اسعار المحروقات..الخبر الذي هوى

اسعار المحروقات..الخبر الذي هوى
الرابط المختصر

كي لا تتوهم عزيزنا المستمع أننا نتحدث عن شأن غريب، نسارع الى القول أن الأمر يتعلق بتتبع مسيرة خبر صحفي كان لسنين طوال يعد من أكثر الأخبار شهرة وهو خبر سعر المحروقات.

صحيح أنه ظل يتكرر بنفس الصيغة تقريباً، غير أنه الى زمن قريب احتفظ بالكثير من الجاذبية الصحفية. وها نحن اليوم نراه يتخلى عن مكانته رغم أنه لم يتخلى عن مكانه، فقد بقي ينشر على الصفحة الأولى غير أنه أصبح الى حد ما خبراً عادياً.
 
تعالوا معاً ننتبع باختصار مسيرة هذا الخبر.
لقد ظل خبر سعر المحروقات من الأخبار الحساسة والمثيرة الجاذبة للقراء، لكن صحافة العقدين السابع والثامن من القرن الماضي لم تكن باحثة عن القراء، أو لنقل إن عدد القراء لم تكن له أولوية مطلقة عند الصحف، ولهذا فإن ذلك الخبر ظل ينشر في هذين العقدين في مربع صغير جداً وسط الصفحة الأولى، وبمقدورنا القول أن صحف ذلك الزمن كانت تود لو تخفيه في صفحاتها الداخلية، ولكنها حتى لو فعلت فإنه كان حتماً سيتحول الى الخبر الأكثر إثارة، وكان سيتفوق على أي مانشيت مهما علا شأنه واتسعت مساحته.

طيلة تلك السنين اعتمدت الصحف صيغة واحدة تقول: "تعديل أسعار المحروقات"، وكانت الحجة لغوية محضة، فالرفع هو بمعنى من المعاني تعديل، ولا تشترط معاجم اللغة في باب (عدّل يعدّل) أن يكون التعديل للأعلى أو للأسفل، فالمهم هو أن ثمة حركة حصلت.
 
كان الناس يتهكمون تجاه كلمة "تعديل"، ولدى قسم كبير من الناس، كان هذا التهكم الذي يمارسونه عند كل "تعديل"، يشكل تعويضاً عن جزء من الغضب الذي يصيبهم.
 
غير ان حال هذا الخبر تغير كلياً بعد الانفتاح الديمقراطي منذ 1989. لقد صارت أخبار أسعار المحروقات تحتل موقعاً أساسياً في أعلى الصفحة الأولى، ومنذ ان تعددت الصحف في البلد، ونشأت ظاهرة التنافس على القراء والأخبار التي تجذبهم، لم تعد صيغة "تعديل أسعار المحروقات" مقبولة ولا ضرورية، غير أن الصحف أخذت تتمايز في حجم الاثارة عند تقديمها الخبر، فالصحف المحافظة ظلت تحرص على اعتماد صيغ وكلمات هادئة أو مهدئة، بمقابل صحف أخرى اعتمدت أكثر الصيغ إثارة، فبينما كانت الصحف المحافظة ترفق الخبر مع عبارات تطمئن الفئات الأقل حظاً فإن صحفاً أخرى كانت تنشر الخبر بصفته ضربة للفقراء.
 
باختصار أخذ الخبر تدريجياً يصاغ بعبارات واضحة مباشرة، وصارت كلمتا رفع وزيادة دارجتين علناً في الصحف، وفي عام 1996 نقلت الصحافة كلمة "رفع" على لسان رئيس الوزراء آنذاك عبدالكريم الكباريتي عندما أطلق عبارته الشهيرة التي تقول "الدفع قبل الرفع"، والتي تحولت فيما بعد على المستوى الشعبي الى ما يشبه "الحكمة التسعيرية".
 
لكن ذلك كله لم يلغِ خصوصية الخبر، فلم يكن بمقدور صحيفة أن تتنبأ أو تتوقع أو تقول أنها علمت أن أسعار المحروقات سترتفع، وظل للخبر مصدر رسمي واحد.
 
ومنذ مطلع القرن الجديد بدأت أركان السور المحيط بهذا الخبر تتخلخل بالتدريج، وأخذت الصحف تطرح الأمر للنقاش والتوقعات ولكن بقدرٍ من التحفظ، ومن أطرف صيغ المتابعات الصحفية للأمر ما حصل في عهد حكومة علي ابوالراغب ذات مرة عندما خبر يقول ان الحكومة رفضت نسبة الرفع التي يريدها صندوق النقد الدولي وأنها سترفع السعر ولكن بنسبة أقل، وبهذا تراجع عامل السعر في الخبر الصحفي لصالح عامل جراة الحكومة أمام صندوق النقد.
 
بعد ذلك حصل تقدم في مسيرة هذا الخبر، فصار يعلن كسياسة عامة من دون تفاصيل، ونُشِرت أخبار عن نوايا بالرفع أو عن مفاوضات حول الرفع، وأحياناً عن حكومة تعتبر الرفع أولوية وأخرى تليها لا تعتبره كذلك.
 
لقد فقد الخبر حساسيته وأصبح من الأخبار الخاضعة للنقاش وصار هناك من يفاضلون بين رفع السعر وسياسات أخرى وآخرون يتحدثون عن بدائل للرفع، بل وُجِد هناك من تحدث عن ضرورة الرفع لغيات التنمية.. لقد أصبح الخبر عادياً ولم يعد سراً.
 
لكن تطوراً حاسماً حصل منذ مطلع العام الماضي أنهى تاريخاً من الحساسية في هذا الخبر، فقد أعلنت الحكومة على الملأ سياسة الافصاح عن أخبار سعر المحروقات، فالخبر المحلي أصبح مربوطاً بالخبر الدولي الآن، وبمقدور كل من يريد أن يجري التوقعات التي يراها مناسبة حول هذا السعر.
 
في الأشهر الأولى من السنة الماضية، كانت الجاذبية المتبقية للخبر تعود الى أن السعر كان في ارتفاع، ولكن ومع الأشهر الأخيرة تلاشت جاذبية الخبر، بعد أن أصبح السعر يهبط مع احتمال أن يرتفع، والأمر في كل الأحوال معلن ومكشوف.
 
يقول أشقاؤنا المصريون: "يا خبر بفلوس بكرة تبقى ببلاش"، غير أننا الآن أمام "خبر ببلاش لكنه بكرة حيبقى بفلوس"!