اشتراط موافقة دائرة الاحصاءات العامة لاجراء الدراسات الميدانية
انتقد الباحث والناشط في مجال حقوق الانسان محمد يعقوب قانون الاحصاءات العامة رقم 8 لعام 2011 وتعميم رئاسة الوزراء رقم 32/11/1/3723 المؤرخ في 24/2/2011 والمتعلقين بالطلب من مؤسسات الدولة المختلفة ومؤسسات القطاع الخاص الالتزام بنص المادة 8 من قانون دائرة الاحصاءات العامة الذي يلزمها بمخاطبة دائرة الاحصاءات العامة, والتنسيق معها والحصول على موافقتها قبل اجراء اي مسوحات ودراسات واستطلاعات تتعلق بجمع بيانات احصائية سواء كانت اسرية او اقتصادية او زراعية لدراسة اتجاهات الرأي العام, وهو ما يتطلب الحصول على موافقة امنية على اشخاص الباحثين انفسهم وموافقة اخرى على استمارة جمع البيانات.
وقال ان حرية البحث تعتبر من اهم مكونات الحريات الاكاديمية, كما انها شرط حيوي لارتقاء عمل المؤسسات البحثية وأدائها لاعمالها ووظائفها, اذ ليس من المتصور ان ينتعش عمل مؤسسات المجتمع المدني بسائر مكوناته عند غياب هذه الحرية او الانتقاص من المساحة التي ينبغي ان تشغلها.
وفي المقابل تمثل حرية البحث ودرجتها انعكاسا للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي السائد في الدولة, علاوة على كونها تتأثر بمجمل السياقات القانونية والتشريعية الناظمة للحقوق والحريات العامة فيها.
وتأسيسا على ذلك هناك ارتباط وثيق بين حرية البحث والمنظومة الدولية لحقوق الانسان, رغم ان هذه المنظومة لم تشر اليها صراحة, ولكن هناك جملة من الحقوق الانسانية التي تعزز هذه الحرية وتقترن بها اقتراناً واضحاً كالحق في التعليم وحرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد والفكر والوجدان وحق الحصول على المعلومات وغيرها.
وقال هناك ثمة ارتباط عضوي بين حرية البحث وحقوق الانسان, وربما تكون مقاربة حقوق الانسان هي المدخل او السبيل الامثل لحماية هذه الحرية, اذ لا يكفي القول بأن القوانين الوطنية تكفلها, فتدويلها من خلال حقوق الانسان الدولية يشكل الضمانة الاهم لحمايتها.
ويترتب على وصف حرية البحث بأنها حق من حقوق الانسان مسألتان مهمتان, الاولى: ان حماية حرية البحث وضمانها ليست حكراً على القوانين الوطنية للدولة; اي انها لم تعد شأناً داخلياً تستأثر الدولة بتنظيمه على هواها وبمحض ارادتها, ولكنها باتت شأناً دولياً ينظمه القانون الدولي. وثانيا: انها مشمولة في النتيجة بالحماية التي تتيحها اليات الرقابة الدولية المعنية بحقوق الانسان بصرف النظر عن طبيعتها.
أما فيما يخص مسألة تأصيل حرية البحث كحق من حقوق الانسان, فيمكن القول انها تدخل في تكوينات كل من الحق في حرية الرأي والتعبير والحق في التعليم وحرية الوجدان والفكر والمعتقد والديانة وتكوين الجمعيات والنقابات والحصول على المعلومات.
كما هو معلوم فإن الحق في حرية الرأي والتعبير ورد في المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية, وحرية البحث العلمي هي احد العناصر المشمولة بالحق في حرية الرأي والتعبير, وخصوصا انه يتضمن جملة من الحقوق من قبيل التماس سائر ضروب المعلومات, واعتناق الاراء والتعبير عنها. وبهذا المعنى ينبغي النظر الى حرية البحث كجزء من حرية الرأي والتعبير وكعنصر اساسي من عناصر حقوق الانسان المعترف بها دولياً. ولذا يتعين على الدولة ان تكفل لهم الظروف المناسبة لتبادل الاراء والمعلومات والتعبير عنها.
وقد اكدت اللجنة المعنية بحقوق الانسان في تعليقها العام رقم 10 حول المادة 19 من العهد ان العهد لا يجيز فرض قيود مسبقة على حرية البحث العلمي ولكنه قد يضع بعض الاستثناءات والقيود على نشر نتائج الابحاث العلمية. فحرية البحث لجهة تكوين الاراء لا تقبل الاستثناء وهي حق مطلق, فلا يحق البته للدول ان تقيد حق المشتغلين فيه ولا تعطيل حقهم في التماس هذه الاراء. بينما لا تعد حرية التعبير عن الاراء من الحقوق المطلقة, الامر الذي يعني من الناحيتين القانونية والعملية ان التعبير عن الافكار والاراء من جانب الباحثين يجوز تقييدها اذا كانت تخل بسلامة المجتمع او تحض على التمييز والكراهية. كما يجوز ان تخضع هذه الحرية للتقييد كذلك حفاظاً على حرمة الحياة الخاصة للاخرين.
واضاف ان حرية البحث ترتبط بحق الحصول على المعلومات, وقد بينت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 13 حول الحق في التعليم اهم ركائز ومكونات الحرية الاكاديمية بشكل عام وحرية البحث بشكل خاص عندما اكدت انها تشمل حرية الافراد سواء بشكل فردي ام جماعي متابعة وتطوير ونقل المعارف والافكار عن طريق الابحاث او التعليم او الدراسة او المناقشة او التوثيق او الانتاج او الابداع او الكتابة... وحرية الافراد في ان يعبروا بحرية عن ارائهم في المؤسسة او النظام الذي يعملون فيه, وفي اداء وظائفهم دون تمييز او خوف من قمع من جانب الدولة او اي قطاع اخر, وفي المشاركة في الهيئات المهنية او التمثيلية, وفي التمتع بكل حقوق الانسان المعترف بها دولياً والمطبقة على الافراد الاخرين في نفس الاختصاص. كما انها تربط الشرط المقيد لحرية البحث بالدرجة الاولى بحماية حقوق الافراد فقط.
كما كفلت المادة (15/3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حرية البحث بنص صريح وواضح; اذ اشارت ان على الدول احترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الابداعي. ومما لا شك فيه ان حرية البحث تعتمد كثيراً على استقلال مؤسساته, وقد اوضحت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ان الاستقلال يعني درجة من الحكم الذاتي لازمة لكي تتخذ المؤسسات القرارات بفعالية بالنسبة للعمل البحثي ومعاييره وإدارته وما يرتبط بذلك من انشطة.
علاوة على ذلك فان الميثاق العربي لحقوق الانسان كفل في المادة 42 منه على احترام حرية البحث العلمي والنشاط المبدع.
ويترتب على مقاربة حرية البحث من خلال منظومة حقوق الانسان الدولية وجوب دمقرطة مؤسساته, ولهذا السبب ينبغي النظر اليها بوصفها حق من حقوق الانسان على انها وسيلة لدعم الديمقراطية داخل المجتمع, كما ان العمل البحثي ذاته ينبغي ان لا يكون تعسفياً او شمولياً او دكتاتورياً.
وتنص التعديلات التي ادخلت عام 2011 على الدستور الاردني بموجب المادة 15 منه ان الدولة تكفل حرية البحث العلمي والابداع الادبي والفني والثقافي والرياضي بما لا يخالف احكام القانون او النظام العام والاداب, كما تضمنت التعديلات نصا صريحا في المادة 128 / الفقرة 1 على انه لا يجوز ان تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق او تمس اساسياتها
وخلص الباحث يعقوب الى القول ان قانون الاحصاءات العامة الصادر عام 2003 يتعارض مع ما ورد في نص الدستور الاردني, ونصوص العهدين الدوليين المشار اليهما, وخصوصا في مسائل حرية الفكر والرأي والتعبير, وتكوين وتنظيم الجماعات والاجتماع, والحق في التعليم.
ان المادة (8/ب) من قانون الاحصاءات العامة لعام 2003 التي نصت على انه يجوز لاي جهة غير رسمية جمع معلومات احصائية لحساب جهة اخرى ونشرها شريطة الحصول على اذن خطي مسبق من المدير العام بالاضافة الى تعميم رئاسة الوزراء بتاريخ 24/2/2011 الذي يلزم مراكز الابحاث والدراسات - بموجب المادة 8 من القانون المشار اليه انفا - بالحصول على موافقة دائرة الاحصاءات العامة لاجراء الدراسات الاحصائية والميدانية واستطلاعات الرأي, وذلك على اعتبار ان دائرة الاحصاءات العامة هي الجهة الحكومية الوحيدة المخولة بجمع المعلومات والبيانات الاحصائية من المبحوثين, وهي التي بدورها تتولى التنسيق مع وزارة الداخلية والاجهزة الامنية المختلفة للحصول على الموافقات المسبقة عند تنفيذ اي مسح احصائي سواء كان اسريا او اقتصاديا او زراعيا او استطلاعا للرأي العام, يتعارضان بشكل واضح مع الدستور والعهدين الدوليين وبالذات المواد التي اشرنا اليها انفا.
علاوة على ذلك اشترطت الدائرة ايضا جملة اجراءات ينبغي اتباعها لاجراء دراسة ميدانية, تتمثل بمخاطبة مدير عام الدائرة بكتاب رسمي, يحدد فيه اسم الدراسة والهدف منها وتوضيح منهجيتها, بالاضافة الى بيان حجم العينة ومناطق العد وأسلوب المقابلة سواء كانت شخصية او عن طريق الهاتف, وتحديد فترة المسح.
أما بالنسبة للباحثين فاشترطت دائرة الاحصاءات الى جانب الصورة الشخصية وشهادة عدم المحكومية تقديم معلومات شخصية عن الباحثين الاردنيين وتشمل (الاسم الرباعي, تاريخ الميلاد, اسم الام, الرقم الوطني, مكان الاقامة, المؤهل العلمي ورقم الهاتف), اما الباحثين غير الاردنيين فيشترط تزويد الدائرة بصورة عن جواز السفر, والاسم الرباعي, وتاريخ الميلاد, واسم الام, والمؤهل العلمي, ومكان الاقامة ورقم الهاتف.
ويمكننا القول بان المادة 8 من قانون الاحصاءات العامة والتعميم الحكومي قد قيدا حرية البحث العلمي عندما اشترطا الحصول على تصريح مسبق من قبل الحكومة وزارة الداخلية والاجهزة الامنية لاجراء ابحاث في مجال العلوم الاجتماعية, بما يمنع في الواقع الفعلي من اجراء اية ابحاث حول قضايا مثيرة للجدل من وجهة نظر الحكومة وليس من وجهة النظر العلمية الموضوعية, وهنا تدخل الابعاد السياسية والامنية في رسم مسارات البحث العلمي من ناحية, ووجود احتمالية لا بأس بها لاغلاق بعض المراكز البحثية التي لا تتفق ووجهة النظر الحكومية او غير المرضي عن اشخاصها وفقا لعبارات مطاطة وغامضة ومبهمة.
وخلاصة القول ان الحرية البحثية بوصفها من الحقوق المدنية و السياسية تلقي على عاتق المملكة الالتزام الفوري بإعمالها واحترامها و حمايتها.