اغتيال نصر الله يضع حزب الله ووحدة الساحات أمام "لحظة مفصلية"

الرابط المختصر

يضع اغتيال الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله، في ضربة إسرائيلية استهدفت مقر قيادة الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 سبتمبر 2024؛ الحزب وسط "لحظة مفصلية" ما بين قُدرته على استعادة توازنه، أو مواجهة حملة إسرائيلية تسعى إلى حسم الجبهة اللبنانية لعقود قادمة، فإلى جانب الأمين العام للحزب، قتلت الضربة ما يزيد عن عشرين قائداً في الحزب بحسب الجيش الإسرائيلي، من بينهم الرجل الثالث فيه علي الكركي، وعدد من أعضاء الحرس الثوري الإيراني من بينهم عباس نيلفوروشان نائب قائد الحرس الثوري، استخدمت فيها إسرائيل 85  قنبلة خارقة للتحصينات بعمق يصل إلى 70 مترا تحت الأرض، وتزن الواحدة منها طناً من المتفجرات، فيما أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على العملية مسمى "النظام الجديد"، في دلالة على اتجاه إسرائيلي لفرض وقائع جديدة على الساحة اللبنانية، ما يضع تساؤلات مُلحة حول وضعية "حزب الله" في المواجهة، والمقاربة الإيرانية تجاه أحد أهم حلفائه، وحول موقف الأطراف الأخرى في "وحدة الساحات"، والتي تتحدد جميعها في طبيعة الردود القادمة على اغتيال نصر الله.

الموقف الميداني الحالي لـ "حزب الله"
يواجه "حزب الله" لحظة مفصلية، حيث تعرض هيكله العسكري والقيادي والأمني إلى أضرار شديدة، وبالرغم من التباين الكبير ما بين الحزب وإسرائيل في ميزان القوة العسكرية، إلا أن الأوساط الإسرائيلية وتقديراتها الأمنية كانت دائماً تُشير إلى السيناريوهات الأسوأ في حالة اندلاع حرب واسعة بين الحزب وإسرائيل، لا سيما في استهداف الحزب للمنشآت والمواقع الاستراتيجية المدنية والعسكرية من موانئ ومطارات ومنشآت الطاقة وغيرها، ففي يونيو 2024، حذر شاؤول غولدشتاين رئيس إدارة الطاقة الكهربائية في إسرائيل أن "حزب الله" قادر على إسقاط شبكة الكهرباء الإسرائيلية بسهولة، وقد انطلقت تلك المخاوف من حقيقة أن الحزب مُسلح ومُدرب ويتمتع بقوة نارية أفضل مُقارنة بحركة حماس، ومن تجربة إسرائيل في حربها الأخيرة مع الحزب عام 2006.

لكن؛ على عكس ما كان مُتوقعاً؛ أظهر "حزب الله" ضعفاً ملحوظاً في الاستجابة أو الرد على سلسلة الضربات التي قتلت كبار قادته ومواقع تخزين الأسلحة والصواريخ. وعلى ما يبدو شكلت تلك الضربات مُفاجئة للحزب ووضعته تحت ضغط هائل لسد الثغرات في صفوفه بعد أن اكتشف عمق التفوق الاستخباراتي الإسرائيلي والانكشاف الواسع لبنيته أمامها، إلى جانب أن تلك الضربات وجهت للحزب ضربة نفسية ومعنوية وهيكلية. تعذر معها إعلان الحرب، أو تفسير ما يجري باعتباره تجاوزاً لعتبة الحرب، وقد كان ذلك مُلاحظاً في الظهور الأخير لحسن نصر الله في 19 سبتمبر 2024، الذي حافظ أثناءه على قواعد التصعيد المنضبط. ذلك بالرغم من أن سلسلة الضربات الإسرائيلية منذ اغتيال فؤاد شكر، ومروراً بتفجيرات أجهزة النداء واللاسلكي واغتيال التسلسل القيادي لوحدة الرضوان وغيرهم من كبار قادة الحزب، كانت تُشير أن إسرائيل تجاوزت أهدافها بإعادة المستوطنين إلى مُستوطنات الشمال، وبدأت توسع استراتيجيتها نحو تحقيق حسم استراتيجي في الجبهة اللبنانية.

 

المحاولات الإسرائيلية لفصل المركز عن الأطراف
يتجلى المشهد الحالي في تكثيف الضربات النوعية وتتابعها، وبشكل يُؤدي إلى إحداث شلل في منظومة الحزب وفراغ في قيادته، حيث أن الضربة الإسرائيلية التي قتلت حسن نصر الله، أصابت أيضاً المركز الرئيس للقيادة والسيطرة، وقد عانى الحزب إثر الضربة من انقطاع في الاتصالات ما بين المركز والأطراف، وذلك وضع الآلاف من مقاتليه المنتشرين في الميدان دون توجيه، ومن غير المعروف ما إذا استعاد الحزب سيطرته المركزية على فروعه ووحداته، فمن المُفترض أن استعادة السيطرة واستيعاب الخسائر وترميم بنيته والدخول في ترتيب مرحلة انتقالية ما بعد حسن نصر الله يتطلب فترات من الهدوء أو وقف إطلاق النار، إلا أن الإدراك الإسرائيلي لهذه التفاصيل تجعل من وقف إطلاق النار مسألة مشكوك فيها، ولذلك رفضت بشكل قطعي المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوماً، بل وتتجه لرفع مُستوى ضغوطها على الحزب ذهاباً إلى:

1- محاولة الإخلال ببنيته الاجتماعية، فقد أعقب اغتيال نصر الله، إصدارها للمرة الأولى أوامر إخلاء مناطق من الضاحية الجنوبية.

2- إغلاق المنافذ التي يمكن أن تسهم في ترميم الحزب لقوته على مستوى القادة والمعدات، وخاصة من جانب الدعم الإيراني جواً وبراً، ففي 28 سبتمبر وجه الجيش الإسرائيلي ضربات جوية على بنى تحتية عسكرية عند الحدود السورية اللبنانية وأعلن عن فرض حصار عسكري على لبنان.

3- إبعاد مقاتلي الحزب عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية إذ تتزايد مؤشرات تنفيذ الجيش عمليات برية، تؤدي إلى إنشاء حزام آمن حتى نهر الليطاني.

في المُقابل؛ فإن وضع الحزب في خانة من المخاطر الوجودية من حيث القوة والمشروع، قد يدفع به لاختبار القدرات القٌصوى لديه لمواجهة الضربات الإسرائيلية، وقد يكون ذلك مدفوعاً بالتغير في هرمه القيادي، خاصة إذا ما جاء رئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين خلفاً لحسن نصر الله، والذي يتمتع بتأثير قوي داخل الحزب، ولديه علاقات وثيقة مع إيران، أو قد يكون مدفوعاً بوجود عقد قتالية أو خلايا مُسلحة أصبحت بعد الضربة الأخيرة خارج إطار قيادي وتوجيهي من مركز الحزب، والتي قد تُقدم على هجمات غير متوقعة. إلى جانب أن الحزب يبدو في لحظة يحتاج فيها إلى مشاركة أوسع من الأطراف الأخرى في "وحدة الساحات"، والتي اتبعت منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، استراتيجية تقوم على التوزيع الجغرافي للجهد العسكري والردود الأمريكية أو الإسرائيلية بما يُخفف الضغط عنها ويمنع ساحة بعينها من مواجهة الزخم العسكري الإسرائيلي أو الأمريكي، وهذا في الواقع ما يُواجهه “حزب الله” حالياً. ولذلك فإن المقاربة من قبل إيران ووكلائها، للهجمات الإسرائيلية الأخيرة في لبنان، يُفترض أن تتجاوز قواعد الضربة والضربة المقابلة، إذ أن الهجمات الإسرائيلية قد تمتد إلى أطراف أخرى بعد لبنان، حيث هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 29 سبتمبر أنه "من يضربنا، سنضربه. لا يوجد مكان في إيران أو الشرق الأوسط لن تصل إليه ذراع إسرائيل"، وتهديد الجيش الإسرائيلي للحوثيين بأن "وقتكم سيأتي". وهذا يضع في حسبان إيران ووكلائها، أن الرد إن وُجد يجب أن يرقى إلى مُستوى الردع، وبما يضع على إسرائيل تكاليف تمنعها من توجيه ضرباتها بمرونة وأريحية كما حدث مع "حزب الله".

طبيعة الردود ما بعد اغتيال حسن نصر الله
في الواقع تضع الأحداث الأخيرة "حزب الله" وإيران وغيرهم من أطراف "محور المقاومة"، أمام ثلاثة خيارات:

أولاً: التمسك بضبط النفس، وفي هذا الخيار يُحافظ "حزب الله" وإيران وغيرهم من أطراف "وحدة الساحات"، على مُستوى المواجهات الحالي، وفيه يبقى "حزب الله" منفرداً بإدارة المعركة دون اشتراك واسع من إيران والحوثيين والفصائل العراقية، فمن جهة لا يبدو أن الحزب قادر على الرد بشكل مُتناسب على اغتيال نصر الله، ومن جهة أخرى؛ قد تخشى الأطراف الأخرى من ردة الفعل الإسرائيلية تجاهها، فيما قد تفضل إيران عدم الرد لتفويت الفُرصة على إسرائيل بجرهم إلى حرب إقليمية قد تشترك فيها الولايات المتحدة بمهام دفاعية وهجومية، خاصة وأن إسرائيل تُبدي استعدادا واسعاً للرد بشكل غير مكافئ على أي هجمات ضدها. بالإضافة إلى أن الهجمات الإسرائيلية في سوريا ولبنان أضعفت إلى حد كبير من قُدرة إيران على دعم "حزب الله"، أو التحرك من الساحات الأخرى ضد إسرائيل. مع ذلك؛ وبالرغم من تضرر الهيكل القيادي والأمني لدى الحزب، إلا أن احتمالات انتظاره لأي توغل بري إسرائيلي في لبنان، من أجل إعادة ترميم صورته أمر وارد، خاصة أن ذلك التوغل قد يزيد من نشاط العقد القتالية في الميدان والتي يُقدر مقاتليها بالآلاف، وذلك يعني أن الحزب يتطلع في هذه المرحلة للحفاظ على ما يُمكنه من قدرات لإعادة ترميم الحزب على المدى البعيد، فيما تسعى إيران للحفاظ على الجسد ومنع تضررها بتضرر الأذرع.

ثانياً: القيام برد يتجاوز مستوى وسياق المعطيات الميدانية الحالية سواء من "حزب الله" أو إيران ووكلائها، من خلال توجيه ضربات صاروخية نوعية على المدن في العمق الإسرائيلي، وبما يُشبه المحاولات السابقة، ومن بينها استهداف "حزب الله" تل أبيب بصاروخ يُطلق للمرة الأولى باسم "قادر 1" في 26 سبتمبر، وكذلك استهدافه بصاروخ بعيد المدى مُستوطنة قرب القدس في 28 سبتمبر. وعلى المنوال نفسه يُحتمل أن يكون الرد من الحوثيين والفصائل العراقية، فقد أطلق الحوثون صاروخاً باليستياً تمكن من اختراق الدفاعات الجوية، وسقط في منطقة كفار دانيال قُرب مطار بن غوريون، في حين انفجرت طائرة مسيرة أطلقتها الفصائل المسلحة العراقية في قاعدة عسكرية في 24 سبتمبر. وهذا يعني أن أطراف "وحدة الساحات" لا تزال قادرة على تنفيذ هجمات معقدة تتجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية وتصل إلى أهدافها، إلا أن هذا النوع من الهجمات قد لا يفرض تغيرات على مُعادلة الردع التي باتت تميل لصالح إسرائيل، وقد لا تؤدي إلى وقف الاستنزاف الحاصل في قدرات "حزب الله" أو فرض تغيرات جوهرية في المعركة الجارية بلبنان، ولا يرقى لمستوى إعلان تلك الأطراف "الحرب المفتوحة".

ثالثاً: القيام بما يتناسب مع طبيعة الهجمات الإسرائيلية، ويرقى هذا الخيار من "حزب الله" وإيران وغيرهما، إلى إعلان "حالة الحرب"، والقيام بسلسلة من الضربات تتجاوز الردود التقليدية وتستهدف منشآت استراتيجية ويترتب عنها خسائر اقتصادية وبنى تحتية مدنية وعسكرية، وتُشارك فيها إيران بشكل رئيس، من منطلق تأجيلها لردها عن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران في 31 مايو 2024، والذي أصبح أقل أهمية في ضوء الأحداث اللاحقة، بالإضافة إلى أهمية حسن نصر الله و "حزب الله" في السياسة الإيرانية الإقليمية، ويُفترض أن يكون ردها رسالة إلى أطراف المحور الأخرى بقدرات طهران في الدفاع عنهم، فإن حالت الحسابات السياسية الداخلية في إيران دون الردّ على الهجمات الإسرائيلية غير المسبوقة ضد "حزب الله"، فإنّ بقية الأطراف ستُرجح أن الاستراتيجية الإيرانية آخذة بالتبدل من تحول علاقتها بهم من شكلها العضوي المرتبط بالأمن القومي لإيران إلى شكلٍ مصالحي تحكمه الأحداث وتطوراتها أكثر. إلى جانب أن شخصية عسكرية إيرانية قُتلت في عملية اغتيال حسن نصر الله، وهو عباس نيلفوروشان، نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، الأعلى في سلسلة القيادة العسكرية من قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني. وقد يكون هذا الخيار هو الوحيد أمام أطراف "وحدة الساحات"، لاستعادة الردع بشكل كُلي، ووضع المنطقة على أقرب نقطة من الحرب الإقليمية، لتوضيح تبعات استمرار الهجمات الإسرائيلية، والضغط على الولايات المتحدة التي ستشهد انتخابات رئاسية بعد قرابة الشهر.