أَطفال المخيم يتحدّون كورونا ويصنعون سعادتهم بلعبة "بلياردو" (فيديو)

بين زَوايا أحد مُخيمات اللاجئين الفلسطينيين في إربد،حيثُ الأزقةُ الضيقةُ والبيوتُ المتلاصقةُ التي  يَعلُو بعضها أسقفُ "الزينكو" حيث تقذفُ  الحِممَ من شدةِ التلاصقِ وحرّ الصيفِ، إلا أنها تتدفقُ حميميةً بين سكانها لتروي لك تلك البيوت معاناةَ شعب أُغتُصِبَت أرضهم وشُرّدوا، يعيشُ هُناك  ثلاثة أطفال لا تتجاوز أعمارهم  (12) عاماً تحدّو الظروف الاستثنائية التي فرضتها جائحة كورونا والمتمثلةُ بغيابهم القسري عن مدارسهم  و البيئة الصفية ، والتي تسببت بالآثار النفسية والسلوكية عليهم ، إلا أنها كانت السببَ في  صُنع سعادتهم بأنفسهم.

يعيشُ علي و محمد  وسليمان، في مخيم الشهيد عزمي المفتي، وهو مُخيم لللاجئين الفلسطينيين، الذي يَضُم ما يقارب 27 ألف لاجيء، نصفهم تقريباً من الأطفال 45%، ويُعتبر سابع أكبر مخيم للاجئي فلسطين في الأردن، وما زال لسكانه الأمل في العودةِ لأرضهم وبلدهم فلسطين، حيثُ يحتفظون بأوراقهم الثبوتية ومفاتيح بيوتهم التي هُجّروا منها، لعلّهم يعودون إليها يوماً ما، يُعاني المخيم من اكتظاظِ السكان ،وضِيق المساحات بين البيوت، وصِغر حجم الغُرف التي يقيمون فيها، وبالرغم من الظروف المعيشية القاسية التي يعيشونها، لم يلجأ هؤلاء الأطفال إلي التسوّل أو الشارع ، تحت ما يُسمّى عَمالة الأطفال ،التي تجعلهم عُرضةً لمظاهر سُلوكية ضارة، قد تقودهم  إلى الانحراف وتَعاطي المُخدرات وترويجها، لكنّهم استطاعوا كَسر حاجز القَهر مُتحدِّين ظروفهم بصنعِ سَعادتهم ،مِن خلال ابتكارهم أدوات لممارسةِ اللعبة التي يحبونها، بِحلول بِدائية تقليدية وبأَدنى المُقومات ، حيثُ تَمكّنوا من عملِ طاولة  "البلياردو" بإمكانات بسيطة، وبدرجة متواضعة مِن الإتقان ، بقطعةِ سجاد، ومجموعة عِصي خشبية، ومسامير وكُرات زجاجية(جُلول)،  بِلا تكاليف مادية، وبمواصفات وقياسات قريبة ما استطاعوا إليه سبيلا.

ذكرَ علي  مُبتسماً بَشوشاً، وقَدْ أطلقَ ضحكةً تدل على تَعجُبه واستغرابه عند سؤاله عن تاريخِ لعبة البلياردو، ولماذا سُمّيت بهذا الاسم، ومَنْ هو مُخترعها، فهو لا يعرف من ذلك شيئاً، ولا يعلم أَنّ تاريخها مُعقّد، ويشبه مسيرة الحياة التي قادته إلى هذا المكان، وأنّ ما قيل ماهو إلا أساطير وادعاءات ليبقى تاريخها مجهولاً كالمصير الذي ينتظره وزملاؤه ،  وعند سؤاله عن قوانينِ اللعبة أجابَ بصوت يدلُ على عُلو الهِمة والمَعنوية ، وكمال المَعرفة، شارحاً كيف تبدأ ، وكيفَ تُحسب النقاط، وكيف يتم ترتيب الكُرات على شكلِ مُثلث في بدايةِ اللعبة، إلا أنّهُ لم يَكنْ يعرف أنّ ضَربةَ  البداية تُسمى "الكَسرة"، والعَصا "الأستيكة "وأنّ القُرعةَ هي مَن تُحدد من يبدأ اللعب أولاً. 

وفي حديثه أكدّ سليمان ذو العشر سنوات، وهو طفلٌ  يافع لفحته حرارة الشمس،أنّ سبب تفكيرهم بعمل لعبة البلياردو ،أنهم لا يستطيعون الذهاب للنادي نتيجة الحجر الصحي المفروض بسببِ  وباء كورونا، ولو تمكنّوا فليسَ باستطاعتهم دفع 25 قرشاً  ليلعبوا، كونهم يعيشون ظروفاً ماديّة صعبة،حيث إغلاق كافة القطاعات ، وتوقف أو ضعف مصادر دَخْل أُسَرهم، وهذا ما قادَهم إلى التفكيرِ ومُحاولة التَغلّب على هذه الحال ولو جزئياً، لكسر حاجز الملل والفراغ وقلة المال ،تلك الحواجز التي باتت تُسيطر وتتحكّم في مشهدِ الحياة، الأمر الذي دَفَعهم لعملِ طاولة خشبية تُحاكي إلى حد كبير طاولة لعبة البلياردو، إيماناً بمقولة (مِن رَحم المُعاناة يخرجُ الإبداع)، وأنّ (الحاجةَ أُم الاختراع).

وقالَ محمد الذي بَدَت عليه بعضُ مَلامِح وعلامات النُضوج الفكري  إنّ لعبةَ البلياردو من الألعاب التي تُنمّي الفِكر والعقل وتحتاجُ إلى مهارة عالية وتركيز شديد، وأنهُ يشعرُ بالسعادةِ باللعبِ مع أصدقائه ، منذ أن بدأت الظروف المصاحبة لجائحةِ كورونا، وكأنها كانت مَلاذهم وقت الشِدّة واليأس، للخلاص والتغلب على الحالة التي يعيشونها، لكنه لا يعلم أنّ قوانين اللعبة صَارِمة، تُحاسب مَنْ يرتكب الخطأ المُتعمّد، وتضع الخَصم في وضعٍ حرجٍ ،وأنّ مُعظم الأخطاء تدور حول الكُرة السوداء رقم (8). 

ذكرَ أبو عامر أَحد سُكان المخيم  ،أنّ الأوضاعَ الحالية مِن إغلاقِ المدارس والحدائق والنوادي ،جَعلت الطلاب يشعرونَ بالمللِ، والكبت والضيق، وبدأت حالتهم النفسية تزدادُ صعوبةً، وحرصاً منا على عدم لجوئهم إلى أمور أخرى قمنا بتشجيعهم  ودعمهم ومساعدتهم ومشاركتهم في عمل لعبتهم التي يحبونها في حارتهم ،خوفاً عليهم وعلى سلامتهم، وحتى يتمكّنوا من تفريغِ طاقاتهم واستغلال مواهبهم، للتقليل من العُنف الاُسري المُتوقّع في مثلِ هذه الظروف.

 وطَالبَ أبو عامر بضرورةِ قِيام الجهات المعنية والمُختصة بمساعدةِ الأطفال على تجاوزِ الصُعوبات، بتنفيذِ برامج ومُبادرات وأنشطة من شأنِها تجاوز الآثار النفسية على الأطفالِ ، وتقديم الدعم لهم على نحوٍ يتجاوز ما تُحققهُ أو تُوفرهُ لعبة البلياردو. 

وتجدر الإشارة أنّ محمد وعلي وسليمان لم يحتكروا البلياردو لأنفسهم ، حيث قامُوا بمساعدة أصدقائهم من المناطق الأخرى داخل المخيم (حارات أو ما يُسمّى بلوك ) بعمل  طاولة  البلياردو، لمشاركتهم اللعبَ ؛ ليشعروا معهم بالسعادةِ .

وعن دور المجتمع  والشباب في دعمِ  أطفال المخيم ، أشارَ أُسامة أبو حِسيّان ناشط اجتماعي ورئيس لجنة معارف مقدسية في المخيم ،  إلى تفعيلِ المُبادرات والأنشطة  التي تهتمُ بالأطفال ومواهبهم ،لاحتضانهم بعيداً عن اللجوءِ إلى الشارعِ ، مِنْ خلالِ أندية ثقافية تُعزز وتطور مِن شخصياتهم، وأنّ هُناك العديد من قصصِ النجاح  الواقعية للأطفال تَم اكتشافها مُبكراً، مثل  الرسم والكتابة  والغناء وبمستوى مُتميّز،  لكنّهم بحاجة إلى تقدير هذه المَواهب التي يمتلكونها ، لأنّ ما تُعانيه العائلات من ظروف معيشية قاسية تجعلهم غير قادرين على توفير حاجات أبنائهم الذين يمتلكون مَواهب رائعة .

ودعا أبو حِسيّان  إلى ضرورة تكاتف الجهود والتعاون المُشترك  مع المُهتمين في رعايةِ مَواهب الأطفال ،وتقديم يد العون لاعطائِهم  فُرصتهم المُستحقة كغيرهم من الأطفال .

دور المدارس ودعمها للأطفال ضرورة أساسية

مع استمرار إغلاق المدارس ينبغي استغلال تَفرّغ الأطفال ،لأنّ فُرصة تسرّب هؤلاء الأطفال خارج حَيّز التعلُّم الإلكتروني، أصبحت مُتاحة أكثر، فيجب إعادة تأهيلهم  بقيادة فريق وطني مُتخصص في سُلوكياتِ الأطفال وكيفية التعامل معهم ،  وذلك أنّ المؤسسات التعليمية أساس المُجتمعات، فعندَ تحويل بقايا عِصي خشبية إلى لعبةٍ موصوفةٍ بفكرِ طفل نَيّر وايجابي ، وتحويل هذه الأخشاب إلى طاولةِ بلياردو، هُنا يكمُن الإبداع .

أكدت مُنى مَخلُوف مديرة إحدى المدارس التابعة  لوكالة الغوث الدولية  (الأونروا)، على أهميةِ دعم المواهب والإبداعات التي يمتلكها الطلاب في سنِ الطفولة والعمل على تنميتها وصقلها وتقويتها، وضرورة تخصيص ميزانية خاصة في كلِ المدارس لتقديم كل ما يحتاجه الطلاب ، كما يجب الاستعداد لتهيئة الطلاب للعودة لمدارسهم في الوقت الذي يسمح بذلك.

وأَوضَحت المُرشدة النَفسية نهاد نوافلة ، أنّ حرمانَ الطفل من تطوير مواهبه وممارسة هواياته وعدم تنميتها ودعمها بشكل عِلمي ومدروس، قد يؤدي إلى تولّد شخصية ضعيفة مهزوزة لدى الطفل، أو شخصية إجرامية مُضادة للمجتمع أو شخصية مُنحرفة سُلوكياً، تميلُ إلى العنفِ بسببِ الإحساس بالقهرِ الإجتماعي، لذلك لا بُدّ أن يكون هناك جهات غير المدرسة داعمة ومساندة تتبنى مواهب وإبداعات الأطفال على مستوى عالٍ .

بالنسبة لدور المنظمات الدولية في  دعم أطفال المخيم 

ومِن مَبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وعدم التمييز، قامت (اليونيسف) بتنفيذ مشروع "مَكاني" مستهدفة جميع المُقيمين في مخيم الشهيد عزمي المفتي ،من أطفال  اللاجئين الفلسطينيين وغيرهم من السوريين، والتُركمان، و(الدُوم) أو ما يُعرَفون مَحلياً ب(النَوَر) وهُم مواطنون أُردنيون يحملونَ الجنسية الأردنية ، لهم لُغتهم وعاداتهم وتقاليدهم  وأهمُّها (زواج الأطفال).

قالت سيرينا الشقيري مسؤولة مشروع "مكاني" في المخيم والمُمّول من (اليونيسف) بالشراكةِ مع جمعية المركز الإسلامي: إنّ المشروعَ يُقدّمُ العديد من الخدماتِ،منها (مُكوِّن دعم التعليم) الذي يعمل علي تقوية ورفع كفاءة العملية التعليمية والذي يُقدَّم لجميع المُقيمين في المخيم من عمر ٦-١٢ سنة، حيثُ يبلغُ عدد الأطفال داخل هذا المُكوِّن 300 طفل يتلقّون اللُغة العربية و الرياضيات واللُغة الإنجليزية.   

بالإضافةِ لبرنامجِ الطفولة المُبكرة الذي يَضُم عِدة برامج منها (الأبسيديريان) ،وهو برنامج الأهل والطفل ،الذي يتمُ عن طريقِ توفُّر بيئة جيدة للتدريب في مرحلة الطفولة. 

الموهبة والإبداع والدعم المُستمر للأطفال

أشارَ الدكتور ممدوح الرَكبي عميد سُفراء الاتحاد الدولي للدفاع عن حقوقِ الطفل والمُفوض العام للمنظمة الدولية للإغاثة وحقوق الإنسان، أنّ ما قام به أطفال المخيم تفكير إيجابي لخلق سعادتهم بأبسط الأشياء، وأنهم مُستعدُّون لتقديم الدعم الكامل لهم ولغيرهم من أطفالِ المخيمات ،الذين يعانون من ظروف معيشية صعبة، وأنّ هناك العديد مِن الخططِ والبرامج والمشاريع، لدعمِ الأطفال في مخيماتِ اللاجئين داخل الأردن وخارجها وبعدةِ دول، لضمانِ البيئة المعيشية المُناسبة للطفلِ، لتنميةِ وتقويةِ شخصيته.

وصرّحَ الرَكبي بأنّ الاتحاد سيكون لَهُ  دور فَعّال لهؤلاء الأطفال المبدعين  بتقديم الشكر والتقدير لهم وتكريمهم من إدارة الاتحاد، وسيتم دعمهم لتحويل هذه التجربة المُبدعة إلى حقيقة ملموسة، حيث سيتم تجهيز طاولة (بلياردو) في  منطقةِ المخيم ، ليكون لهم نشاط  ملموس بهذه اللعبة على أرض الواقع، ليطوّروا أنفسهم، وينافسوا ببطولات دولية  تحت إشراف الاتحاد.

وأكدّ رئيس الاتحاد الدولي للدفاع عن حقوق الطفل الدكتور أحمد حُسني عَطوة ( أَننّا نعمل من أجل مستقبل أفضل لأطفالِ العالم ، ونشر ثقافة السَلام والتسامُح تحتَ شِعار (معاً لصنعِ السَلام).

 

أضف تعليقك