الباحثون في النفايات نابشون عن دخل آخر

الباحثون في النفايات نابشون عن دخل آخر
الرابط المختصر

أعد هذا التقرير لصالح

لا يوجد “شيء” في هذا العصر لم يتحول إلى سلعة. تقول المهندسة غدير عبد الجواد صاحبة مشروع “منزلي”: “حتى النفايات تباع اليوم باثمان مرتفعة”.

هل صدف أنك مررتَ من أمام حاوية نفايات.. مررتَ، إلا أنك لم تتوقف. ولكن أحدهم توقف ورأى ما لم تر، قيمة سلعية ثمينة.

“ماذا يمكن أن يوجد في النفايات”. تسأل مرام الشابة التي تقف في إحدى الشوارع منتظرة سيارة أجرة بعد انتهائها من مقابلة عمل، وهي تشير إلى حاوية وقف عليها رجل يبعثر أشياءها عله يجد ما يبحث عنه.

لم يكن من حول مرام ينتظر أن يسأل ذاك الرجل عن سره، أو أن يجيب عن سؤالها. الجميع يعلم ما الذي يحصل. فأكوام النفايات المتناثرة في كل مكان، الصادرة عن المنازل والمحلات التجارية باتت بكل ما تعج به صيدا ثمينا لأجله تُجاب الشوارع والزقاق حتى في أوقات ذروة حرارة الشمس.

“نابشو الحاويات” الباحثون عن سلعهم وسط أكوام القمامة، أصحاب مهنة لا تدرج في أي نظام رسمي.

ربما يقول ما لا يعلم أنهم يبحثون عن الطعام. ولكن العارفون يدركون انه ليس في وارد النابشين البحث عن خبز يقتاتونه أو بقايا طعام تسد جوعهم، بل إنهم يبحثون عما يباع ويشترى وفيه فائدة عظيم.

خلال انشغال الرجل الباحث في حاوية النفايات وجد زجاجة يوجد فيها بقايا عصير. ففتحها ورفعها إلى فيه وشرب.

لا بأس فقد كان الطقس حارا. شرب ثم عاد إلى ما كان يشغله في البحث عما يمكن أن يكون افتراضا ثمينا ليبيعه إلى تجار سيحولونه إلى سلع تباع وتشترى، مرة أخرى.

لم تصدق مرام الفتاة الجامعية ما رأت. شعرت بشيء من الاشمئزاز. نفضت رأسها بصورة عفوية عبست قليلا، ثم ما عادت تلتفت إليه مجددا.

هي لا تعلم أن وظيفة تطمح بشغلها لن تدر عليها دخلا، يحصل عليه شارب العصير من وظيفة النبش.

انشغل الجميع كل بما كان مشغولا به، كما انشغل الرجل النابش في النفايات، في مشهد بات مألوفا في كثير من الأمكنة أينما حللت في شوارع العاصمة عمان.

شوارع عمان كلها مستهدفة .. الغربية منها أكثر استهدافا، ولكن لا تخلو الشرقية من صيد ثمين، ففيها أيضا أغنياء أو أسر غير مستعدة لتدوير مقتنياتها التالفة فترميها. وهنا يأتي دور نابشي حاويات النفايات.

“حسن” الموظف في أمانة عمان الكبرى ما إن يلبث من الانتهاء من وظيفته الرسمية حتى يسارع للإمساك بمقبض عربته الخاصة متنقلا بين زقاق الشوارع الرئيسية، لا تستوقفه سوى أماكن تجمع النفايات أمام المنازل.

هكذا .. هم يمتهنون وظيفة رسمية صباحا، وما أن ينتهوا منها حتى تبدأ جولة جديدة من الأعمال مهنة لا مكان فيها لتحديد العمر، ما دام الدخل الاقتصادي منها وفيرا.

نابش عن دخل آخر .. لما لا!

تتنوع الظروف الاقتصادية للعاملين في “نبش الحاويات”..فالبعض منهم يعاني ظروفا اقتصادية صعبة، فيقتنصون أية فرصة من شأنها أن تدر دخلا إضافيا يساعده في تسيير أموره الحياتية أو على الأقل تدبر حاله اليومي.

الثلاثيني “حسن” لديه أربعة أطفال، بالكاد يكفيهم ما يجنيه من عمله الرسمي، مما جعله مضطرا للبحث عن رزق آخر مصدره الحاويات وأكوام القمامة.

هو عامل نظافة في الأمانة يستغل مهنته للبحث عن علب المشروبات الغازية الفارغة، والأسلاك والمعدنيات، وفي أحيان كثيرة يلمحها في عربته الرسمية، من دون أن يجرؤ على التقاطها خشية أن يقنصه أحد المسؤولين فيخسر وظيفته الرسمية.

الحديث إلى نابشي الأكوام لم يكن سهلا، والمحاولات للاستفسار عن بعض أحوالهم فشلت في كثير من الأحيان لتوجسهم من التعرض للمساءلة؛ فسرعان ما يغادرون المكان.

أبو حسان لم يكن من هذا النوع ممن قابلهم “مشروع مضمون جديد”، فوافق على محاورتنا بشرط عدم الإعلان عن هويته.

بامكانك التدقيق في حاله وتفاصيل ملابسه واصطباغ يديه بالسواد، فضلا عن تغير لون بشرته. وليس وهو كذلك ان تعرف أن عمله تحت الشمس لساعات طويلة هو السبب.

بالنسبة إلى من يرى أبا حسان فإنه نابش للقمامة؛ ولكن ليس هذا ما يراه أبو حسان عن نفسه يقول: أمضي وقتا بالقرب من أحد المحال التجارية في انتظار انتهاء تفريغ بضاعته لأبدأ بطي الكراتين بمساعدة ابني “يبلغ من العمر عشر سنوات” وترتيبها في ” البكب الأبيض”.

ما لا يخطر في فكر هؤلاء النابشين أنهم معرضون بصورة خطيرة إلى التعرض لشتى أنواع الأمراض البسيطة منها والخطيرة. يقول استشاري أمراض الجهاز الهضمي والكبد الطبيب نعيم أبو نبعة المحيط الذي يضع هذا الشخص به يجعل منه صيدا ثمينا للأمراض.

ويضيف: “في النفايات كل ما يمكن أو لا يمكن التفكير به. وحتى الطعام الملقى يصبح قنبلة جرثومية خطيرة بعد أن تتكاثر عليه البكتيريا والفيروسات بل وكل أنواع الجراثيم.

الأخطر من كل ذلك وفق د. أبو نبعة هو أن يصيب النابشون أمراض ينقلوها بدورهم إلى آخرين.

الأخطر الذي يستطرد به استشاري أمراض الجهاز الهضمي والكبد هو التالي: هناك بقايا دم وإفرازات الجسم تكون في العادة موجودة في النفايات، وهذه تنقل أمراض كثيرة خلال العبث بها وهي بالتأكيد ستكون ملوثة بجراثيم معدية.

نبش بأسلوب بيئي

القصص والحكايا والمشاهد التي علقت في الأذهان لا تترك للمرء أن يجب عن السؤال التالي إلا بالإيجاب. السؤال هو: هل كل باحث في النفايات نابش عن أمراض وجراثيم؟ ولكن تجربة المهندسة غدير عبد الجواد صاحبة مشروع خاص بها تطلق عليه اسم “منزلي – مدينة التدوير”  تتحدث عن إمكانية تحويل العاملين مع نفايات المنازل إلى نمط صحي بأهداف بيئية مدروسة، تدر عوائد اقتصادية لا بأس بها.

في منطقة النظيف أطلقت المهندسة عبدا لجواد مشروعها الذي يعتمد على إشراك أطفال المجتمع المحلي في فصل نفايات منازلهم وتزويدها بها.

“غدير” تقول: ” إن مشروعها يقوم على التعامل مع النفايات وفق أربعة أساسيات تتمثل في إعادة تجميع النفايات، ثم إصلاحها، وإعادة تدويرها، وأخيرا البحث والتطوير”.

“غدير” التي تحمل بكالوريوس هندسة ميكانيكية تعمد إلى إصلاح الكثير مما يلقى في النفايات، مثل طاولات الكي، والكراسي، وبيعها بأسعار رمزية لسكان منطقتها، إضافة إلى تحويل العديد من النفايات إلى منتجات قابلة للاستخدام.

فكرة “غدير” ليس وليدة لحظية بل هي هواية لها منذ الصغر، هدفها الأساس الحفاظ على البيئة؛ إذ استطاعت منذ عام وحتى الآن تجميع طنين من المواد التي يجري استغلالها والاستفادة منها، لافتة إلى أن العائد الاقتصادي المتأتي من مشروعها يعتمد على الكميات المجمعة.

من شأن أهداف مشروع صاحبتنا الصغير المستند على الربط بين البيئة والتكنولوجيا خلق فرص عمل للعاملين معها؛ كونه يتخصص في تحويل حوالي 65 مادة من النفايات إلى منتجات، كالملابس القديمة التي تحول إلى مراييل للمطبخ، وورق المجلات الذي يجري تحويله إلى حقائب مكتبية، وقشور الفواكه التي تحول إلى سماد عضوي للنبات.

دخل شهري يبدأ بـ300 دينار

وكانت دراسة لأمانة عمان الكبرى كشفت عن أن الدخل الشهري المتأتي لـ”نابشي النفايات” يتراوح من 300 إلى 900 دينار، وأن هناك 116 “نابشا” و15 “وسيطا” يعتاشون على “نبش النفايات”.

الدراسة التي هدفت إلى تقييم الأهمية الاقتصادية لتلك المواد، والعوائد الناجمة عنها، والأثر الاجتماعي لتلك الفئة، وعدد العاملين فيها، لفتت إلى أن 96 % من نابشي الحاويات لا يعون خطورة مهنتهم، والأمراض التي يمكن أن تصيبهم.

الانثربولوجي أحمد أبو خليل وهو يشير إلى ان هذا القطاع من الأعمال جزء من القطاع الاقتصادي غير الرسمي في المملكة يقول: في السابق كان يجمع هؤلاء النابشين نفاياتهم ويبيعونها في أسواق محددة لهم في وسط البلد. ولكن بعد ان كبر “البزنس” صار له تجار كبار.

ويضيف: أصبح لهذا القطاع موردين وتجار يدورون النفايات بهدف الاستفادة منها ماليا، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة ساعدت على تصنيف النفايات كما لم تكن سابقا. فهناك الحديد وهناك الخشب، او الكرتون والورق، وغيرها من السلع. كما أن هناك نفايات خاصة بالمدينة وأخرى خاصة بالريف.

ويواجه نحو 60 % منهم مشاكل على نحو عام، و23 % منهم يواجهون مشاكل مع زملاء لهم في المهنة، و16 % يواجهون مشاكل مع موظفي أمانة عمان، في حين تعرض 16 % منهم لحوادث سير أثناء عملهم، سواء أكان في النهار أم في الليل، وواجه 11 % مشاكل مع مواطنين، و9 % تعرضوا لمشاكل سرقة مواد قابلة للتدوير.

ويصف نحو 20 % منهم وعيه بطبيعة مهنتهم بـ”الجيد”، وأن أقل من 2 % فقط لديهم وعي كامل عن  “نبش النفايات”، مقابل 42 % منهم يعتقدون بأن عملهم “سيئ”، و29 % قاس، و22 % يعتقدون أن درجة قسوته “وسط”، و65 % يعتقدون بتفاهته وسهولته، بينما يرى 4 % أنه غير خطر بالمطلق.

وتشير دراسة الأمانة إلى أن جميع العاملين يقطنون في بيوت مستقلة أو شقق سكنية، ولا يوجد أي منهم يسكن في “عشوائيات” أو “خيم”، منوهة إلى أن 57 % من العاملين لديهم عمل منتظم، سواء أكان بدوام جزئي أم كلي، أو يعتمد جزئيا على جمع النفايات من الحاويات.

وتكشف الدراسة عن أن غالبية العينة المستطلعة يمتهنون “نبش النفايات” منذ عامين إلى أربعة أعوام، ما يعني  وفق الدراسة أن “نبش النفايات” ليس مهنة مؤقتة، في حين إن 60 % منهم أمضوا من سنة إلى خمس سنوات في “النبش” أو يزيد.

وتزيد الدراسة أن 65 % منهم يمتهنون “النبش” بالوراثة،  ونحو 77 % من عينة الدراسة تمتهن “القمامة”، ثلاثة أيام في الأسبوع على الأقل، فيما 53 % منهم يعملون في أيام الجمع والعطل الرسمية.

أضف تعليقك