الإعلام الأردني مسؤول أم "كبش فداء"؟!

الرابط المختصر

أبدى عدد ممن حضروا لقاء الملك برؤساء الوزراء السابقين وبالنواب دهشتهم من الصراحة الملكية المطلقة. إلى درجة يصف فيها أحد السياسيين المخضرمين ذلك بالقول: "أصابتني القشعريرة".

السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا تكرس الحكومة هذه الشفافية الملكية في سياساتها الإعلامية؟ فإصرار رئيس الوزراء أنّ أيّا من صفقات البيع لم تتم دفع ببعض النواب والسياسيين إلى القول إنّ تقصير الإعلام الرسمي في تقديم الرواية الصحيحة والمنطقية قد عزّز من انتشار الإشاعات والمبالغة والتهويل في تصوير عمليات البيع وإثارة الرأي العام. ما دفع بعض الحضور للمطالبة بعودة وزارة الإعلام وضبط الرواية الرسمية، بدلاً من حالة التشرذم الحالية التي تسم المؤسسات الإعلامية الرسمية، ما يخل بعملها ويضعف موقف الحكومة إعلامياً وبالضرورة سياسياًَ.
ليست هذه المرة الأولى التي يلقي السياسيون أثقالهم على كاهل الإعلام، وبحضرة الملك. ففي لقاء سابق، أيضاً، حمل بعض كبار السياسيين على الإعلام واتهموه بالمبالغة وتضخيم الوقائع.
هل الحل هو عودة وزارة الإعلام، لتقوم بصوغ الرواية الرسمية وضبط إيقاع الإعلام أم أنّ الحل يكمن في رفع سقف الحريات وإخراج الإعلام من قمقم الرعب والوصاية الرسمية؟!
بناء الرواية الإعلامية الرسمية يمكن أن يتم داخل مؤسسة رئاسة الوزراء، باختيار كفاءات مهنية مدربة تتقن اللعبة السياسية وقواعد الصناعة الإعلامية، ويمكن إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية وتفعيلها بدلاً من الجمود الحالي. لكن ما هو أهم من ذلك، وما نفتقده، ليس بناء الرواية الرسمية، إنّما مساءلتها، واختبار مدى قدرة الإعلام بأن يشكل رافعة لصورة الوطن ومصداقيته، وقبل ذلك ليؤدي دوره بصفته "سلطة رابعة" تحمي الحريات العامة وتعزز الشفافية وتدافع عن حقوق الناس.
عودة وزارة الإعلام، كما يتم طرحها اليوم، من قبل تيار من السياسيين والرسميين، بمثابة خطوات كبيرة إلى الوراء. فلا يعقل أنه في الوقت الذي تخصخص مؤسسات الدولة وتباع أراضيها وممتلكاتها تقوم الحكومة بتأميم المؤسسات والحريات الإعلامية!
الإعلام الأردني مظلوم، والأكثر مظلوميةً هو الإعلام الرسمي، الذي يراد له أن يكون مشجباً تعلق عليه بلاوي الحياة السياسية وأزماتها. فالأزمة الإعلامية ليست في شح الإمكانيات المادية وقلتها، إنما في السقوف المنخفضة والتدخلات الدائمة التي تحد من قدرات الإعلام وتمنعه من القيام بأي دور حقيقي.
وإذا كان بعض الرسميين يتذرعون بالنزعات والأصوات الإعلامية المشوّهة التي تبرز هنا وهناك، وتسيء إلى صورة الإعلام، فإنّ سبب بروز الهامش هو ضعف المتن، أي غياب الإعلام الحر القوي ذي الحضور المحلي والعالمي. بل وتفضيل عدد من المسؤولين تصفية حساباتهم وتأمين مصالحهم عبر هذه الهوامش والمحسوبيات!
الأغرب من ذلك أن يصبح الإعلام منفذا لتبرير الضعف السياسي الواضح في العديد من المجالات. فبأي منطق يحمِّل وزير الخارجية الإعلام الأردني المسؤولية عن تراجع السياسة الخارجية خلال الفترة الأخيرة؟! هل الإعلام هو الذي سحب صلاحيات الوزارة وأضعف دورها ودفع بها إلى "الظل"؟! وهل هو الذي صاغ الموقف الأردني من الملفات الإقليمية؟!
وضع الكرة في ملعب الإعلام هو هروب مراكز القوى والسياسيين والنواب من مسؤولياتهم. ويكفي تدليلاً على ذلك السجالات التي حدثت في موضوع "بيع الأراضي" في الآونة الأخيرة. فليس الإعلام هو من بدأ القضية، بل هنالك تسريبات حكومية أطلقت العنان للإعلام. والاضطراب لم يكن إعلاميا بقدر ما عكس خلافاً وتداخلاً بين مراكز القوى والنفوذ، وغيابا للشفافية السياسية، سواء في قضية البيع والصلاحيات الدستورية والسياسية أو حتى في التعامل مع الإعلام.
أمّا البرلمان فقد أصابته الصحوة بعد أسابيع من سجالات ونقاشات وطنية ساخنة، ودخل على خط الأزمة في سياق استعراضي بعيداً عن دوره الحقيقي الطبيعي في مراقبة الحكومة ومساءلتها والدفاع عن مصالح المواطنين، بدلاً من التباكي عليها!
أزمة "بيع الأراضي" أبرزت بوضوح أنّ الفراغ الناجم عن غياب المعلومات وسيادة منطق التسريبات ستملأه الشائعات والتهويلات، ما يؤثر بصورة سلبية أكبر وأخطر على المزاج العام ويهز الثقة بين الدولة والمواطنين من جذورها، وهذا هو أحد أبرز مداخل التشكيك الذي حذر منه الخطاب الملكي في عيد الاستقلال قبل أيام.
إحدى أبرز المشكلات أنّ العديد من المسؤولين لا يزالون يتعاملون مع المعلومات وفق منطق الاحتكار والأعطيات للمحاسيب والأصدقاء من الإعلاميين، قافزين على قانون "حق الحصول على المعلومات" وعلى كافة الاعتبارات السياسية والقانونية. ولا يزال المنطق الفاعل هو منطق التسريبات المبنية على علاقات جهوية وشخصية ومصلحية. ولا تزال معايير اختيار القيادات الإعلامية تمنح الأولية والأفضلية لذوي القدرات المتواضعة والعلاقات الشخصية والأسس الهلامية الغامضة بدلاً من الكفاءة والمهنية والمصداقية.
الإعلام القوي الحر هو نتاج إرادة سياسية، وغياب الإعلام الأردني هو قرار سياسي بامتياز. أمّا ما يحدث بين فترة وأخرى من ارتفاع منسوب الحرية الإعلامية فلا يعدو أن يكون استثماراً لأزمة العلاقة بين مراكز القوى والنفوذ، أو تسريبات من بعض المفاصل ضد مفاصل أخرى، أو "ذكاء" بعض الإعلاميين والكتاب في استثمار المسافات الفاصلة بين هذه المؤسسات لرفع سقف الخطاب، ولو قليلاً.
في زمن الثورة الإعلامية والالكترونية لا يمكن العودة إلى الوراء وإلى سياسة "حراس البوابات"، بل الحل الاستراتيجي الوحيد هو تعويض قلة الموارد المالية برفع سقف الحرية السياسية وتمكين الطاقات المحترفة من المواقع الإعلامية. ففضاء الحريات اليوم أوسع بكثير من كهوف الحجر والتسلط والعصور الحجرية. وإذا فقد الناس الثقة بإعلامهم المحلي مكتوباً ومرئياً فإنّ المواقع الالكترونية والمدونات الشخصية والفضائيات تملأ الآفاق وهي كفيلة بصوغ المواقف والآراء وتحريك المياه الراكدة!

*نقلا عن صحيفة الغد الاردنية