الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وفلسفة التشريع الوطني
كثر الحديث عن مدى إمكانية الإستفادة من قرار المحكمة الدستورية الأخير حول شموله لإتفاقيات حقوق الإنسان التي صادق عليها الأردن سواء على شكل اصدارها على صيغة قانون من عدمه، ولن اخوض في هذا النقاش حسب قرار المحكمة الدستورية او قرارات محكمة التمييز العديدة والمتوالية والتي صدرت أوائلها منذ ستينيات القرن المنصرم، ولكن سأناقش الموضوع من وجهة نظر القانون الدولي لحقوق الإنسان لتجلية بعض تلك المسائل التي دار الجدل حولها.
الإلتزام بالمعاهدة الدولية:
إن الجدل حول تسمية الإتفاقية بمعاهدة أو اتفاقية أو غيره وما قد يؤثره على التزام الدولة كلام لا معنى له، فإنه وحسب اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 فقد أكدت على أنه قصد بـ "المعاهدة" الاتفاق الدولي المعقود بين الدول في صيغة مكتوبة والذي ينظمه القانون الدولي، سواء تضمنته وثيقة واحدة أو وثيقتان متصلتان أو أكثر ومهما كانت تسميته الخاصة. وبناء عليه فلا مبرر لهذا الجدل لأن كلمة معاهدة تشمل عناصر لا علاقة لها بتسميتها أيا كان، وبالتالي فأيا كانت تسميتها فهي ملزمة.
أما بالنسبة الى شكل الإنضمام للإتفاقية سواء على شكل مصادقة أو إنضمام أوموافقة فإنه وحسب إتفاقية فيينا للمعاهدات فإن الدولة تعتبر ملزمة بغض النظر عن شكل موافقتها التي عبرت عن رضاها وقبولها لتلك الإتفاقية. وبالتالي يقصد "بالدولة المتعاقدة" الدولة التي رضيت الالتزام بالمعاهدة سواء دخلت حيز التنفيذ أم لم تدخل. وهنا فإن الجدل في الأردن حول صدور الإتفاقية على شكل قانون أم لا ليس ذو أثر لأن الدولة تصبح متعاقدة بكل الظروف بسبب قبولها بالإتفاقية وأعتبار نفسها مصادقة.
وبالتالي فإن كل معاهدة نافذة ملزمة لأطرافها وعليهم تنفيذها بحسن نية، أما فيما يتعلق بمدى سموها على القوانين الوطنية فقد نصت المادة 27 من إتفاقية فيينا على أنه لا يجوز لطرف في معاهدة أن يحتج بنصوص قانونه الداخلي كمبرر لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة.
فيما أشارت المادة 46 على أنه ليس للدولة أن تحتج بأن التعبير عن رضاها الالتزام بالمعاهدة قد تم بالمخالفة لحكم في قانونها الداخلي يتعلق بالاختصاص بعقد المعاهدات كسبب لإبطال هـذا الرضا إلا إذا كانت المخالفة بينة وتعلقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي.
وقد يبدو أن هاتان المادتان متعارضتان على إعتبار أن المادة 46 فرضت قيدا على المادة 27، الا انه عند التدقيق فإن القيد تعلق من ناحية جهة الإختصاص بعقد المعاهدات كسبب لإبطال الرضا بالإتفاقية وليس رفضا لمبدأ الإلزام، وأقول هنا أن المادة 33 من الدستور والتي قد حددت جهة الإختصاص بإبرام المعاهدة بالملك، فيما تعرض على مجلس الأمة في حال كانت تمس حقوق الأردنيين العامة أو الخاصة أو تكلف خزينة الدولة شيئا من النفقات، أقول إن رضا الدولة الأردنية لم يخرج عن أي من هاتين الجهتين في كل الحالات التي صادق عليها الأردن على اتفاقيات حقوق الإنسان، وبالتالي فلا يمكن هنا الإستناد الى المادة 46 كسبب لإعتبار الإتفاقية غير نافذة بسبب إشكالية تتعلق بالإختصاص إن وجدت ابتداءا.
الإلتزامات الناشئة عن اتفاقيات حقوق الإنسان:
أود أن أذكر ابتداءا أنه وبما أن الأردن قد صادق على ميثاق الأمم المتحدة قد اصبح ملزما بذاك الميثاق والذي من أهدافه حسبما ورد في العديد من مواده هو الإلتزام بحقوق الإنسان، وبالتالي فإن الميثاق قد فرض الإلزام بالإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان من حيث المبدأ، وهنا يثار تساؤل حول ما هو مبرر إنشاء اتفاقية لحقوق الإنسان إن كان الميثاق قد ألزم الدول بحقوق الإنسان كون الدولة منضمه الى الميثاق ؟ و لماذا تطالب الأمم المتحدة الدول بالمصادقة على اتفاقيات حقوق الإنسان؟ أي ما القيمة المضافة لمصادقة الدولة على اتفاقيات حقوق الإنسان ؟
القيمة المضافة هو أن الإتفاقيات تقدم لنا تعريفا مفصلا سواء بالنص او بالتعليقات العامة لمفهوم حقوق الإنسان كمعنى التمييز والتعذيب والمساواة وغيره الكثير، والأمر الآخر أن الإتفاقيات تقدم لنا ما هي تفاصيل التزامات الدول في مجال تطبيق حقوق الإنسان سواء بالإحترام أم بالحماية أم بالأداء، حيث لم ترد هذه التفاصيل بالميثاق.
ونتيجة هذا الكلام أن الدولة سواء كانت مصادقة على إتفاقيات حقوق الإنسان أم لا فإنها ملزمة بمضمون حقوق الإنسان بموجب ميثاق الأمم المتحدة، وعلى أقل تقدير لا يجوز للدولة أن تقوم بأفعال مخالفة لمقاصد الأمم المتحدة، ولا أدل على هذه الإلزامية أن أنشأت الأمم المتحدة آليات سميت بآليات غير تعاهدية لحقوق الإنسان من اجل مساءلة الدول عن التزاماتها بحقوق الإنسان حتى لو لم تكن الدولة مصادقة على الإتفايات، ومن هذه الآليات الإستعراض الدوري الشامل ولإجراء 1503 والإجراء 1235.
آلية إنفاذ الإتفاقيات الدولية في التشريع والقضاء الوطني :
سوف أطرح أبرز تلك الإلتزامات بموجب ما ورد في تعليقات اللجنة المعنية بحقوق الإنسان والتي ترصد تقييم أداء الدول للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي وضعت معاييرا لتلك الإلتزامات والتي تنطبق على بقية الإتفاقيات أيضا.
ابتداء لا يجوز للدولة أن تبرر إخفاقها في عدم تطبيق الإتفاقيات لأسباب تتعلق بنظامها السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي او التشريعي أو غيره، وثانيا أشارت اللجنة الى أنه عندما لا يكون هناك وجود لأحكام تضمن المطالبة بإعمال الحقوق المنصوص عليها في العهد أمام المحاكم المحلية، وعندما لا تكون هناك كذلك إمكانية متاحة لتقديم الشكاوى الفردية إلى اللجنة المعنية لحقوق الإنسان في إطار البروتوكول الاختياري الأول، تكون جميع العناصر الأساسية للضمانات المنصوص عليها في العهد قد أزيلت. وبما أن الأردن ليس مصادق على البروتوكول الإختياري الأول للعهد والخاص بتقديم الشكاوى فإن المطلوب إذن هو تطبيق تلك الإتفاقيات أمام المحاكم الوطنية حتى يمكن القول ان الدولة تضع آلية ذاتية لإلزامها.
وأكدت اللجنة على أن مسؤولية تطبيق العهد تقع على جميع السلطات الوطنية التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث أن الذي صادق على العهد هو الدولة وليست السلطة التنفيذية فحسب، إذن لا يجوز للسلطة التشريعية أن تتخلى عن مسؤوليتها بأن تسن قانونا مناقض للعهد كما لا يجوز للمحاكم الوطنية أن تنفذ القانون الوطني المناقض للعهد.
وأخيرا، ألا يمكن القول أن سيادة الدولة بهذا الشكل قد تلاشت امام سمو القانون الدولي ؟ للأجابة فإنه ينبغي التوضيح أن مفهوم السيادة الذي كفلته منظومة الأمم المتحدة لا يعني أن الدولة حرة في إنتهاكات حقوق الإنسان، وإنما تعني السيادة هنا أن مسؤولية تنفيذ الإتفاقية تقع على الدولة التي صادقت وليس على الأمم المتحدة، فالأمم المتحدة لا تقوم بدور بديل عن سلطات الدولة.
لذا حددت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان آليات متاحة للدولة كي تختار وسيلة إنفاذ الإتفاقيات الدولة على قاعدة أن ذلك مسؤوليتها ومن باب إحترام سيادة الدولة، ولهذا فهي أتاحت للدولة وسائل وخيارات متعددة للتنفيذ، وتتمثل بالآلية القضايئة بأن تختار اي من هذه الوسائل التالية:
التطبيق المباشر للعهد، أي أن يستند القضاء الوطني في قراراته الى النصوص الواردة في العهد مباشرة وإن خالفت القانون الوطني.
تطبيق النصوص الدستورية المتوافقة مع العهد، بمعنى تطبيق التشريعات الوطنية التي لا تخالف العهد، بحيث لا يشترط ذكر العهد كمرجع للقرار القضائي إن كان التشريع الوطني لا يخالفه.
الإستناد الى تفسيرات لجان حقوق الإنسان في تطبيق التشريعات الوطنية، بمعنى أن يكون سند القرار القضائي هو للقانون الوطني ولكن تفسيره الفقهي يعود الى نصوص المعاهدة أو الى تفسيراتها الواردة في اللجان.
ادماج ( مواءمة ) التشريعات الوطنية مع الإتفاقيات الوطنية، وهذا يعني أنه عندما لا يكون هنالك إسناد مباشر من قبل القضاء الوطني في أحكامه الى العهد فإن البديل هو تعديل التشريعات الوطنية بموجب المعاهدة، ولكن هذه الوسيلة قد تأخذ وقتا طويلا كما هو في الحالة الأردنية، حيث ما زالت العديد من التشريعات الوطنية منذ عقود تخالف الإتفاقيات، ولكن نذكر أنه الى حين إجراء تلك المواءمات فإنه ينبغي للدولة أن تطبق الخيارات الثلاث الأولى.
تحويل الإتفاقية الى قانون وطني، وهذه تعني أن تصدر الإتفاقية على شكل قانون وطني، وأعتقد أن أنسب شيئ لهذه الحالة هو في الحالات التي يكون فيها فراغ تشريعي لبعض المواضيع، بمعنى أن القانون الوطني لم يتناول هكذا مسائل، مثال أن الأردن يخلو من قانون وطني ينظم حقوق اللاجئين، فيمكن سن قانون وطني للاجئين، ولكن للتأكيد أن ذلك لا يعني اشتراط العهد أن الدولة ينبغي ان تصدر كل المعاهدات على شكل قانون وطني، مذكرين ان الآليات الأربع السابق تبقى لها فعاليتها كخيارات للدولة.
فلسفة تشريع حقوق الإنسان في الأردن:
أمام كل ما ذكر يتضح أن الدولة ملزمة بتطبيق حقوق الإنسان الواردة في القانون الدولي وبكل الظروف، ولا يجوز ان يكون هنالك مبرر لقبول قانون وطني مخالف للإتفاقيات الدولية، وعلى الدولة أن تتخذ اي من الوسائل لإنفاذها على مستوى التشريع والسياسات والممارسات، ولها الخيار في إتخاذ الوسائل التي طرحتها الأمم المتحدة في سبيل تطبيقها، والمهم هو تطبيقها.
ويبقى السؤال لنا في الأردن، يا ترى أي تلك الوسائل المتاحة هي الأنجع ؟ وهل بقي لنا مبررات لعدم تطبيق الإتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ؟ وهل يوجد لدينا فلسفة تشريع واضحة تتعلق بتشريع حقوق الإنسان ؟ فلماذا توجد العديد من النصوص التشريعية ما زالت حتى اللحظة تخالف صريح ما ورد في إتفاقيات حقوق الإنسان ؟ ينبغي أن تكون هنالك إجابات واضحة من قبل مجلس الأمة الذي يسن القوانين التي يخالف بعض منها ما ورد في الإتفاقيات، وسؤال واضح حول دور القضاء الوطني في تطبيق الإتفاقيات الدولية، وينبغي على الحكومة أن تطور برامجها وسياساتها وممارستها وأنظمتها بما يتوافق معها.
ولكن يبقى سؤال توافر الإرادة لتطبيق حقوق الإنسان ومن ثم الحاجة الى وضع فلسفة تشريع واضحة في هذا الشأن لإختيار الوسائل الأفضل، وهو ما يستوجب حوارا وطنيا جادا بين الحكومة والبرلمان والمجلس القضائي والمحكمة الدستورية والمركز الوطني لحقوق الإنسان ومنظمات المجتمع الوطني لوضع أجندة واضحة للفلسفة التشريعية الوطنية إستنادا الى القانون الدولي لحقوق الإنسان وأفضل الممارسات عالميا.