اغتيال الحريري في الصحافة الأردنية.. مهزلة تغطية المأساة

الرابط المختصر

يحدث أحيانا أن يدافع البعض عن الصحيفة الورقية في مواجهة وسائل الإعلام الحديثة، ولهم من الحجج أن الصحيفة أكثر دقة في تغطيتها للحدث واقدر على إسباغ بعدا تحليليا على الخبر. على أن مراجعة تغطية الصحف المحلية، اليومية والأسبوعية، لخبر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وتداعياته تظهر ما يخالف ذلك. تغطية الصحف اليومية لخبر الاغتيال وتداعياته

في الساعة الواحدة الا ربعا من الرابع عشر من شهر شباط الحالي، هز انفجار عنيف العاصمة اللبنانية، سمع دويه على بعد عدة كيلومترات، فهرعت محطات التلفزة الكثيرة الى مكان الحادث وبدأت في بث الخبر مباشرة الى الجمهور من موقع الحدث وأعطت الخبر ابعادا تحليلية عبر استضافة معلقين ومسؤولين. فماذا بقي للصحف التي ستصدر بعد عشرين ساعة على الحدث؟

في الواقع كان ممكنا ان يبقى الكثير، ولكن ما فعلته الصحف انها اعادت نشر الخبر وتداعياته بصورة كاريكاتورية، بنسخة مشوه.

في اليوم التالي خرجت الصحف وقد خصصت عناوينها الرئيسية للحدث. في الأيام اللاحقة بقي الخبر يحتل حيزا على الصفحة الاولى وعناوينها بتركيز على الجنازة الكبيرة وتداعيات الموقف بين سوريا والولايات المتحدة.

كميا، حاز الحدث حتى السبت 19 شباط، على ما معدله 65 مادة خبرية تقريبا في كل صحيفة من الصحف اليومية الرئيسية وكانت "الرأي" هي الأكثر في كم التغطية الخبرية. باستثناء اربع او خمس اخبار محلية على صلة بالحدث، اهمها "تعزية الملك للحود والوفد الاردني للمشاركة في الجنازة، وثلاثة تقارير اقتصادية في (الدستور والغد والرأي)، وبيان للأحزاب الاردنية تندد وتتهم إسرائيل، والملكة تعزي"، اعتمدت التغطية على وكالات الأنباء.

بات من نافل القول، ان الصحف المحلية لا تمتلك مراسلين ولم تبعث بمندوبين إلى مكان الحدث أو لتغطية تبعاته وتداعياته، ولا هي نشرت مواد تخصها سوى متابعات بسيطة غدت تقليدية وروتينية مملة مثل الاتصال بالسفير اللبناني للتعليق على الحدث او استطلاع رأي بعض الشخصيات السياسية في الاردن او استنطاق مواطنين لبنانيين يعيشون بين ظهرانينا. وربما تعكس طريقة المتابعة هذه عجزا في الابتكار واستسهالا لافكار تعود عليها مندوبو الصحف يهرعون عليها كلما وقع حدث ما.

ومن الملاحظات أيضا على التغطية هو لجوء صحيفة "الغد" الى اجتزاء او بسترة الخبر إلى اقصر الممكن والامر يعتمد على مدى تقدير المحرر لاهمية الخبر إذ تعتمد الصحيفة أساسا على الصورة، كما لو كانت تريد منافسة التلفزيون، فمثلا نشرت خبرا على الصفحة الأولى كانت الصورة فيه اكبر من الخبر وفي التفاصيل على الصفحة العاشرة نشرت صورتين اكبر كثيرا من الخبر المختصر عن تقارير لوكالة الصحافة الفرنسية. الى جانب ذلك فقد ابتكرت الصحيفة وسيلة جديدة اذ تضع اسم كاتب التقرير الاخباري على مقدم الخبر وتضع اسم الوكالة بحرف صغير جدا في نهاية الخبر بما يوحي وكأن الخبر او المراسل خاص بالصحيفة.

على ان هذه الملاحظات تبقى مقبولة قياسا بالاخطاء والافتقار احيانا للدقة وللموضوعية ومن بعض هذه الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الصحف. من الواضح ان تغطية الصحف المحلية للحدث الكبير بقي دون المستوى كما ونوعا، ومن المستغرب ان تجد هذه الصحف المال الكافي لارسال مندوبين لتغطية مؤتمرات في شرم الشيخ وندوات في فرانكفورت، وتعجز عن التعاقد مع مراسلين، ولو بالقطعة، في سبيل تغطية اكثر معقولية. ومن المستغرب ايضا ان تبقى تلجأ لنفس وسائل العمل والمواد الروتينية في متابعتها للاحداث.

التعليقات

سارع معلقو الصحف، كدأبهم دوما، على التعليق على الحدث وقلة فقط من لم يدل بدلوه في الموضوع، وقد توزعت تعليقات الكتاب على اتجاهات: فمنهم من ناقش حول الجهة التي نفذت الاغتيال، ومنهم من جادل حول الجهة المستفيدة، ومنهم من ندب نفسه وصيا على الشعب اللبناني وآخرون ندبوا الوضع العربي، فيما حاول بعضهم تقديم تحليل لتداعيات الحدث.

تلبيس ابليس

اكثر ما كتب من تعليقات ركز على اتهام إسرائيل والولايات المتحدة الاميركية باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، دون انتظار نتائج التحقيقات، وهم في هذا استندوا الى ان هاتين الدولتين هما الوحيدتان المستفيدتان من العملية الاولى لانها تريد إعادة خلط الأوراق واحراج سوريا لاخراجها من لبنان بما يفسح بالمجال في فك ارتباط سوريا عن لبنان وتاليا الاستفراد بكلا البلدين وكذا عزل لبنان عن قضايا "امته" اضافة الى محاولة تمزيق لبنان الى دولة "طوائف وكيانات" لتبرير "كيانية" اسرائيل. اما الثانية فهي تنفذ مخططا وضعه "المحافظون الجدد" للهيمنة على المنطقة وهي تريد اتهام سوريا "الحلقة الثانية" في المخطط بعد العراق. زيادة على ان واشنطن حاليا ليست اكثر من وكيل اعمال لرئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون فبالتالي كل ما ينفع إسرائيل ينفع اميركا، كما عبروا عن اعتقادهم بأن عملية اغتيال الحريري سوف "تدول" الازمة اللبنانية، وهو ما تسعى اليه واشنطن وتل ابيب، وربما اشار بضعة كتاب الى فرنسا ايضا. واخيرا فقد وجه الكثيرين منهم سهام النقد وحتى الاتهام للمعارضة اللبنانية سواء في عملية قتل الحريري او في تصعيد الموقف ضد الحكومة وسوريا بما يوحي بان المعارضة دخلت لعبة اميركية-إسرائيلية.

تبقى ملاحظة في هذا السياق، هي انه ليس كل من كتب اتهم اسرائيل وواشنطن مباشرة مع ان اغلبهم فعل ذلك، فبعضهم حاول الإيحاء وجلهم استهلوا مقالاتهم بتعليق من نوع "من المبكر" استعجال نتائج التحقيقات. ومع ذلك فان القاسم المشترك لهذه المقالات هي تبرئة العرب والمسلمين من دم الحريري، ولم يحظ تبني جماعة "نصرة الجهاد-بلاد الشام" للعملية في الشريط الذي بثته قناة "الجزيرة" بعد ساعات على الاغتيال بأي تعليق جدي، انما ورد ذكره في بعض المقالات مرورا. مقالتان فقط اعتبر اصحابها ان احتمالية تنفيذ جهة اصولية لعملية الاغتيال واردة من ضمن سيناريوهات اخرى ولكنها غير مرجحة.

لسوريا نصيب ومحاولات تبدو موضوعية

كما وجدت اسرائيل من سارع الى تلبيسها التهمة بمشاركة اميركا فإن لسوريا نصيب ايضا من اتهامات المعلقين على قلة من اخذ بهذا الرأي. ويلحظ ان من كتب بهذا الموضوع كان اكثر حذرا بكثير وهو يحاول زحزحة النار تجاه القرص السوري. على ان هناك كتاب كانوا اقل وضوحا وحاولوا ابداء قدر من "الموضوعية" فلا هم اتهموا اسرائيل ولا هم اسقطوا سوريا من لائحة الاتهام.

نصائح وتداعيات وجدانية

أخيرا في تعليقات الصحف اليومية بقيت بضعة مقالات هي عبارة عن نصائح للشعب اللبناني وسوريا حول كيفية الخروج من الازمة وتمنيات بتجاوز الشعب اللبناني للمحنة واشادات بمناقب الحريري او تداعيات وجدانية وبعد محاولة تحليل تداعيات أولى.

تبقى ملاحظة على التعليقات تلفت النظر هي اغراق اكثر الكتاب في كتابة انطباعية خالية من التحليل والمعلومة والتوثيق وأخيرا دخل جيل جديد يحاول الاطالة والتنظير الممل في المقال الذي من المفترض ان يكون مبدأه "ما قل ودل" ومع ذلك فان كتابا يرهقون القارئ في تنظير طويل لا طائل منه. كما ان كثيرا من الكتاب يعيدون صياغة افكار منشورة لدى اخرين سواء في صحف محلية او خارجية ويبدو ان كاتبا يوميا يكتب في كل شيء سيصعب عليه ابتداع افكار جديدة واعطاء المقال حقه لغة وبناء.

على ان كل ذلك يبقى محمولا ايضا مقابل الأخطاء الكبيرة التي يرتكبها بعض الكتاب وهي قد تضرر بمدى ثقة المتلقي بالصحيفة او بالكاتب نفسه وبعضهم لا يحقق في دقة معلوماته لا بالبحث ولا بالسؤال، فيما يبدو ان المحررين لا يصححون المعلومات بقدر ما يراقبون خط المعلق. الكاتب سلطان الحطاب في مقاله بـ"الرأي" "ماذا بعد قتل لاعب السولتير هل انتهت لعبته؟" يقول "قتل رفيق الحريري سيكون له ما بعده، وبعده خطير وستعود لعبة الدومينو مرة اخرى أليس السولتير الذي بناه الحريري هو اسم للعبة خطرة ايضا يعرفها من يعود لمعناها"، ويبدو الكاتب هنا وهو يستشهد بلعبة "ورق الشدة" هذه لا يعرف ان الحريري اسس شركة "سوليدير" وهي اختصار عن الفرنسية لاسم "شركة اعمار وتطوير وسط بيروت" وليست بحال من الاحول مبنى شيده او اسماه باسم ورق اللعب.

الاسبوعيات

اذا كانت الصحف اليومية تقع في أخطاء، مقصودة او غير مقصودة، فان اكثر الصحف الاسبوعية تحاول الاستخفاف بعقل المواطن. بيد ان القارئ محظوظ بسبب استنكافه عن شراء الصحف الاسبوعية وإلا لرأى العجب في رجب.

في صحيفة "السبيل" كتب محمد نجار تقريرا اخباريا هو عبارة عن اعادة صياغة مواد اخبارية منشورة في الصحف وعلى الانترنت ومنقولة عن وكالات والتقرير لا يشير الى أي مصدر صراحة باستثناء قناة "الجزيرة"، ويغلب عليه طابع التعميم والتحيز.

اما في التعليقات فقد كتب رئيس تحرير "الهلال" ناصر قمش تحت عنوان "حمى الله الاردن من بعض ابنائه: الحدث اللبناني دس للمعارضة الاردنية" وهو يجد صعوبة في هضم خطاب المعارضة خاصة ان بعضهم طالب بتخفيض موازنة القوات المسلحة ويصفهم بدعاة المناكفة والمناكدة ويدعو ويبتهل لله ان يحمي الاردن.

صحيفة "البديل الاعلامي" استغفلت القارئ تماما فنشرت تقريرا على صفحتين منقول حرفيا عن صحيفة "الرأي العام" الكويتية دون أي اشارة.

أخيرا، فقد وضعت الصحف نفسها في الصف المنحاز ضد عملية الاغتيال ووصفتها بعبارات غير حيادية مثل "الجريمة النكراء والجريمة الشنيعة وغيرها" وأعادت بذلك صياغة خبر الوكالات. وعلى أي حال من الصعب الطلب من محررين عرب التحلل تماما من مشاعرهم وهم يحررون اخبارا بمثل هذا الإيلام. ولكن في المقابل فقد شكل اغتيال الحريري في جانب منه منفعة للصحف التي جنت الكثير من عوائد اعلانات النعي.