الأزمة اللبنانية والتجربة الأردنية
يشهدُ لبنانُ اليومَ احتجاجات شعبية واسعة، أتت بعد عقود من الممارسات السياسية الطائفية والسياسات الاقتصادية الخاطئة والفساد المقدر بمليارات الدولارات، لم يعد الشعب اللبناني قادرا على تحمله. بعد سنوات طويلة من «الهندسة المالية» من قبل البنك المركزي اللبناني للتغطية على العجز الكبير في ميزان المدفوعات -حيث كان يصل العجز في السنوات الأخيرة إلى أكثر من خمسة عشر مليار دولار سنويا- عن طريق استقطاب أموال خارجية لإيداعها في المصارف اللبنانية بفوائد خيالية بالدولار، استنفدت هذه السياسة كافة مقوماتها. ولم يعد النظام المالي قادرا على التعامل أيضا مع حجم الدين وعجز الموازنة.
وأدى التوقف القسري لهذه الممارسات وفقدان الثقة بالنظام المصرفي إضافة لفقدان الثقة أيضا بنظام سياسي يعتمد على المحاصصة الطائفية، واستحواذ المتنفذين على موارد الدولة من دون حسيب أو رقيب حقيقيين إلى نزول الناس للشارع.
ما العمل للخروج من هذا المأزق؟ لقد تم اقتراح العديد من الخطط الاقتصادية لوقف النزف المالي واستعادة لبنان لعافيته الاقتصادية على مدى سيمتدُّ لأكثر من خمس أو حتى عشر سنوات. وسيحتاج لبنان بالتأكيد إلى مساعدات خارجية قد تصل لأكثر من خمسة وعشرين مليارا من الدولارات حتى مع اتخاذه لكافة الإجراءات المالية والإصلاحات الاقتصادية البنيوية المطلوبة.
لكن معظم هذه الخطط لم تعالج مسألتين أساسيتين، تتعلق الأولى منهما بمصدر هذه المساعدات الخارجية. لقد ولَّى زمن المساعدات الخارجية لأي دولة بحجة أن المجتمع الدولي لن يسمحَ بسقوط دولة معينة أو انهيارها. ولم تعد هذه الحجة مقنعة لأحد في المجتمع الدولي. ليست هناك من دولة أو جهة خارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، مستعدة لمنح ولو جزء من هذه المبالغ إن لم تكن مقتنعة بجدية الحكومة اللبنانية، ليس فقط في وضع السياسات المالية المناسبة، لكن بتنفيذها أيضا.
يعني ذلك وجود إرادة سياسية لدى كافة الفرقاء، بما في ذلك من دعم تشكيل الحكومة الجديدة وعلى رأسهم حزب الله، للابتعاد عن الممارسات السياسية والاقتصادية السابقة، وانتهاج سياسة مالية حصيفة ومحاربة الفساد المستشري دون هوادة، وهي إرادة من الواضح تماما أنها لا تزال غائبة عن ذهن صناع القرار في لبنان، الذين ما زالوا متشبثين بسياسات الماضي، يتصارعون على توزيع الحقائب بينما الشارع يغلي وسفينة البلاد تغرق.
لكن المسألة الأساسية الثانية التي لا تزال غائبة عن ذهن المسؤولين اللبنانيين أنه لا مجال لأي خطة اقتصادية أن يكتب لها النجاح، وأن يقتنع ويقبل بتنفيذها الشارع، إن لم يرافقها إجراءات سياسية جادة تنتج إشراكا أكثر جدية للناس في عملية صنع القرار، وتجدد العقد الاجتماعي اللبناني بين مختلف مكونات المجتمع على أسس جديدة تبتعد عن الطائفية، وتقترب من المواطنة المتساوية للجميع بغض النظر عن الدين أو الجنس أو الفكر أو المكانة الاجتماعية.
تحضرني هنا التجربة التي خاضها الأردن عام 1988 حين تعرض لأزمة اقتصادية خانقة، كان سببها أيضا التوسع في الإنفاق الحكومي والعجز المتزايد في ميزان المدفوعات والموازنة، والذي أدَّى في النهاية لتبخر احتياطي البنك المركزي الأردني من العملات الأجنبية بالكامل، ولبيع جزء من احتياطي الذهب ولفقدان الدينار الأردني لأكثر من خمسين في المائة من قيمته في غضون أسابيع.
لم يكن هناك حل اقتصادي آني للمشكلة، ولم تتقدم أي دولة عربية أو أجنبية بدعم مالي جاد لإنقاذ البلد. واضطر الأردن لتوقيع برنامج قاس مع صندوق النقد الدولي امتد لخمسة عشر عاما. ولكن، المغفور له، الملك الحسين أدرك أنه ما من مجال للإصلاح الاقتصادي من دون تلازمه مع إصلاح سياسي يوسع دائرة صنع القرار، ويوافق على -كما يراقب- برنامج الإصلاح الاقتصادي، ويشعر المواطن أنه شريك حقا في عملية صنع القرار.
فما كان منه إلا أن دعا إلى انتخابات نيابية شاملة كانت الأولى منذ عام 1967، ووفق قانون انتخابات نظر إليه بشكل واسع على أنه عادل وممثل، وأجريت انتخابات كانت الأكثر حرية في تاريخ المملكة، وأنتجت مجلسا نيابيا شكلت المعارضة الحقيقية فيه أكثرَ من أربعين في المائة. وقد وافق هذا المجلس على البرنامج الاقتصادي الذي أدى، ورغم قسوته، إلى إنقاذ البلاد.
لم يكتفِ جلالته بذلك، بل شكل لجنة وطنية لكتابة عقد اجتماعي جديد بين كافة مكونات المجتمع، وأدى هذا الجهد، الذي شاركت فيه كافة الأطياف السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ما دعي بـ«الميثاق الوطني الأردني» الذي جدد قواعد العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، والذي حالت الظروف بعد ذلك دون تثبيته رسميا في الدستور الأردني.
خلاصة القول إن هذه الإجراءات السياسية أنقذت البلاد من انهيار اقتصادي محقق، وأدَّت بالتزامن مع سياسات اقتصادية جديدة إلى خروج الأردن من محنته الاقتصادية. ولو لم يدعُ الملك الحسين إلى مثل هذه الإجراءات السياسية لما قبل الناس بالإصلاحات الاقتصادية الصعبة وحدها. بالتالي، يتوجب على صانعي القرار اللبنانيين أن يدركوا استحالة إدارة البلاد وفق الأسس القديمة، التي أنهتها إلى غير رجعة الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ولا تزل مستعرة.
هذا هو الدرس الأهم الذي يجب استيعابه في المنطقة، وهو أن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها، خاصة تلك الناتجة عن غياب الحاكمية الرشيدة، السياسية منها والاقتصادية، إضافة لاستفحال الفساد، لا يمكن معالجتها عن طريق طلب المزيد من التضحيات من الناس، من دون أن يرافق ذلك إرادة جادة لنمط سياسي جديد في الحكم أكثر تشاركية في صنع القرار وأكثر جدية في وضع الإجراءات اللازمة بمحاربة الفساد بطريقة منهجية.
بغير ذلك، لن يقبل الناس بعد اليوم نمط الإدارة القديم، حتى لو تم تطوير أفضل الخطط الاقتصادية، وستبقى الاحتجاجات الشعبية مستمرة لأن الناس لم يعد لديها ما تخسره.
(الشرق الأوسط)