الانسان في ما بعد الحداثة (2/4)
شكلت هذه (الحقيقة) اللاكانيّة- نسبة للمحل النفسي الفرنسيّ جاك لاكان- التي تؤخذ بوصفها فجوة رمزية وتشويشاً صريحاً، ما يمكن أن نطلق عليه جريمة قتل ما بعد الحداثة للإنسان المذهول من عمق هذه الفجوة واستحالة لحمها. وظف لاكان مصطلح العوز أو الولع (aphanisis) لوصف العملية التي يوظفها الشخص للاختباء خلف أي دال يمكن أن يدركه. وفي هذه الحالة فإن الشخص سيكون مختفياً، في حين أن الهيمنة ستكون للدال. وباختفائه وتستره خلف الآخر (اللغة) فإن الشخص لا يمتلك خياراً سوى أن يدرك نفسه بوصفه شيئاً آخر خلافها. شيء خارج ذاته أو منفصلاً عنها جذرياً. وبهذه الطريقة يمكنه أن يتواصل أو يفكّر، ولكنه سيكون قد وصل إلى قمة اغترابه ذلك لأن الآخر هو الأداة المطلقة التي مكنت هذا الشخص من أن يكون متواصلا ومفكرا . وهكذا فإن المصطلح بمعناه اللاكاني الخاص، الذي يلخص اختفاء أو تلاشي الشخص خلف الدال الذي يدركه، يعد مفهوما هاما لتفهم الخواء الجوهري الموضوعي والخطير لإنسان ما بعد الحداثة.
يزعم لاكان أن الشخص متورط دائما بفقدين. يحدث الفقد الأول نتيجة اعتماد الشخص على دال أو رمز موجود في مجال الآخر. أما الفقد الثاني وهو الفقد الحقيقي والذي يعد أكثر جوهرية من الناحية الوجودية فإنه يحدد رغبة الولع (partial drive) التي يجب تمثيلها من خلال علاقات الشخص الجنسية أو الاجتماعية. ويشير الفقد الأول إلى الاغتراب alienation)) فيما يشير الفقد الثاني إلى الانفصال (separation). يُنتج الفقد الأول أو فقد السلطة (فقد الآخر، الدال، الرمز) الشخص أولاً ثم أن انعكاسية هذا الشخص تفرض نفسها بوصفها اغتراباً أو موتاً. وهكذا فإن الاغتراب عند لاكان لا يتضمن موت الإنسان فحسب ولكنه يعنى موت السلطة (الآخر) مما يمنح الشخص فرصة فصل نفسه عن الآخر من خلال النقض الانعكاسي للاغتراب.
في كتابها (الإنسان كسيرورة The Subject in Process) تحاول جوليا كريستيفا إعادة النظر في نظرية التحليل النفسي اللاكانيّ من أجل إظهار العلاقة بين تطور الشخص وتطور اللغة. فتبعا لكريستيفا فإن الشخص ذو طبيعة ديناميكية، مما يشكل تحدياً للفكرة الخاطئة عن الطبيعة المتجانسة للغة. ومثلما أن فرويد قد عرّف الإنسان بوصفه (وحدة مزدوجة) من الوعي واللاوعي، فإن لاكان يعرض الشخص بوصفه وحدة مقسمة. وبالنسبة له فإن هذا الانقسام متأصل في الشخص ولا يمكن فصله عن الفقد الذي ينتجه وعن "الحاجة غير المشبعة للمستحيل، الذي تمثله الرغبة الكنائية". والكناية هي عملية في اللغة يتم من خلالها التعبير عن مفهوم من خلال مفهوم آخر يرتبط به بالضرورة. وبالمثل فإن الرغبة الكنائية تشير إلى رفض/طرد الرغبة في السياق الرأسمالي الاجتماعي. وينتج هذا الرفض إزاحة للرغبة يتمثل في إنتاج كائن الرغبة الكنائي. وعلى الرغم من أن الشخص مقسم جوهريا (السعي /الفقدquest and lack)،إلّا إنه سيخضع لقانون الواحد (اسم الأب) طالما أنه شخص في مجتمع،الأمر الذي يعيق الدوافع الأساسية ويؤسس لنظام اجتماعي يقوم على المراقبة والفصل والتي يتشكل منها الشخص في نهاية المطاف.
ترى كريستيفا أن التحليل النفسي اللاكاني يهتم بالجسد بوصفه (جسدا متحدثاً).والجسد الحقيقي والجسد النصي لهما الطبيعة ذاتها بقدر ما أنهما يتجسدان في اللغة. وكما أن العلامة مقسومة خطياً إلى (الدال / والمدلول) بحيث يطابق الدال المدلول الثابت، فإن الشخص (الوحدوي) يصبح ثابتا من خلال ارتباطه بهياكل اجتماعية متوحدة (قانون الواحد أو اسم الأب، بمعنى الأنظمة الأيديولوجية المغلقة وهياكل الهيمنة الاجتماعية). ولأنه ينشأ من ارتباطه بالقانون، وبالتالي ـوفي ظل عدم وجود كائن الرغبةـ فإن الشخص (الوحدوي) يكون محايداً، ولن يدخل في صراع مع نفسه. ولكن الادعاء بأن الشخص لا يتشكّل إلّا في ظل الرقابة يرفض كل التناقضات التي تجعل من هذا الشخص ديناميكياً. وعلى المنوال نفسه، فإن تعيين مدلول ثابت لكل دالة هو بمثابة تجريد العلامة ونسبها إلى نوع من الشمولية. لذلك تقول كريستيفا :"أن الشخص الوحدوي الذي اكتشفه التحليل النفسي ليس سوى لحظة واحدة، لحظة الاعتقال، والسكون، التي تم تجاوزها وتهديدها بهذه الحركة".
توضح كريستيفا أن الممارسات السيميائية ـ وخصوصا اللغة الشعرية ـ تشتق من اقتصاد آخر يختلف عن قانون التوحد الذي أسسه التحليل النفسي الذي يدرك أي تركيب دلالي (نصاً كان أو لغة) بوصفه "علامة بسيطة غير مجسدة، كلمة أبعد من الخبرة " . لا يجري التعيين تبعا للقانون الشمولي الكوني. ففي بعض عمليات التعيين، يتم تجاوز الشخص الوحدوي ـ الذي لا غنى عنه بالنسبة للتعبير اللفظي ـ من خلال عملية التعيين(significance). ويعني ذلك أن الدوافع والعمليات السيميائية هي واجهة ظاهرة اللغة. وفي عملية التعيين، فإن الشخص الوحدوي الذي يسعى إليه التحليل النفسي ليس سوى لحظة واحدة من السكون تمثل ذروة حركة التعيين التي تجري من خلاله.لا يمكن لعملية التعيين أن تكون قابلة للإدراج في الواحد. إنها تميل إلى رفض أي وضع موحد (الوعي / اللاوعي، الدال / المدلول). وهكذا فإن مفهوم كريستيفا يتكون من أخذ أي وحدة (الشخص، العلامة، اللغة) ووضعها ضمن عملية / تجربة (en process) :" تذيب هذه العملية العلامة اللغوية ونظامها (الكلمة، التركيب النحوي)، وهذا يشمل، حتى الضمان الباكر والأصلب للشخص الوحدوي" . وهكذا فإن الشخص ضمن العملية يهاجم كل سكون وركود في الشخص الوحدوي. إنه يهاجم كل بناء يقول لا (الرقابة) لدوافعه وتعقيداته. كل بناء يحدد بوصفه وحدة متماسكة. فالشخص الموحد قد تم استبداله بالشخص تحت السيرورة، ضمن عملية مستمرة (تفهم بوصفها حركة جارية) تمثله في فضاء التنقل والحركة: التشورا (chora) السيميائية. التي هي مكان التجديد الدائم في عملية التعيين (كينونتها وتحولها). وهي أيضاً المكان الذي تتكرر فيه عملية الانفصال. وبتعبير كريستيفا فإنها "تعدد عمليات الطرد الذي يضمن تجددها اللانهائي". وهكذا تصبح التشورا السيميائية حركة دائمة. تستحث العلامة و(الشخص) وتزودهما بالطاقة من خلال وضع الطرد في صلب تركيبها. إنها الطاقة الكامنة اللانهائية اللازمة لخلق حركيات التعيين الدائبة.
· باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:
1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.
2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014.
3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.
4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.











































