يوما في وجوهنا جميعا.











































