أدراج عمان... سيرة الحجر والشجر

الرابط المختصر

 لعمان مني اطيب تحية, لاهلها ومبانيها وشوارعها وازقتها وادراجها السلام, فعمان التي غادرتها مطلع سبعينيات القرن الماضي, وانا لم ازل يافعا, ظلت تسكن داخل احشائي, فهي لم تتخل عني يوما قط, لم تغادرني وتعود الى ذاتها,

لم تشتك يوما من التعب او المرض او الجوع, مع انني كنت أُتعبها احيانا, وانساها من دون غذاء مرات, واتركها تكابد المرض من دون ان اشتري لها الدواء, ومع انني غادرتها الى غيبة طويلة, مهاجرا الى الولايات المتحدة الامريكية, بعدما اصطدمت امانِيّ بواقع الحال آنذاك, وغرفت في المهجر من مباهج الحياة ما شاء لي ان اغرف, ورأيت من ابداعات الكون اجملها, وعرفت من اسرار الطبيعة والانسان اكثرها تعقيدا, الا ان عمان تظل قمة المنتهى, وسيدة  الدنيا بلا منازع.

يكمل ابن عمان البار كلامه في مخطوط عن  حياته بين عمان والمهجر, واصفا حياته في عمان قبل ان يهاجر, يذوب كما يقول في التفاصيل يعود اليها مسرعا خفيف الخطوة, وكأنه تخلص من اشياء التصقت به في الطريق, او اشيائه التي حملها معه في الايام الطوال, يعود الى درج البحتري الذي شهد ولادته ويفاعته, وشبابه الاول, وعشقه الاول, يعود خفيفا كما أنجبته امه, كالعائدين من الحج المسيحي او الاسلامي من دون دنس الدنيا, ومن دون ذنوب اقترفوها.

يقول ابن عمان المهاجر عثمان كانت الحياة على درج البحتري - يقع في جبل عمان بمحاذاة حي المصاروة - بسيطة وبريئة في ذات الوقت, فلم يكن يلوثها عصر السرعة  الامريكي, كان سكان الدرج يفيقون باكرا بتؤدة وترو, يصلون الى اعمالهم من دون ان يطاردهم كرباج القسط والفاتورة, ورغم رتابة الحياة وخلوها من مشكلات عظيمة تحرك الدماء الحارة, كانت الحياة ببساطة تترى - من التواتر والتراخي - لا يفصل الجار عن جاره سوى الاختلاف في الاسماء, ولكن المشكلات الصغيرة التي كانت تطرأ احيانا ظلت هي ملح الحياة, فعبرها كان اهل الدرج يعرفون مقدار محبة بعضهم بعضا.

أغان على الدرج

يستمر عثمان في سرد سيرة اسرته, وسير الاسر الاخرى من الجيران في اسلوب جميل.

يطيل الشرح عن المناسبات التي يتذكرها, فيتحدث عن حفل عرس شقيقته سمية, يسهب في التفاصيل, خاصة غناء ام محمد, فأم محمد الجارة الجميلة كانت تغني في كل المناسبات, فهي تحفظ الاهازيج والتراويد لكل مناسبة على حدة, ففي حفل عرس سمية وغنّت عندما رأته:

أهويه هويه

 

عثمان لو وقف زَيّن بني عمه

ذباح روس الغنم لا عاش مَنْ ذمه

يا ريت مَنْ بغضته تعدم اهاليها

وتشعلب النار جوه علاليها.

ويتابع وعندما نجحت في التوجيهية جاءت ام محمد مسرعة تحمل على رأسها وعاء دائريا مسطحا مصنوعا من القش الملون, مليئا بكمية كبيرة من الحامض حلو ومن ملبس قظامة, وما ان فتح شقيقي لها باب الحوش حتى اطلقت للسانها العنان بالزغاريد, وغنّت:

يا ها الطالب مرْ في ايده جريده

عثمان ناجح وهنته الكتيبة

حُطَّوا بريزه ع بريزه

يا عثمان ناجح في الانجليزي.

وغنّت في مناسبة اخرى لابن الجيران الصغير اسامة, ابن الشهور الثلاثة - اصبح الآن في الاربعين - بمناسبة ختانه, فقد اسرعت الى بيت الجيران كعهدها دائما, واخذت تزغرد وتغني:

طَهْرُه يا مْطَهِّر ناولو لامه

يا دمعة عين الولد بللت كمه

طهْرُه يا مْطَهِّر ناولو لابوه

يا دمعة عين الولد بللت ثوبه

طَهْرُه يا مْطَهِّر تحت ظل التين

يا دمعة الولد بللت المنديل

طَهْرُه يا مْطَهِّر تحت ظل الخوخ

يا دمعة الولد بللت الجوخ.

وغَنَّتْ لماّ اضاف الجار ابو علي غرفتين الى الحجرتين اللتين كانتا تأويان افراد اسرته الثلاثة عشر بعد ما تزوج ابنه البكر علي, فقالت

يا ابو علي ابني السور وعليّ السور ابني علالي ومن فوق العلالي قصور نظرك علينا وخلي اللي يقول يقول

ويوم صبّ ابو كريم عقدة - سقف المنزل - الطابق الثاني في منزله, غنت تقول:

الله يجيرك يا ابو كريم

ما حدا سوّى اللي سواه

باني جوز العلالي

والورد مفّتح في جواه

الله يجيرك يا ابو كريم

ما حدا عمل اللي عمله

باني جوز العلالي

والورد مفّتح في ظله

 

كتاب غينتس

من وحي ما جادت به قريحة عثمان ابن عمان, تعلقت انظار صديق وصلته نصوص عثمان, بدرجات احد ادراج حي المهاجرين الصاعد الى شارع خرفان, واخذ يسأل نفسه:

هل يمكن ان تكون لعمان صفة اخرى غير صفاتها الكثيرة, كأن يطلق عليها عمان مدينة الادراج?

ويستدرك متسائلا:

- هل يمكن إدْراج اسم عمان في كتاب غينتس بوصفها المدينة صاحبة اكثر عدد من الادراج والدرجات العامة في العالم?

ويتابع التفكير وهو يتجول بالقرب من احد ادراج شارع المصدار يحدث نفسه الا تحتفظ درجات الادراج بأنات الذين جلسوا عليها متوجعين او تعبين, ألا تخبئ ابتسامات فرحين جلسوا عليها متنادمين, الا تتذكر شجرة اللبلاب الصامدة هناك - يشير اليها - بكلمات قالها يوما لمحبوبته? اليس المكان كائن حي ينبض يفرح لفرح  الناس فيه, يتوجع لاوجاعهم, فلادراج عمان حكايا تستحق التوثيق, والا فانها تندثر وتموت.

الادراج التراثية

امانة عمان الكبرى بوصفها الجهة المعنية بعمان وادراجها وكل اشيائها, اخذت تبدي اهتماما اكبر بمفردات المدينة القديمة, والادراج مفردة مهمة في عمان القديمة, فعمان الحديثة من دون ادراج عامة, فهي ممتدة على مناطق سهلية, ومع ان الباحث المهندس محمد رفيع لا يرى ان عمان يمكن ان تكون مدينة الادراج, لان عمان الحديثة اتسعت لتصبح بمساحة تساوي عشرات اضعاف عمان القديمة, الا ان سمات المدينة القديمة, بوصفها تحمل مكونات بدايات المدينة, تبقى سمات اساسية للمكان, وفقا لرئيس قسم التراث العمراني بدائرة الدراسات والتصميم المهندس المعماري فراس الربضي.

يقول ان اهتمام الامانة بتراث عمان جزء اصيل من مهامها, فمن دون ماض للمكان لا يمكن رسم رؤية للمستقبل, لذا فان التركيز على وسط البلد يأتي في ذات السياق, ففي المناطق الجديدة التي انضمت للعاصمة عام ,1987 وعام 2007 تتواضع اعداد المعالم التراثية, فباستثناء بعض بيوت الشركس في ناعور وصويلح ووادي السير وعدد قليل من بيوت حسبان والجيزة ومرج الحمام والمقابلين والقويسمة, التي يمكن اعتبارها بيوتا تراثية, ويتم التعامل معها باشتراطات خاصة, فان ما يمكن اطلاق وصف تراثي عليه من معالم عمان يتركز وسط البلد, وفي سفوح الجبال التي تطل على الوادي.

تعتبر المعالم تراثية اذا ما كانت منشأة بعد عام 1750 واما قبل هذا التاريخ فتعتبر اثارا, وذلك وفقا للتشريعات الخاصة بالآثار, ووفقا لهذا المنطق حسب الربضي فان ادراج عمان كافة تعد تراثية, ولكن ما اصابها من اضرار بفعل عوامل الزمن والطبيعة والناس دفعت القائمين على امانة عمان في فترات سابقة الى ترميمها بطريقة طمست معالمها التراثية. فالادراج التراثية مبنية من الحجر والطين واما الترميم فقد استخدم  الباطون الاسمنت, فالاسمنت لم يكن مستخدما في السابق, فقد استخدمه الاردنيون اول مرة لبناء احد مآذن المسجد الحسيني في الفترة الواقعة بين عامي 1924 و .1927

لماذا الادراج?

يقول الربضي ان طبيعة عمان الطبوغرافية بوصفها محاطة بالجبال فرضت على سكانها بناء الادراج للوصول الى سفوح وقمم الجبال, وظل هذا الامر ركنا رئيسيا لسكان عمان في الحقب التاريخية كافة. فحسب المعلومات التاريخية ظل احد الادراج الرومانية يربط المدرج الروماني بجبل القلعة الى بداية القرن الماضي, ولكن للاسف وفقا للربضي ايضا فقد ازاله الاهالي, واما الادراج المعاصرة فقد كانت قليلة قبل ثلاثينيات القرن الماضي, فالامتداد العمراني ظل مقتصرا على الوادي واطرافه القريبة, ولكن مع اختراع المضخات ووصول بعضها الى عمان وبدء سلطة المياه - باسمها آنذاك - ضخ المياه الى المنازل, اخذ الاهالي يصعدون الجبال يبنون على سفوحها بيوتا حديثة يسكنون فيها.

عدد الادراج كبير ولا تمتلك اية جهة احصاء دقيقا لها او لعدد درجاتها, ويقول الربضي انه فوجئ بعدد الادراج الكبير, فقد تم احصاء 26 درجا تطل على الوادي من سفح جبل عمان من جهة طلوع الحايك, على سبيل المثال.

Comunity Plan

يقول الربضي انه في اطار المخطط الشمولي لعمان توجد خطة يطلق عليها Comunity Plan وتعني الدخول في تفاصيل التفاصيل, ومع ان الاهتمام منصب الآن على الادراج التراثية وهي كثيرة ولم تكتمل صورتها بعد, الا ان الادراج الاخرى ذات اهمية ايضا, فكما تحمل الادراج التراثية قصصا وحكايات فللاخرى ايضا اشياؤها, والادراج تتمركز في جبل عمان, واللويبدة, ورأس العين, والجوفة, والتاج, والنصر, والاشرفية, والحسين, والوحدات, والنظيف وحي نزال.

وتحدث الربضي عن اهمية تطوير الادراج للحفاظ على قيمتها التراثية وعلى نسيجها العمراني والاجتماعي وقد اطلقت الامانة مؤخرا نشاطا فنيا خاصا بالادراج عبر قسم السياحة والاستثمار الذي بدأ يحيي احتفالات على عدد من الادراج خلال فصل الصيف ولكن الاهم من كل ذلك استخدام مواد خاصة عند ترميم الادراج التراثية للابقاء على معالمها كما هي من دون اضافة مواد لم تكن مستخدمة عند بنائها.

قصص الادراج

لكل درج قصة, كرر الربضي هذه الجملة مرات ومرات لتأكيد المعنى المقصود ويقول ان قصص الادراج جزء من كينونتها, وهي قصص الناس الذين استخدموها او اولئك الذيم سكنوا الى جوارها.

من الادراج المشهورة

درج الكلحة

درج الكلحة الذي يربط وسط البلد من اول شارع الملك حسين - السلط - بجبل اللويبدة ظل يحمل اسماء مختلفة الى اربعينيات القرن الماضي والاعتقاد الراسخ لدى شريحة واسعة من العمانيين انه اكتسب اسمه الكلحة نسبة الى مطعم الكلحة الذي ظل يجاور آخر درجة من درجاته لغاية تسعينيات القرن الماضي ولكن هذا غير دقيق وفقا للربضي فالدرج اكتسب الاسم بعد ان سكنت اكثر من اسرة من عائلة الكلحة" في البيوت المنتشرة على جانبي الدرج, واصبح مختار الحي من نفس العائلة, فأخذ الناس يستخدمون اسم المختار الكلحة للإشارة الى المكان, ومع الوقت اصبح اسمه درج الكلحة.

درج الاستقلال والسينما الصيفية

هو الدرج الذي يقع في بداية شارع الامير محمد, مقابل البريد المركزي, واكتسب هذا الاسم لإن مكتبة الاستقلال - الفرع القديم - تجاور آخر درجاته, وهو من الادراج كثيرة الاستخدام, ويبدو انه اكتسب هذا الاسم بعد عام ,1946 اي بعد عام انتهاء الانتداب البريطاني على الاردن, ولكنه كان موجوداً قبل ذلك, وليس هناك توثيق يوضح الاسم الذي كان يحمله, ولكنه اكتسب شهرة واسعة في ثلاثينيات القرن الماضي وفقا للمعلومات المتواترة كما يقول الربضي, لأنه كان يقع مقابل دار لـ سينما صيفية مكشوفة اقيمت في المكان, وكان الفقراء من الذين كانوا يؤمون عمان من القرى والأرياف يستخدمون درجات درج الاستقلال لمشاهدة الافلام التي كانت دار السينما تعرضها من دون ان يدفعوا ثمنا لتذاكر دخول السينما.

درج منكو

درج منكو الذي يصل شارع بسمان بسوق منكو, وهذه السوق هي اول سوق تنشأ في عمان عام ,1926 وهو مبني من الحجر, ولم تطرأ عليه تغييرات جوهرية, ولانه يقع وسط السوق, فان قصصه مرتبطة بالتجارة والتجار فقط.

درج المحكمة الشرعية

درج المحكمة الشرعية هو الذي يصل شارع بسمان بالشارع العلوي الموازي له, ودرجات هدا الدرج تحتفظ بقصص وحكايات الاف العرسان ممن صعوده للوصول الى المحكمة الشرعية لعقد قرانهم, وهو درج تراثي.

درج حتر

لا زال درج حتر يحتفظ بقصة الاسرة من عائلة حتر, التي كانت تسكن عند آخر درجاته, ولكنها غادرت المكان منذ سنين طوال, ولكن الاسم ظل ملتصقا بالدرج, ويقع هذا الدرج بمحاذاة كنيسة دير اللاتين الواقعة في اول طلوع المصدار, وهو من الادراج التراثية الجميلة.

الخلاصة

ادراج عمان هي ببلوجرافيا الحجر الذي صنعت منه, والاشجار التي زرعت بجوارها, وحكايات البشر الذين سكنوا على ضفافها, فللادراج ضفاف كما للبحر والنهر, ولان الامر جد مهم, فان امانة عمان كما يؤكد الربضي لن تألو جهدا للمحافظة على تراث عمان في بيوتها وادراجها ومعالمها الاخرى, والـ Community plan سيحكي قصص الادراج كافة.

يعتقد البعض ان عمان مدينة الادراج, باعدادها واعداد درجاتها تتفرد في العالم, بوصفها اكثر مدينة فيها ادراج عامة بالمئات, ودرجات بعشرات آلالاف, فهل يمكن ان يضم كتاب غينتس يوما اسم عمان بوصفها مدينة الادراج?